يام المدرسة، كانت طريقة “املأ الفراغ” واحدة من أفضل طرق التعليم وأسهلها في مساعدتنا على الحفظ. كان المعلم يدخل “الصف” أو الفصل ويكتب القصيدة على اللوح الأسود، ويقرأها على مسامعنا فنرددها وراءه عدة مرات؛ ثم يبدأ بحذف كلمة من كل بيت شعر، ويطلب منا أن نكرر القراءة متخيلين مكان ومعنى الكلمات المحذوفة، وهكذا .. وما أن ينتهي الدرس حتى يكون معظمنا قد حفظ القصيدة. وفي الامتحانات، كنا نتسلم الأسئلة ونفرح كثيرًا لسؤال “املأ الفراغ” نظرًا إلى سهولة الإجابة عليه.
هذه الأيام، تزخر وسائل الإعلام بأخبار السياسيين والرياضيين والاقتصاديين الذين يخالفون القوانين، وتمتلئ صفحات المال والأعمال بانتهاكات الشركات الكبرى للبيئة وباختلاسات كبار التنفيذيين الذين أعماهم الطمع وغلبهم الجشع. ولا تخلو صفحات التعليم من طلاب يغشون في الامتحانات أو يزورون الشهادات. ومن المؤكد أن هؤلاء الأفاقين والغشاشين يظنون أنهم ينجحون بأقل جهد وثمن وفي أقصر وقت؛ ولكنهم لا يدركون أن السلوك الأخلاقي هو الإستراتيجية الوحيدة الفعالة والفائزة في الحياة.
شاهدت أواخر الشهر الماضي حالة غش صارخة في أحد فنادق دبي. كنت على باب الفندق أنتظر مفتاح سيارتي بعدما ذهب الموظف لإحضارها من موقف السيارات. وأثناء الانتظار، وصلت سيارة “رينج روفر” أحدث موديل وترجلت عن صهوتها امرأة فارعة الطول وفائقة الجمال تبدو في العقد الخامس من عمرها، يوحي مظهرها بأنها سيدة أعمال ناجحة أو تنتمي لأسرة تجارية ثرية؛ فقد كانت تبدو وكأنها تمتلك كل شيء – السيارة الفارهة، والجمال الصارخ، والطول الفارع، والموبايل اللامع.
ألقت السيدة بمفاتيح سيارتها بكل ثقة، وهي منهمكة في مكالمة “موبايلية” أو هكذا تظاهرت، ودخلت الفندق من بابه الواسع. وبعد دقيقتين أو أقل، كنت أقود سيارتي ملتفًا حول الفندق في الشارع الخلفي في طريقي إلى اجتماع، فوجدت تلك السيدة تخرج من باب الفندق الضيق الخلفي، وتدخل مبنى حكوميًا عملاقًا، وكانت ما تزال منشغلة بمكالمتها الهاتفية، دون التفات أو اهتمام بأي كان.
كان واضحًا أنها تعتبر نفسها متميزة وذكية وهي تلعب مع الفندق تلك اللعبة اللاأخلاقية؛ فهي تأتي بكل ثقتها المصطنعة وبأهميتها المفتعلة وتوقف سيارتها في مكان ظليل آمن، ثم تذهب إلى عملها أو اجتماعاتها، موهمة القائمين على خدمة إيقاف السيارات أنها تدخل الفندق للعمل أو للترفيه، في حين أنها تستغل أو تسرق وقت الفندق وموارده وساحاته وتأخذ مكانًا ليس من حقها لمجرد أن سيارتها مميَزة، وجمالها أخاذ.
عدت مساءً إلى الفندق وتحدثت إلى المدير المناوب موضحًا ما ساورني من شكوك – لاسيما أنها كانت تتظاهر بالثقة بالنفس وتتصرف بثقة مصطنعة – لأن مبالغتها في مظهرها الخارجي وعدم التفاتها لأحد هي أعراض سلوك غير أخلاقي يتم تغليفه بالذكاء والدهاء والشطارة، وكأنه جزء أو نمط من أنماط حياتنا الزائفة والمشحونة بنفخة كذابة تدل على فراغ روحي مؤلم.
لكل منا نقاط ضعف ونقائص وثغرات سلوكية تهزنا من الداخل؛ وهي فجوات تمتد في تلك المسافة الفاصلة بين ما نقول وبين ما نفعل، كما أنها نتاج فراغ داخلي يعمق الفجوة بين معتقداتنا وبين تصرفاتنا. فهل هناك مصدر أو منفذ أو علاج يمكن أن يزيدنا نضجًا أو يردعنا ويحول بيننا وبين نقائصنا، كي نسد بعض الثغرات المؤلمة في دواخلنا؟!
هناك ثلاثة مصادر تتفاوت في قوتها ومستوى تأثيرها ألا وهي:
– أولاً القانون، وهو ملزم فعندما نخالفه نخضع للعقاب أو نُحرَم من الثواب. فعندما نتجاوز السرعة المقررة أو نكسر الإشارة الحمراء، فإننا نخالف القانون ونضع أنفسنا تحت طائلته، حتى وإن لم نؤذِ أحدًا غيرنا.
– ثانيًا العرف وقواعد السلوك، وهي تبدو في الظاهر أخف وطأة من القانون حيث يمكن أن نخالفها دون أن نخضع للعقاب؛ مع أن العكس هو الصحيح لأن هامش الحرية في الاختيار يُلقي على عاتقنا حملاً أكبر من المسؤولية، فيضيف إلى مخالفة القانون العام مخالفة قانوننا الخاص. فعندما يمنحنا المجتمع هامشًا أوسع من الحرية، فإنه يكبلنا بقيود المسؤولية.
– أما المصدر الثالث فهو لا يقبل القسمة على اثنين. فهو ليس قانونًا عامًا، ولا عرفًا اجتماعيًا؛ ويمكننا أن نخالفه و نلغيه دون أن يرانا أو يحاسبنا أحد، لكنه الأوفى والأصفى لأنه المسؤولية بعينها حيث إن هامش الاختيار فيه لانهائي، مما يجعل ملء الفراغ فيه أمرًا في غاية الصعوبة، كما تحتاج ثقوبه وندوبه إلى سنوات من الكفاح والإصلاح لكي تلتئم إنه الضمير.
لا يمكن لقانون البشر أن يعلو على قوانين الأخلاق؛ فسواء أكنت تركب “رينج روفر” أم “جامبو جت”، وسواء أكنت تتكلم من موبايل أكله الصدأ أم من موبايل مرصع بالجواهر، فإن النجاح في جوهره كان وسيظل تلك المحاولة الإنسانية الواعية والدءوبة للثم جراح الروح وفراغات الضمير، حتى تنعدم الفجوة بين ما نبدو عليه في الظاهر، وما يمكن أن نكون عليه في الداخل.