باسم الحرية والتعاون والتبادل والتطور وأهداف التوسع والترابط والتداخل والتكامل المزعوم، اندفع العالم (أو دُفع!) نحو اقتصاد السوق الحر؛ فازداد انفتاحًا، اتساعًا، اندماجًا، انشقاقًا، انبطاحًا! تاركًا للتكنولوجيا زمام القيادة والتوجيه والمراقبة والمتابعة والمُفاضلة والمقارنة بين اقتصاديات الدول، فتجاوزت التكنولوجيا دور الأداة إلى دور الفاعل المُحرك والمراقب المُقيّم.
انتقل العالم من مرحلة اقتصاد السوق المغلق إلى اقتصاد السوق الحر؛ لأن اقتصاد السوق المغلق يقوم على مبدأ الاكتفاء الذاتي ويتميز بعدم تطور وسائل الإنتاج وبالتالي ضعف الإنتاج، وهو السبب (المُعلن) الذي طالما تناولته المناهج التعليمية وقرأناه في تاريخ النظم الاقتصادية، مما دعا إلى الانفتاح بحجة تطوير وسائل الإنتاج.
تربع اقتصاد السوق الحر على عرش النظام الاقتصادي العالمي في حضرة العولمة، فالبعد الاقتصادي للعولمة لا يقل عن البعد السياسي، لأن الدول التي قضت عقودًا في إدارة اقتصاداتها وفق نظريات التخطيط المركزي وشمولية العملية الاقتصادية لم تتم إلا بتدخل قوي من الدولة – وقسر في بعض الأحيان – بهدف عولمة الاقتصاد، مما يعد مفارقة في أبجدية فكرة السوق الحر التي تنادي بضرورة إبعاد الدولة خارج الفضاء الاقتصادي، مُفسحةً الطريق أمام قوى السوق لتعمل بحرية وتُشكل أنماط التبادل الاقتصادي.
ليس هذا وحسب، بل فرضت الدولة نظام السوق الحر في مجتمعات لا تملك قطاعات خاصة، أو شركات أو بنى تحتية أو مشروعات وخطط متدرجة النمو، بحيث تستجيب لبيئة السوق الحر بموضوعية غير مُساقة بعوامل خارجة عن معطيات الاقتصاد، مما يتسبب في إحداث مشكلات وتشوهات واختلالات تكون هي النتيجة البديلة لاختلالات وتشوهات أنتجتها العقود الطويلة من الاعتماد على سياسات السوق المغلق والتخطيط المركزي للاقتصاد!
نظريًا، يفترض أنصار التحول إلى اقتصاد السوق أن “المجتمع المدني” أهم وليد في المجتمعات التي تنتقل من مرحلة التخطيط الشمولي إلى الرأسمالية، وأن أهم وظائف “المجتمع المدني” هي الدفاع عن أفكار السوق الحر وضمان انتقال سلس تصاحبه سياسات الدفاع عن الواقع الاقتصادي الجديد، والواقع السياسي المُعولم! – إن صح التعبير.
بقراءة الواقع، ورصد عمليات انتقال المجتمعات إلى نظام السوق الحر، نجد أن منظمات “المجتمع المدني” التي نشأت عقب غياب الحكومات الشمولية تبنت مواقف عدائية تجاه الرأسمالية، بسبب الآثار المباشرة والضارة التي انعكست على الشرائح الاجتماعية الفقيرة ومتوسطة الدخل، مما أحبط توقعات مُناصري اقتصاد السوق الحر، فتحول “المجتمع المدني” إلى حارس يدافع عن المجتمع ضد السوق الحر والعولمة بدلاً من مناصرتهما، ويتجلى ذلك في عدة دول مثل “روسيا” و”بولندا” ودول أوروبا الشرقية.
لكن هذا لا ينطبق على وضع منظماتنا العربية غير المهمومة بآثار وتبعات العولمة على العمال والفقراء والمصانع والموارد، فهذه المنظمات شأنها شأن الأحزاب السياسية والمثقفين المؤدلجين المعادين للعولمة بشكل عام، دون موقف مدني واضح تجاه حقوق الطبقتين المتوسطة والفقيرة، وبالتالي فإن دور هذه المنظمات لا ينعكس على المجتمع، بل فاقم الوضع، حيث أتاح المجال لسياسات التعولم الاعتباطي والعشوائي (من قبل النخب الحاكمة والأطراف الدولية المستفيدة) بتمرير الكثير من القرارات الانتقالية دون مراقبة مدنية تذكر.
فكيف استفاد عالمنا العربي من اقتصاد السوق الحر؟
هل استطاعت سياسات الانفتاح الاقتصادي أن تنقل دول العالم الثالث (المتأخرة) إلى دول العالم الأول (المتقدمة)؟! هل استطاعت قوانين السوق الحر أن تحقق الاستغلال الأمثل للموارد؟ فمصر مثلا، هي أكبر الدول العربية وأغناها بالموارد الطبيعية – تعاني سوء استغلال الثروات وسوء التوزيع وغياب الصناعات المحلية المنافسة، فقد انتهجت العولمة من طرف واحد، وفُتحت للعالم ولم تنفتح على العالم (حين صدرت القطن واستوردته مُصنعًا بأغلى الأثمان!).
ويعتبر التخلف التكنولوجي من أهم قضايا الاقتصادات العربية التي أدت إلى ازدياد نسبة البطالة وضعف التنوع الاقتصادي وانخفاض معدلات النمو وهجرة العقول وزيادة الديون. مع أن التبادل المعرفي وإدخال التكنولوجيا الحديثة كانت من أبرز أهداف الانفتاح الاقتصادي.
فهل استطاعت الأسواق العربية عقد اتفاقات شراكة والدخول في تحالفات حقيقية متكافئة، لا قسرية؟! أم دخلت في علاقات اقتصادية صورية تبرر بعض التبادلات الاقتصادية الاستنزافية باسم الاستثمار والتبادل التجاري؟!
ليست هناك إجابات واضحة على هذه التساؤلات، في حين تعتبر الأزمة المالية العالمية بداية احتضار بطيء للرأسمالية، أو مخاض ولادة متعسرة لنظام اقتصادي جديد. وفي كل الأحوال ، فقد آن أوان الاعتراف بنهاية عصر الرأسمالية بعدما أخلت بالمنظومة الاجتماعية والأخلاقية للبشرية وأعادت الملايين إلى عصور الاستعباد. فهل يبقى هذا الاعتراف قيد الإيقاف؟
هبة حجازي
مديرة التحرير