الأفكار طيور في سماء عقولنا
لا شك أن الشخص العبقري في كل مرة يحاول فيها القيام بشيء ما ويفشل في إنجازه، لابد أن ينتهي به الأمر إلي القيام بشيء آخر ربما يكون أقوي تأثيراً مما كان يبحث عنه، ورغم ما قد تبدو عليه هذه المقولة من بساطة، إلا أنها تشكل المبدأ الأساسي للمصادفة الإبداعية، فنحن قد نسأل أنفسنا عن السبب الذي أدي بنا إلي الفشل في القيام بما كان في نيتنا أن نفعله ـ وهذا أمر منطقي ومتوقع ـ إلا أن المصادفة الإبداعية تثير في عقل المبدع سؤالا مختلفاً: ماذا فعلنا، وما دلالة ما وجدناه بالصدفة؟
إن الإجابة عن هذا السؤال بطريقة جديدة وغير متوقعة تعد عملا إبداعيا أساسيا لا يقوم علي الحظ أو المصادفة، بل علي نفاذ البصيرة بالدرجة الأولي، فلم يكن «إليكساندر فليمنج» أول عالم يلاحظ العفن الذي تكون فوق مستنبت مكشوف، إلا أن أياً من العلماء لم يعتبر ذلك شيئا جديرا بالاهتمام، أما فليمنج فقد وجد فيما لاحظه «شيئا مثيراً للاهتمام» وتساءل إن كان يحمل أي احتمالات لاكتشاف شيء جديد؟ وقد قادت هذه الملاحظة «المثيرة للاهتمام» إلي اختراع «البنسلين» الذي أنقذ حياة ملايين الأشخاص.
أما «توماس إديسون» فقد كان يفكر في كيفية صنع فتيلة من الكربون، وبينما كان يعبث وهو شارد الذهن في قطعة معجون يديرها ويلفها بين أصابعه، نظر إلي يديه ولمعت فكرة في ذهنه: فقد لف الكربون مثل الحبل،
وأرسي «ب.ف.سكينر» مبادئ المنهجية العلمية الأولي التي تقول: عندما تجد شيئا مثيراً للاهتمام، دع كل شيء آخر وادرسه، فكثير من الناس يفشلون في الاستجابة للفرصة عندما تطرق بابهم لأنهم يكونون مضطرين للانتهاء من تنفيذ خطة ما متصورة مسبقاً، أما العباقرة والمبدعون فلا ينتظرون قدوم الصدفة، بل يسعون بفاعلية وراء الاكتشاف التصادفي أينما وجدوه.
وإذا كان هناك أسلوب معين في التفكير يميز العباقرة المبدعين، فهو القدرة علي إجراء عمليات أو وضع أشياء بجوار أخري (أو متجاورات) يستعصي علي سائر البشر فهمها وإدراك مغزاها، ويمكن أن نسميها القدرة علي وصل ما لا يكون متصلاً، وذلك عن طريق إيجاد علاقات تمكنك من رؤية أشياء لا يستطيع الآخرون رؤيتها، فقد أوجد ليوناردو دافينشي علاقة بين صوت الجرس وصوت حجر يصطدم بالماء، وكانت معرفة هذه العلاقة هي بداية التوصل إلي اكتشاف أن الصوت ينتقل علي شكل موجات،
وفي عام 1865 توصل «ف.أ.كيكول» بديهياً إلي شكل جزيء حلقة البنزين، وذلك بعد استيقاظه من النوم بعد أن حلم بثعبان يعض ذيله، أما صامويل موريس فقد وجد صعوبة في محاولة التوصل لكيفية إصدار إشارة قوية بدرجة تمكنها من الانتقال من ساحل إلي ساحل آخر، وفي يوم من الأيام شاهد عملية إبدال الجياد في محطة للإبدال في سباق خيل بالتتابع، وربط بين محطات إبدال الخيل والإشارات القوية، فالخيل المرهقة الضعيفة تدخل المحطة، وتتبدل بخيل قوية نشطة، وكان الحل هو إعطاء الإشارة جرعات دورية من القوة والقدرة أثناء انتقالها.
وتشكل الإنتاجية الهائلة والعمل الدؤوب إحدي الخصائص المميزة للعبقرية، فالعبقري لا يعتمد علي الصدفة وحدها، ولكن العباقرة يتميزون بغزارة إنتاجهم وضخامته، فقد أنتج توماس إديسون عدداً قياسياً من براءات الاختراع بلغ 1093 براءة، وكان يعتبر الإبداع عملا شاقا وصادقا، وقال ذات مرة: «إن العبقرية مكونة من 1% إلهاماً، 99% عرقاً».
أما الموسيقار باخ فقد كان يؤلف «كنتاته» كل أسبوع حتي عندما يكون مريضاً أو مرهقاً، وأنتج الموسيقار موتسارت أكثر من 600 قطعة موسيقية، وعلي الرغم من أن ورقة أينشتاين عن النسبية كانت هي السبب في شهرته، إلا أنه نشر 248 ورقة بحثية أخري، أما داروين المعروف بنظريته عن النشوء والارتقاء، فقد كتب 119 كتابا آخر في حياته، ونشر فرويد خلال حياته 330 ورقة وبحثاً، وفي مجال الفن أنجز بيكاسو أكثر من 20 ألف عمل فني في حياته، وفي دراسة عن 2036 عالماً علي مر التاريخ،
خلص «دين كيث سيمونتون» إلي أن العلماء الأكثر تمتعاً بالاحترام لم ينتجوا فقط المزيد من الأعمال
العظيمة، بل أيضا المزيد من الأعمال «الرديئة»، ومن الكم الغزير والهائل لأعمالهم جاءت الجودة.