تنمية بشرية

الفلسفة السياسية والعنف واللاعنف

السلطة بصفتها الأداة الضرورية لتحقيق القيم في المجتمع , وتنفيذها على الواقع بصفتها هى المعبرة عن الفلسفة السياسية والاجتماعية هذا يجعل  صفة العنف في أغلب الأحيان مرتبطة بالسلطة ،. والعنف بذاته يهدد وجودها واستمراريتها في ذات الوقت.

فما حقيقة العنف؟ هل هو ملازم للسلطة والعمل السياسي ؟ أم هو دخيل على عمل السلطة ومناقض لها؟ وما مدى  التلازم  بين العنف والسياسة؟

بالرجوع إلى بدايات تشكل الفكر السياسي الإغريقي واليوناني ومروراً بالعصور الوسطى والحديثة نجد أن هذا المفهوم تطور من الحالة المطلقة إلى نسبية الوجود ثم التشاركية في الأداء لاستقرار المجتمع ، فعند أفلاطون تقترن الديمقراطية بفوضى القيم والمعتقدات وانعدام الانسجام لأنها نظام يرتكز على “سلطة الدهماء” وخطاب الديماغوجية ، فالسياسة لا تقاس بالقوة أو بالأسلحة والحصون, بل تقاس بمدى تمسكها بالحكمة والفضيلة.

 إن غاية الدولة تكمن في إسعاد الناس لا في الدفع بهم إلى القتل والحرب، والدولة الفاضلة تتحقق فيها المثل العليا,

والسياسة الحق هي التي تتميز بالمساواة والانسجام الفردي والجماعي والوحدة والتضامن, وتغيب فيها جميع مظاهر العنف والصراع.

فذهب أرسطو إلى إن الغاية الطبيعية المرتبطة بوجود الإنسان هي تحقيق الفضيلة, وتفق مع أفلاطون حول الطغيان حيث اعتبراه “عنفا خالصا” لأن هدف الطاغي هو إخضاع الناس واستعبادهم بغية تحقيق مصالح خاصة فالغاية الأسمى للسياسة هي إسعاد الناس بتحقيق الانسجام بينهم, وإبعاد مظاهر الصراع والعنف.

واعتبر الفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة أن الغلبة والقهر هما من خاصيات المدينة الضالة, التي يكون أهلها قاهرين لغيرهم,عكس السياسة التي تهدف إلى إسعاد الإنسان. ورئيس المدينة يجب أن يكون محبا للعدل وأهله ومبغضا للجور والظلم وأهله بطبعه.

ترى حنا أراندت أن العنف يتعارض جوهريا مع السياسة بل يقصيها والعنف يرتبط بأفعال غير سياسية ، والسلطة والعنف يتعارضان فحين يحكم أحدهما حكما مطلقا يكون الآخر غائبا، ويظهر العنف لما تكون السلطة مهددة ، سينتهي الأمر باختفاء السلطة”، وبغياب الحرية

يصبح العنف مضاد للسلطة لأن الحرية تعني “القدرة على الفعل والتأثير .

أما هانس كلسن فأنه يرى أن العنف لا يرتبط بالضرورة بالعمل السياسي بل يخضع لضوابط قانونية في غاية التحديد والدقة.

ويرى مكيافلي إن الدولة تنظيم سياسي يتحكم في العنف الذي تمارسه السلطة على الشعب في إطار إقليمي محدد.

و باريتو أثناء حديثه عن ودور النخب يبين أن القوة والعنف يمثلان ظاهرتان طبيعيتان عند الموجودات الحية, حيث اعتبر أن النخب السياسية تمثل العامل المحرك للتاريخ, فالسياسة إذا هي صراع دائم حول القيادة والزعامة. إن التاريخ في مساره الطويل يدل على تعاقب لا متناه لنخب متعددة على الحكم وهذا يفسر حالة العنف من اجل السلطة ودوره في القضاء عليها .

ويرى كارل سميت في كتابه مفهوم السياسة أن كل نظام قانوني يخضع في البدء لإرادة سياسية ولقرار سياسي وبالتالي يتعين تحليل هذا القرار لمعرفة طبيعة النظام القانوني ومدى شرعيته والمخالف لهذه الإرادة هوعنف.

ويرى ميشال فوكو أن العنف متواجد في عدة مستويات وله مظاهر مختلفة, وكثيرا ما يرتبط بالسلطة وبالسياسة وهدفه  تطويع الأجساد وتذويب العقول والقضاء بصفة نهائية على كل روح نقدية .

أما ماركس يرى أن العنف هو إفراز تاريخي نتج عن تعارض المصالح لما ظهرت الملكية الفردية. ويربط إنجلز بين الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وظهور الأسرة والسلطة والعنف، فالعنف لا يمثل أحد المكونات الطبيعية للسلطة بل هو ناتج عن الواقع الاجتماعي ، والدولة والعنف قابلان للتغير وللاختفاء في ظروف تاريخية محددة.

يقول فرانز فانون في كتابه المعذبون في الأرض إن الدولة الكلونيالية تخفي إنسانية الإنسان المقهور والمستعمر وتلجأ إلى شتى الوسائل لإهانته واستعباده وبالتالي فلا يمكن القضاء على هذه الدولة إلا عن طريق العنف. إن الوسيلة الوحيدة التي تبقى لدى الإنسان المستعبد لاسترجاع ذاته وحريته هي العنف على اعتبار أن هناك عنفا ظالما, عنف الطبقات والأمم السائدة, وعنفا عادلا للطبقات والأمم المستضعفة.

أما في الإسلام فالعنف حالة خارجة عن مفهوم السياسة أو السلطة الحكيمة بل هى معرقلة للحكم الرشيد الذي يعتمد الشورى في إدارة الدولة وتنفيذ سياستها وكذلك تطبيق القوانين والأنظمة والمعبر عن هذه السياسة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وصورة ذلك الحديث الشريف ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ” إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَحْكُمُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِ أَخِيهِ فَلا يَأْخُذَنَّهُ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ .)

وهذا ما اكده المهاتما غاندي صاحب المقاومة اللاعنفية السلمية عندما وصف نجاح منهج الرسالة الاسلامية ودور الرسول بها بقوله (أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر ,لقد أصبحت مقتنعا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها إكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذالك من خلال بساطة الرسول مع دقته وصدقه في الوعود وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته ,هذه الصفات هي التي مهدت الطريق. وتخطت المصاعب وليس السيف ) .

وبالتالي فإن العنف في تجربة الإسلام السياسي، تشكل وتبلور في سياق الصراع المحموم الذي كانت تعيشه بعض الجماعات مع حكوماتها وأنظمتها السياسية ، وانسداد أفق الحلول والمعالجات السياسية، هو الذي عجل بتبني الخيار العنفي. وستبقى الحلول السياسية المعتدلة هي القادرة على وأد كل نزعات العنف في الفضاء الاجتماعي والسياسي .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى