مما ذكر علماء النفس عن موجبات السعادة للإنسان، إحساس المرء بعزّة نفسه، أي أن يشعر بأنّه عزيزاً محترماً في ذاته وعند غيره. وفي المقابل، فإنّ شعور الإنسان بالذلّة والهوان وحقارة نفسه، يجلب له الشعور بالتعاسة والشقاء.
الإسلام اهتمّ كثيراً بموضوع العزّة، حتى كان فيصلاً في كثير من الأُمور، ففي المأثور: “إنّ الله يرضى لعبده كل شيء إلاّ الذلّ”، و”لا ينبغي أن يذل المؤمن نفسه”، وذلك كلّه مصداق قوله تعالى: )ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين( (المنافقون/ 8)، وقوله أيضاً: )ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين( (آل عمران/ 139).
نقطة البدء أنّ الإنسان خليفة الله في أرضه، وهو سيِّد مخلوقاته، وهو الذي أعزّه وأكرمه، وهو القائل جلّ وعلا: )ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيِّبات وفضَّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً( (الإسراء/ 70).
وبالتالي، فإنّ على الإنسان أن يشعر بالفخر والإعتزاز لأنّه خلق الله، العظيم المتعال، ذو العزّة والجبروت، وفي ذلك نقرأ في الدُّعاء: “إلهي كفى لي عزّاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً”.
ولكن هذه البداية المشرقة لابدّ أن تمتد وتستمر لتكون حياة الإنسان على درب المعبود والمحبوب.. أي في سبيل الله.. فتكون طاعة الله غاية السعادة ومنتهى النعمة.. ويكون اكتساب العزّة والكرامة متوالٍ ومتسق في حياة الإنسان.. فكلّما واجه الإنسان ضعفاً أو عسراً، التجأ إلى ربّه فكان له مدداً وعوناً، ليزداد عزيمة وقوّة.
ترى، كم من الناس يلجأ عند ضعفه إلى قوي ليتقوّى به؟ وكم من الناس مَن يركن إلى غني ليشعر بالغنى؟ ولكن لو تدبّر الناس لوجدوا: أنّ القوّة لله جميعاً، وأنّ الله هو الغنيُّ الحميد، وأنّ “العزيز بغير الله ذليل”، لأن غير الله محدود ولا يؤتمن على استمرار عونه، وهو المحتاج إلى غيره.
والطريق إلى الإعتصام بالله تعالى هو طاعته، والتي فيها كرامة الإنسان وسلامته، ومصلحته ومنفعته.. ففي المأثور: “أوصىالله تعالى إلى داود، يا داود إنِّي وضعت العزّ في طاعتي وهم يطلبونه في خدمة السلطان فلا يجدونه”، لأنّ السلطان يذل مَن يتذلّل له، والله تعالى يعز عباده ويفيض عليهم من نعمه، ويزيد من شكره.
والإنسان، خليفة الله في أرضه، وقد أوكل الله تعالى إليه إدارة شؤون الحياة والتصرُّف بقوى الطبيعة بما يخدم وجوده وسعادته وتمتُّعه بالنعم والطيِّبات، وحُري بهذا الخليفة، ممثل الله ووكيله، أن يشعر بالفخر والإعتزاز، لأنّه متصل بأعلى سلطة وأعز قوّة.
وكلّما كان الإنسان “إلهياً” في سلوكه، كان أقرب إلىالله وأعز وأكرم في ذاته، وأطهر وأطيب في سلوكه.. لأنّه يحاول أن يتخلّق بأخلاقالله ويتأطّر بجماله وكماله.. إنّه يقترب من إسم الرحيم فيكون رحيماً، والعليم فيكون عالماً، والعدل ليكون عادلاً، واللطيف ليصبح لطيفاً…
وبهذا السلوك القويم، يكون الإنسان مقبولاً، بل محبوباً من قبل الآخرين فلا يشعر بالإهانة أو الذل، بل يمتلأ عزّاً وثقة بنفسه، وذلك لأن سلوكه جميلاً ومنهجه لطيفاً وتعامله مع الناس رقيقاً وودوداً، لا يريد لهم إلا الخير، فيُلجأهم بذلك إلى التعامل – غالباً – بالخير.
يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.
ويقول الإمام علي رضي الله عنه: “إنزع الشرّ من غيرك بنزعه من نفسك”.
وهذه علامات ذهبيّة توجه سلوك الإنسان نحو بوصلة الحب والخير والحق والعدل، التي تلتقي عندها كل القلوب الخيِّرة، على اختلاف مشاربها.. وهذا هو جوهر الدين “وهل الدين إلاّ الحب”؟ و”الدين المعاملة” كما جاء في المأثور، والقاعدة “عامل الناس بما تحبّ أن يعاملوك به”.
وهذا هو طريق العز والكرامة، كما هو طريق الدعوة الصحيحة إلى الإسلام والعمل الصالح.. الدعوة بالعمل لا باللسان فقط، وقد جاء في المأثور عن أهل البيت: “كونوا دعاة بغير ألسنتكم”، وعن إمامهم علي بن أبي طالب: “ومعلم الناس بعمله أحق بالإجلال عن معلم الناس بلسانه”.
إنّ التزام الإنسان بالدين، ممّا يعني ابتعاده عن كل ما يشين السلوك الإنساني، من ظلم وبغي وفساد وتجاوز.. واتصافه بكل ما يزين السلوك الإنساني من صدق وعفاف وإنصاف وخُلق ومودّة، سيجعل منه إنساناً محترماً يأمنه الناس ويثقون به ويعزّونه، وسيقابلونه عادة بما يليق به، فيزداد متانة واطمئناناً في نفسه لتمتلأ رضا وارتياحاً للمحيط من حوله، وهو مصدر للسعادة والشعور بالإرتياح.
قال الله تعالى: )إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرَّحمن وُدّاً( (مريم/ 96).
ومن الطبيعي، وكما قيل، من “أنّ الطيور على أشكالها تقع”، فإنّ هذا الإنسان سيصاحب الناس الطيِّبين والمحترمين، وسيبتعد ويبتعد عنه الناس التفهاء والمنحطين، الذين يحتقرون أنفسهم ويحتقرون غيرهم، فلا يسمع من حوله إلاّ الكلام الطيِّب، ولا يعاشر إلاّ مَن عشرتهم راحة ومرافقتهم غنيمة، وسيبتعد بدوره عن كل كلام بذيء أو معاملة حقيرة، وهذا ما سيزيده عزّاً وكرامة.
وأخيراً، فإنّ الإنسان المؤمن عندما ينظر إلى آخر الطريق، فيجد مكانه في )مقعد صدق عند مليك مقتدر( (القمر/ 55)، )مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً( (النِّساء/ 69).
عندها يعلم المؤمن أنّ نهايته الفوز والسعادة الأبدية وأن وليّه الله، وهو نعم المولى ونعم الوكيل.
عندما يحسّ المؤمن بذلك، يمتلأ عزّاً وكرامة ويفيض سعادة وراحة، إذ لا يكتب له بكل خطوة في هذا الطريق إلاّ طاعة وعبادة وثوباً ومغفرة بسم الله الرحمن الرحيم )إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة( (البيِّنة/ 7).
على عكس الذين كفروا والذين ظلموا بسم الله الرحمن الرحيم: )لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم( (المائدة/ 33).
وهكذا يكون الإيمان مصدراً أساسياً للشعور بالعزّة والكرامة والفخر والرِّضا.. وبالتالي، الشعور بالسعادة.