إلى المقبلين على التقاعد
المقبلين التقاعد
يا من شارفت على بلوغ الخمسين أو أوشكت أن تدلف إلى الستين، أكتب إليك هذه الرسالة متضمنة عدداً من الوقفات الإيمانية والمقترحات العملية التي قد تحتاج إليها في المرحلة المقبلة من عمرك وهي التقاعد الوظيفي، سواء المبكر منه أو المعتاد.
أكتب إليك وأنت قد تجاوزت مرحلتين من عمرك وتعيش الثالثة ومقبل على الرابعة, تجاوزت مرحلة الطفولة والدراسة وتعيش الآن مرحلة الوظيفة ومقبل على مرحلة التقاعد, وهي أهمها، لأنها هي المرحلة التي لم تعشها بعد، ويمكنك أن تخطط لها كما تشاء وتعمرها بما تشاء, أما ما مضى من مراحل فقد ولَّى وراح فلا تستطيع أن تعيده ولا أن تفعل فيه شيئاً.
كما أن مرحلة التقاعد أهم المراحل لك الآن، لأن الأعمال بالخواتيم، فيمكنك أن تزرعها بالرياحين إن كنت زرعت ما قبلها بالأشواك، ويمكنك أن تملأها بالذكر الحسن إن كنت قد ملأت ما قبلها بضده، ويمكنك أن تصحح علاقتك بربك الكريم إن كانت علاقتك به على غير صراطه المستقيم.
فبعد حياة الكد والكدح وهموم العمل تأتي مرحلة التقاعد؛ مرحلة الطمأنينة والسكينة والتفكر والتدبر, وحري بمن أدرك مرحلة هذه صفاتها أن يرى الأشياء على حقيقتها؛ فلا يخطو خطوة إلا وهو يعلم موضع قدمه, ولا يمشي في طريق إلا وهو يلمح نهايته السعيدة, ولا يقدم على فعل إلا وهو يسمو إلى ثمرته اليانعة.
والآن بعد الإشارة إلى أهمية مرحلة التقاعد يأتي الحديث عن الوقفات الإيمانية والمقترحات العملية التي أرجو أن تفيدك في الطريق.
– لاشك أنك ستفقد بسبب التقاعد جزءاً من المال، لكنك ستكسب ما هو أغلى منه, ألا وهو الوقت، فالناس كلهم يبذلون الأموال ليكسبوا الأوقات فيملئوها بما يحبون.فاعتبر ما تفقد من مال ثمناً للوقت النفيس الذي سيتاح لك لتعمره بكل خير كنت تـتمنى أن تفعله وتداوم عليه.
– لقد امتن الله الكريم عليك بهذا التقاعد..فكلنا مسافرون إلى الله عز وجل نرجو ما عنده, ونسعى لنيل فضله تعالى, وفي طريق سفرنا نعاني ونكابد تعب السفر ومشقته وهي مشاغل الدنيا وهمومها, فمنَّا من إذا رأى قرب وصوله إلى الله تعالى طرح المشاغل خلفه وألقى الأثقال عن ظهره, وأقبل يحث الخطى ويجد المسير وحادي الشوق إلى الله سبحانه يدعوه, فلم يعد شيء يشغله في مسيره, وليس ثمَّ ما يؤخره في طريقه, فقلبه متعلق بربه, ولسانه رطب بذكره, وجوارحه عاملة لأجله.فقل لي بربك: كيف يكون قدومه على ربه ومولاه؟ وكيف يكون فرح الله به عند لقياه؟ فبالله عليك..هل يستوي حال هذا الرجل وحال من اقترب قدومه على ربه وهو غارق في أعماله, لاهٍ بهمومه وأشغاله ..لا يستوون عند الله..فتأمل نعمة الله عليك ولطفه بك إذ قرَّب لك التقاعد (ذلك فضل الله يُـؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم).إذا كان الأمر كذلك..فالله الله في وقتك فإنه عمرُك, والأرضُ التي تغرس فيها غرسك.
– أمرك الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم باغتنام خمس قبل أن تمنعك خمس, وذكر منها (وفراغك قبل شغلك), فكيف إذا كان الأمر بالعكس بالنسبة إليك, فقد كنت مشغولاً ثم فرغت؟ أما وقد فرغت فعليك بما أوصاك به ربك بقوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب, وإلى ربك فارغب). قال ابن كثير: “أي إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة وقم إليها نشيطًا فارغ البال وأخلص لربك النية والرغبة”.
– لقد أكرمك ربك ومولاك بأن أمدَّ في عمرك فأحسن العمل لتكون من خير الناس, فقد سأل رجلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: من خير الناس؟ قال: (من طال عمره وحسن عمله) رواه أحمد والترمذي.قال الطيبي رحمه الله: “إن الأوقات والساعات كرأس المال للتاجر فينبغي أن يتجر فيما يربح فيه، وكلما كان رأس ماله كثيراً كان الربح أكثر, فمن انتفع من عمره بأن حسن عمله فقد فاز وأفلح, ومن أضاع رأس ماله لم يربح وخسر خسراناً مبيناً”.
– إن كنت شارفت على الستين فتأمل هذا الحديث وشرحه.عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة) رواه البخاري.قال ابن حجر: “والمعنى أنه لم يبق له اعتذار كأن يقول لو مد لي في الأجل لفعلت ما أمرت به, يقال أعذر إليه إذا بلغه أقصى الغاية في العذر ومكنه منه.وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية”.وقال ابن بطال: “إنما كانت الستون حدًّا لهذا لأنها قريبة من المعترك وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية، فهذا إعذار بعد إعذار لطفاً من الله بعباده حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم, ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة، وإن كانوا فطروا على حب الدنيا وطول الأمل لكنهم أمروا بمجاهدة النفس في ذلك ليتمثلوا ما أمروا به من الطاعة وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية.وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل.وأصرح من ذلك ما أخرجه الترمذي بسند حسن إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رفعه (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين , وأقلهم من يجوز ذلك)”.
– اجعل أنيسك الله تبارك وتعالى..تخلو به وتـناجيه وتدعوه وتـتفكر في آلائه وإنعامه.وليكن جليسك القرآن العظيم فإنه نعم الجليس..تـتلو آياته, وتـتدبر كلماته, فهو كلام مولاك يخاطبك به ويدلك على طريق جنته بواسطته.واجعل بيت الله بيتك..فإنك لا تزال فيه في صلاة ما انتظرت الصلاة, ففيه تغشاك الرحمة, وتــتـنزل عليك الملائكة لتدعو وتستغفر لك.فكم من فضل تناله وكم من خير تصيبه وأنت فيه.فإن فعلت ذلك..فستفيض عليك المكرمات الإلهية, وتغمرك الرحمات الربانية..فجُد منها على أهلك وعلى من حولك بأسلوب رقيق وقلب رحيم.
– لا تنس وصل من أمرك الله بوصله؛ الوالدين والأرحام..فبوصلهم يُـبارك لك في وقتك, ويُـزاد لك في رزقك، وضع لك مواعيد محددة لزياراتهم حتى لا يطول غيابك عنهم ولا يُشغلك شغل عنهم.
– اضرب لك في كل باب من أبواب الخير بسهم..فتارة تصوم, وتارة تتصدق, ومرة تدعو غافلاً, وحيناً تدعم مجاهداً, ومرة تطعم الطعام, ودائما وأبداً تصلي بالليل والناس نيام.
– فتش دائماً في قلبك, وقلِّبه حتى لا يتسرب إليه – وأنت لا تشعر – مرض من أمراضه المهلكة، كالعجب والحسد والكبر وسوء الظن..وأمطر قلبك واسقه بوابل من محبة الله والتوكل عليه وتعظيمه وحسن الظن به وسائر أعمال القلوب الحميدة.
– لئن ضعف بدنك فلقد قوي عقلك, ولئن رق عظمك فلقد زاد فهمك, ولئن لاح الشيب في رأسك فلقد ظهرت الحكمة في رأيك..فلا تظن أن التقاعد دعوة إلى القعود وركون إلى الخلود؛ بل هو توقف عن العمل الرسمي فقط وليس توقفاً عن العمل الرباني, والإنسان مكلف ما بقيت فيه عين تطرف وعقل يميز.وتأمل حال الصحابة رضوان الله عليهم عـند كبرهم وضعف قواهم تجدهم لم يتوقفوا عن الاستزادة من أبواب البر حتى لو كانت شاقة عليهم.لما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غزوة أحد بقي اليمان بن جابر وثابت بن وقش في المدينة، وكانا شيخين كبيرين لا يقويان على القتال, فقال أحدهما لصاحبه: لا أبا لك ! ماذا ننتظر؟ فوالله ما بقي لواحد منا من عمره إلا ظِمءُ حمار (أي وقت يسير), ألا نأخذ أسيافنا فنلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلحقا بالجيش وقُتلا هنالك.فإذا كانت هذه أحوال الصحابة عند كبرهم مع الجهاد وما فيه من المشقة والمخاطر فكيف بحال المتقاعد مع الطاعات التي هي أقل بكثير من مشقة الجهاد وأخطاره.
– إن استطعت أن تكون من خيار أهل الإسلام فلا تـتردد, وذلك بتعليمك القرآن الكريم للمسلمين في أحد المساجد القريبة منك، وبخاصة شريحة طلاب الجامعة والموظفين, فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رواه البخاري, وقد استجاب الإمام أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله لهذا الحديث فمكث في مسجد الكوفة أربعين سنة يعلِّم القرآن, وكان إذا روى هذا الحديث يقول: ذلك الذي أقعدني مقعدي هذا.وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أميراً للبصرة ومع ذلك بقي يعلم الناس القرآن في مسجدها رغم كثرة مشاغل الإمارة.قال الحافظ ابن حجر: (والدعاء إلى الله تعالى يقع بأمور شتى, من جملتها تعليم القرآن, وهو أشرف الجميع).وقال ابن كثير: شأن الأخيار الأبرار أن يتكملوا في أنفسهم، وأن يسعوا في تكميل غيرهم.
– اعرض علمك وخبراتك على الجهات الخيرية, فهي في أشد الحاجة إليك وإلى أمثالك, وهي من أبرز الوسائل لتقدم من خلالها صدقة جارية تبقى لك إلى يوم الجزاء والحساب, فربَّ رأي أو فكرة أو جهد تقدمه لمؤسسة خيرية ينتفع بها خلق كثير نفعًا يدوم ولا ينقطع, قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “إني لأمقت الرجل أن أراه فارغًا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة”.كما أن استمرار عملك بعد سن التقاعد له أثر إيجابي على صحتك وراحتك النفسية, فقد ذكرت دراسة للرابطة النفسية الأمريكية أن “الأفراد الذين يعملون بعد بلوغ سن التقاعد في مهن مؤقتة أو وظائف تتطلب العمل بدوام جزئي يعانون بدرجة أقل من المشكلات الصحية, ويتمتعون بحيوية أكبر مقارنة بالمتقاعدين الآخرين”.
– ليكن لك دور فاعل مع أقاربك وجيرانك, فساهم – إن استطعت – في تنظيم لقاءات دورية لهم لتزيد من أواصر الصلة بينهم, وشارك في حل الخلافات الأسرية أو الزوجية التي عندهم لتـنال بإذن الله درجةً أفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة النافلة.قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة, فقال أبو الدرداء: قلنا بلى يا رسول الله, قال: إصلاح ذات البين) رواه أبو داود.قال الإمام الأوزاعي: ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين.
– اجعل للقراءة المفيدة حظاً من وقتك؛ فكلما زادت حصيلة الإنسان العلمية والثقافية زادت قدراته الذهنية وبَعُد نظره وقويت حكمته, فالقراءة ترفع المرء إلى طبقة المثقفين في المجتمع الذين يعدون أبرز حملة لواء التطوير.
– لديك مخزون ضخم من تجارب الحياة وعـندك رصيد كبير من الخبرات, فجرب أن تنفع المجتمع بها بالكتابة في المجالات التي تـتقنها وتميل إليها, قد تصعب عليك البداية لكن الإصرار وتطوير الذات في فن الكتابة سيدفعانك – بإذن الله – إلى أن يصبح قلمك مؤثراً.ومما يشجع على ذلك أن تبدأ بالكتابة في المنتديات ومواقع الإنترنت التي لا تشترط معايير عالية للمقالات, بل ولا حتى الأسماء الصريحة للكتاب, وعندما ينضج قلمك تنقله إلى أماكن النشر الأكثر تأثيراً.
– يعاني كثير من الأبناء والبنات من ضعف تواصل آبائهم معهم طوال سنوات عملهم, مما ترتب عليه جفوة في العلاقات وقصور في تحقيق الإشباع النفسي والعاطفي, وفي التقاعد فرصة ثمينة لردم الهوة بين الآباء وأولادهم, والتقرب إليهم ومشاركتهم في همومهم وأفراحهم.ومن جهة أخرى فقد يكون التقاعد وبالاً على الزوجة والأولاد إذا أصبح الأب – بسبب فراغه – يتابع وينتقد كل شاردة وواردة في البيت؛ فيزيد أهله رهقاً حتى يتمنوا أنه لم يتقاعد, والواجب غض الطرف والتغافل عن الأحداث الصغيرة في البيت.
ختامًا أخي الكريم, فمن المؤكد أن لديك الكثير من الأعمال والمشاريع التي تنوي القيام بها عند تقاعدك, ولا يخفى على كريم علمكم أن الأعمال إذا تزاحمت فإن الأولى بالعناية والتنفيذ ما عظم أجره وبقي أثره (والآخرة خير وأبقى).