بعد أكثر من ربع قرن قضيتها في تأليف وترجمة وتلخيص مئات الكتب والمقالات في الموارد البشرية، يبدو وكأنني أعدت اكتشاف مفهوم التنمية والاستثمار البشري، ففهمت أبعاده واستوعبت بعض تداخلاته، بعد أن نظرت إليه من منظور “التمتين”، الذي ساعدني أيضًا على إعادة صياغة وتعريف: “التميز” في بيئة العمل.
يتحقق التمتين من خلال مديرين ممتنين، يأخذون على عواتقهم تمتين الأفراد لبناء مؤسسات متينة. فالنتيجة الوحيدة والطبيعية والفعلية للتمتين هي النجاح. فقد ثبت بعد المزيد من الأبحاث الجادة أن المديرين الجديرين يقومون بأربعة أشياء لا خامس لها، وهي:
– تعيين الموظف المناسب فقط.
– توقع ووضع النتائج المناسبة فقط.
– تحفيز الموظف المناسب فقط.
– تطوير وتنمية المواهب المناسبة فقط.
فالتمتين الذي يبدأ بحرف (التاء) يقوم على أربع (تاءات) أخرى هي: التعيين والتوقع والتحفيز والتطوير.
لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فلكي تختار الموظف المناسب، يجب أن تعرف الفرق بين: المهارة والمعرفة، والسلوك والعادة، والدافع والموهبة، وما الذي يمكن تغييره في شخصية الإنسان، وما الذي يجب تثبيته وعدم الاقتراب منه.
بعبارة أخرى: ما هو الجانب المسير وما هو الجانب المخير في الإنسان. لتوضيح ذلك نسوق قصة الأب الذي قال لابنه: “قال لي معلمك أكثر من مرة إنه لا يمكن تعليمك أي شي!” فرد الابن: “وأنا قلت لك أكثر من مائة مرة إنه معلم فاشل.” والفكرة هي: لا يوجد إنسان عاقل لا يمكن تعليمه أي شيء؛ فلكل منا موهبة خاصة ليتعلم شيئًا واحدًا على الأقل أفضل من غيره.
ولكي تتوقع النتائج المناسبة، عليك أن تعرف أي من أجزاء الوظيفة يجب تنفيذها بحذافيرها، وأي الأجزاء تتركها للموظف لكي يبتكر ويغير ويطور فيها؛ فإذا لم تدرك ذلك، ستصاب أنت والموظف بالارتباك والتشوش، ولن تتمكن أيضًا من وضع الموظف المناسب في المكان المناسب.
ولأن الوقت هو أعز وأثمن مواردك كمدير، يجب أن تحدد فيما وفيمن تستثمر وقتك: في فض المنازعات أم في تنمية القدرات؟ هل تمتن الأقوياء أم تقوي الضعفاء؟ هل تحسن المهارات الفنية أم تنمي المواهب الفطرية؟ وهذا هو الفرق بين التمتين والتقوية.
فنحن نمتن القوي، ونقوي الضعيف. نتيجة التقوية هي أداء متوسط، ونتيجة التمتين هي أداء متميز. وبالمناسبة، فاللغة الإنجليزية – على حد علمي – تخلو من كلمة تعبر عن المعنيين: اللغوي والاصطلاحي للتمتين؛ فهي تستخدم (تقوية) لتعبر عن تقوية الضعيف وتقوية القوي. مع أن الفارق كبير.
لقد درجت المؤسسات والمجتمعات والحكومات على القول بأن الإنسان هو رأس مالنا الحقيقي، وهذا خطأ علمي. فالإنسان السلبي وغير المنتج يقع – بلغة المحاسبة والاقتصاد – في خانة “الخصوم” لا في خانة “الأصول”. فأغلى ما نملكه هو الإنسان المتين والأمين.
القوة والمتانة ترتبطان دائمًا بالرزق والأمانة: “إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين” و “إن خير من استأجرت القوي الأمين” صدق الله العظيم. وهذا مبدأ إداري وحضاري وتنموي عظيم.
لقد ثبت علميًا وبفحص وتصوير الخلايا العصبية في الدماغ أن الناس لا يتغيرون بعدما يكبرون، بل تكبر وتمتد نقاط قوتهم ونقاط ضعفهم معهم.
ومن الأخطاء الإدارية الشائعة التي زادت من الهدر في التنمية البشرية والاقتصادية وساهمت في البطالة والعطالة، محاولة تغيير سلوك وعادات الموظفين بعدما يلتحقون بالعمل.
الصحيح هو أن “نمتن” – أي نعزز ونقوي ونمكن – نقاط القوة فقط. وهذا ليس أمرًا سهلاً بحد ذاته؛ فمحاولة سد كل الفجوات وإصلاح كل النقائص تكلف المجتمعات المليارات دون عائد مقنع على الاستثمار والتنمية. ومصدر الخطأ هو الاعتقاد بأننا يمكن أن نصل إلى الصحيح بدراسة الخطأ. وهذا خطأ!
من الخطأ أن ندرس حالات الطلاق لنحافظ على الزواج، وأن ندرس الاكتئاب لنحقق السعادة، وأن ندرس أسباب زيادة الواردات لنرفع الصادرات، وأن نحلل الديون لتدبير مصادر التمويل، وأن ندرس أسباب التلوث لنحافظ على البيئة، وهكذا … فعندما نركز على قياس شيء ما، فإننا نغفل قياس نقيضه.
وبالمثل، عندما تركز سياستك الإدارية والتدريبية على التعامل مع الأخطاء، فإنك ستتجاهل – تلقائيًا – السلوك الإيجابي. فنحن لا نرى سوى ما نريد أن نراه؛ وما نركز عليه، نحصل عليه. وبالمثل: فإن استخدام الحاسب الآلي لتحقيق العدالة في التنسيق الجامعي على أساس المجموع والتوزيع الجغرافي، يجعلنا نغمض أعيننا عن الظلم، لأننا نوزع التخصصات بناء على ما يسهل قياسه، لا على ما يجب قياسه. وهنا يلعب “التمتين” في التربية والتعليم وفي التنمية البشرية دورًا خطيرًا.