أوراق لا تسقط !
إنها صورة المسلم النافع لنفسه المصلح لمجتمعه وأمته ، المعطاء دائما ، الباذل جهده وعرقه لأجل الآخرين ، الكريم السخي , الجواد بكل ما يملك لأي محتاج أو ملهوف ، لا ينقطع عطاؤه , ولا يفتر عمله , ولا ينتهي الخير الذي يبثه في كل مكان حل به .
إنها صورة أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضعها نموذجا يُحتذى , وصورة تُقتدى للمؤمن الذي خلص إيمانه لربه , ونقي صدره لدينه , وأحبت نفسه إخوانه ..
يقول النبي صلى الله عليه وسلم ” إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم ” أخرجه البخاري .
إن المؤمن في عين النبي صلى الله عليه وسلم إذن ينتمي إلى أصول ثابتة , ومبادئ راسخة تمثل تلك العقيدة النقية البيضاء التي يبني عليها حياته , فهي أشبه بجذور تلك الشجرة القوية المتينة , وشخصيته الفاعلة الإيجابية أشبه بساقها الممتد الفارع , الذي يعبر عن الرفعة والسمو , والكبرياء والاستغناء عن كل الخلق , مع الافتقار الكامل للخالق سبحانه وتعالى , وآثاره في المجتمع أشبه بتلك الأوراق التي لا تسقط مهما تغيرت الفصول , واشتدت الصعاب واختلفت الأجواء , فظلها وارف , وخضارها زاهٍ , وثمرها عطاء لا ينضب .
لقد علم النبي صلى الله عليه وسلم إن تلك الشجرة التي يتحدث عنها ( وهي النخلة كما في صحيح البخاري وغيره ) لا يسقط ورقها طوال العام , ولا ينعدم ظلها , ولا ينقطع من البيوت على مر الأيام ثمرها , وأنها كالمسلم , تصدر منه العلوم والخيرات , قوت مستطاب للأرواح ينتفع بعلمه وصلاحه وآثاره حياً وميتاً ..
وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم ” إن مثل المؤمن كمثل شجرة لا تسقط لها أنملة ولا تسقط لمؤمن دعوة ” .. وفي رواية :” شجرة مثلها مثل المؤمن أصلها ثابت وفرعها في السماء ” . وفي رواية للبزار إسنادها صحيح ” مثل المؤمن مثل النخلة ما آتاك منها نفعك “
فمن أين إذن جاءتنا تلك المفاهيم التي صبغت حياتنا اليوم بصبغة النفع الذاتي , والمصلحة الشخصية , ؟ ومن أين جاءتنا مفاهيم الصراع على التافه الفاني ؟ ومفاهيم البخل والحرص والنفعية والمنع ؟ ومن أين انتشرت بيننا أخلاقيات الحسد وصفات الحقد وألوان المكر والرغبة في جمع فتات مهما كان الثمن ؟!
بل تساءل معي من أين جاءتنا أفكار القياس الفاسد بعيدا عن قواعد الشرع واستنباطات العلماء ليغلب الجهل على العمل وتخبو البصيرة من الأفكار , ويعجب كل ذي رأي برأيه , فلا يكون ثَم إلا الضرر لدعوتنا ومجتمعاتنا ومستقبل أمتنا ؟!
ومن أين وصلت إلينا استباحات القعود بينما أبناؤنا ينزفون الدم , واستطابة العيش بينما أخواتنا يسلبون العرض , والتنعم بالحياة بينما إخوة في الدين لايجدون ملجأ أو ظلا ؟ .. فربطنا على الأموال فلم تخرج رعاية لهم وانشغلنا بذواتنا غافلين عن حمل همهم !
إن زائراً من تلك الصحبة الكريمة – الذين كانوا يجلسون حوله صلى الله عليه وسلم بينما يعلمهم هذا الحديث – ليستغرب وتصيبه الفجيعة إذا علم أن أمة الإسلام صار العطاء بين أبنائها ندره , وصار النفع المتبادل بين جماعاتها غائباً , وأن الشغل الشاغل لغالب أفرداها شيوخاً كانوا أو شباباً صار هو جمع الحطام !
إن الرواية في صحيح البخاري لتروي أن عمر بن الخطاب وابنه الصبي الصغير عبد الله بن عمر كانا جالسين في تلك الحلقة بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ذاك الحديث فيسأل الحضور ويختبرهم عن أي شجرة تلك التي تشبه المسلم ؟! فيسكت الجميع , ويقع الناس في شجر البوادي , ويهمس الصبي الصغير عبد الله في أذن أبيه ابن الخطاب بينما هم عائدون قائلا : ” وقع في نفسي يا أبت أنها النخلة وعلمت أنها هي , فقال عمر : وما منعك ياعبد الله أن تجيب ؟! قال يا أبت نظرت إليكم فإذا أنا عاشر عشرة أنا أصغركم فاستحييت , فقال عمر : لئن كنت قد أجبت كان أحب إلى من حمر النعم .
لقد أدرك عمر كم هي السعادة الغامرة التي ينبغي أن تقر في قلب الوالد والمربي بينما يعي ابنه الدرس , ويفهم المثال , ويدرك المعني , فتنبني عنده القيم والمبادئ , فتسمو روحه , وتستقيم جوارحه عليها , وأن ذلك عنده أحب إليه من مال مجموع , ومن حمر النعم – التي هي من أعظم الأموال وأنفسها –
إن المؤمن الحق نافع أينما حل , معطاء بماله وجهده ونفسه في سبيل غاية إيمانية عليا هي رضا ربه سبحانه والفوز بجنته , فالصدقة للفقير والمحتاج طهرة دائمة لماله , والنفع لإخوانه وأبناء أمته قسم لا يتجزأ من يومه الذي يمر به , والإصلاح والدعم لمجتمعه مبدأ متقدم من مبادئه الحضارية الإسلامية , وكل هذا لا ينقطع في لحظة من لحظات حياته لسبب اختياري , بل حياته كلها كأنها وقف لذلك النموذج النافع الصالح .
إن أوراقنا الذابلة والمتساقطة في كل وقت وحين , حتماً لا تنتمي لهذه الشجرة الباسقة , ولا تتشرب من ذاك النبع العذب الشفاف , ولا ترتبط بذاك الساق الباسق المتين , إنها أوراق غريبة على مجتمعاتنا , استقت قيما غير قيمنا , وتشربت من نبع قد تلوث بلوثة حب الدنيا والصراع عليها , فلم ينبت لها ثمر , ولم تنفع غيرها , أو تحرص على العطاء لهم , فكان عاقبتها أن جف نبعها الملوث , ونحل ساقها الضعيف , وذبل خضارها المقنع , فسقطت مع أول هزة ريح , وماتت مع أول تغير في الفصول .
إن منهاجاً حضارياً تكافلياً تضعه تلك الكلمات لكل مسلم أراد أن يترك بصماته الصالحة على وجه الحياة , تعاون وتكاتف , وتعاضد وبناء , وإصلاح وتقويم , وعطاء بلا حدود .