اعداد محاسب

الفكر المحاسبي في ظل الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين

أدت المنافسة الحرة بين الوحدات الاقتصادية إلى التوسع في استخدام التكنولوجيا وتضخم رؤوس الاموال المملوكة والمقترضة لتقديم منتجات أفضل بأسعار أقل، مما أدى إلى سيطرة الشركات العملاقة متعدية الجنسية ذات الكفاءة

الأعلى والاسعار الأقل بسبب اعتمادها على عدد أقل من العمال وطرق تكنولوجية أكثر تقدماً. وهذا بدوره أدى إلى زيادة العاطلين عن العمل، وزيادة حركة الإفلاس، وانخفاض مؤشرات الاسواق المالية، وتراجع الثقة بالبورصات وسيطرة الهلع على نفوس المستثمرين، بالإضافة إلى تنامي الحركات العمالية المنادية بإسقاط النظام الرأسمالي الحر، وقد كان لهذه الظواهر آثار عميقة على النظرية الاقتصادية والفكر المحاسبي .والاتي استعراض موجز للمدارس الفكرية خلال تلك الحقبة:

أ‌) موقف النظرية الاشتراكية من الأزمة :

كانت الدولة في ظل النظام الرأسمالي تقف موقف المتفرج تاركة المنافسة تنظم السوق من خلال الدورات الاقتصادية وما يرافقها من انتعاش أو انكماش، وما ينجم عن ذلك من تراكم الأرباح وتوسع المشروعات، ثم جمود الحركة الاقتصادية وزيادة العرض عن الطلب وظهور أزمات جديدة، مما جعل البعض من الاقتصاديين الكلاسيكيين يرمز إلى هذه الحركة اللولبية على أن النظام الرأسمالي يجدد نفسه من خلال الأزمات .

إلا أن زعماء الاشتراكية الدولية ككارل ماركس اعتبروا أن النظام الرأسمالي قد استنفذ أغراضه وسبب الدمار للإنسانية وفسروا الاقتصاد الرأسمالي على أساس دراسة التاريخ الإنساني الذي اعتبره ماركس يتحرك بحسب حركة حلزونية ديالكتيكية من خلال الصراع بين الطبقة البورجوازية من جهة وطبقة العمال المضطهدين من جهة أخرى، ووضع كتاب رأس المال من خمسة أجزاء ليشرح فيه آلية الاستغلال الذي تتعرض له الطبقة العاملة من خلال قانون القيمة الزائدة للمالكين . وقد استغل ماركس اليأس السائد في أوساط الطبقة العاملة لينشر البيان الشيوعي تحت شعار يا عمال العالم اتحدوا ، وقد نجحت الحركة الشيوعية في السيطرة على نظام الحكم القيصري في روسيا لتنشئ أول دولة لا تعتمد على الاقتصاد السياسي السائد بل على الاقتصاد الاشتراكي الذي لا يقيم للمنافسة أي وزن يذكر، بل يعتمد على التخطيط من خلال سيطرة الدولة كممثلة للحزب الشيوعي الذي يمارس ديكتاتورية الطبقة العاملة (البروليتاريا)، ويعتمد التخطيط على الأسعار الثابتة من خلال نظام للقيمة يبنى على أساس قوة العمل الجسدي المبذولة في الإنتاج دون إعطاء أي قيمة لعوامل الإنتاج الأخرى كالإدارة أو رأس المال ، وكان من المأمول أن النظام الاشتراكي سيؤمن نوعاً من العدالة الاجتماعية والاستقرار في الأسواق التي تهدف سد حاجات الناس جميعاً، الذين تتكفل الدولة بتأمين فرص عمل لهم، حتى لو كان ذلك عبئاً على الإنتاج أو بطالة مقنعة، وقد لمع نجم النظام الشيوعي وتخيل البعض أنه يحمل معه عصا سحرية تنهي الصراعات التي تولدها المنافسة، وتنهي رأس المال المسؤول عن الاستغلال، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع شعبية هذا النظام في الغرب الرأسمالي الذي يعاني من الأزمة، وأيده الكثيرون من المثقفين والقادة النقابيين .

وقد استهدفت المحاسبة في النظام الاشتراكي خدمة الحسابات الاقتصادية القومية المبنية اساسا على نظام من الموازين السلعية والبشرية والمالية والنقدية من خلال الأسعار الثابتة . حيث أعدت جهات التخطيط نظاماً محاسبياً إحصائياً موحداً فيه مبادئ ثابتة للمحاسبة المعتمدة على التكلفة التاريخية بطبيعة الحال . ولم يحقق القادة الشيوعيون مطامحهم في إسقاط النظام الرأسمالي والسيطرة على كافة أنظمة الحكم الأخرى، وإن نجحت الحركة الشيوعية في السيطرة على بعض الأنظمة بالفعل كالصين وفيتنام وكوبا (القاضي، وحمدان، 2008،ص:30-56) .

ب) موقف كينز :

أدى حدوث الكساد العالمي في الثلاثينات القرن العشرين الى زعزعة الثقة في النظرية الكلاسيكية وبالسياسات الاقتصادية التي بنيت على اساسها ، لانها اعتبرت مشكلة البطالة وانخفاض الإنتاج ظاهرة مؤقتة وان الاقتصاد السوق الحر قادر على معالجة هذه المشكلة بشكل تلقائي. لقد هيأت أزمة الكساد العالمي الفكر الاقتصادي لتقبل نظرية جديدة اطلق عليها النظرية الكنزية(العيسى،وقطف، 2006).

بعكس كارل ماركس الذي رأى تقويض الرأسمالية واستبدالها، فإن الاقتصادي البريطاني جون كينز رأى أن علاج المريض ليس بقتله، بل بإنعاشه هذا الإنعاش الذي يتم بالتخلي عن حرفية النظام الرأسمالي والقبول بنوع من تدخل الدولة للحد من الأزمة الاقتصادية ويكمن هذا التدخل في العديد من المظاهر أهمها زيادة الانفاق الحكومي حتى لو كان تضخمياً ضمن حدود محسوبة وهو ما يؤدي إلى توفير فرص عمل جديدة، وامتصاص جزء من البطالة، ويضاف إلى ذلك توسيع مجال الاهتمام الحكومي ليتدخل في الشأن الاقتصادي من خلال تأميم بعض الشركات عن طريق شراء جزء من أسهمها العادية وزيادة رؤوس أموال الشركات المتعثرة وإعطاء الفرص للدولة في المشاركة بإدارة هذه الشركات.

ويأمل كينز أن هذا التدخل يبقى محسوباً ولا يمس طبيعة النظام الرأسمالي المبني على الحرية والمنافسة، وعند زوال الأزمة يمكن أن تخفض الدولة من الإنفاق التضخمي وتلجأ إلى رفع معدلات الضرائب فيخفض العجز في موازنة الدولة وتنخفض الأسعار نسبياً، أما الأسهم التي تم شراؤها ويمكن للدولة بيعها للقطاع الخاص بعد انتهاء الأزمة ، مما يجعل الدولة تحافظ على أسس النظام الرأسمالي دون التدخل المستمر في الشأن الاقتصادي .

ج‌) الأسواق المالية :

أدت الأزمة الاقتصادية في عام 1929 الى نتائج هامه على صعيد الاسواق المالية ، فقد تم تنظيم السوق المالي في نيويورك من خلال القانون الصادر في 1933م الخاص بتنظيم السوق والقانون الصادر عام 1934م الخاص بإدارة السوق المالي حيث أسست هيئة الأوراق الماليةSecurities and Exchange Commission(SEC) وتعد الجهة المخولة في تنظيم الأوراق المالية، مما جعل تداول الأوراق المالية محصوراً بالشركات التي اتبعت تعليمات البورصة، وتوفرت فيها المقومات اللازمة لحماية المستثمرين من الغش والتلاعب والاحتيال المالي(Wolk, et al., 2004, p: 60). وقد استفادت البورصات الأخرى من التشريعات الناظمة للبورصة الأمريكية التي غدت أكبر البورصات في العالم .وقد كان التركيز على اتباع المبادئ المحاسبية التي يعتمدها مجمع المحاسبين الأمريكيين American Association of Certified Public Accountants (AICPA) أهم شروط قبول تداول أسهم الشركات في بورصة نيويورك، ولم تقبل إدارة السوق أن تقحم نفسها في إصدار تشريع بمبادئ المحاسبة ومعاييرها بل اكتفت بإناطة هذه المهمة الى المنظمة المهنية المختصة وهي مجمع المحاسبين الامريكيين ، وقد تطورت هذه الصيغة لتتمخض عن اشرااك مجموعة من المنظمات المهنية ذات العلاقة بمعايير المحاسبة او مبادئها من خلال مجلس المعايير المحاسبة الماليةFinancial Accounting Standards Board (FASB) التي أنشئت عام 1973 .وهكذا تميز المنهج الامريكي بالحد من التدخل في المبادئ المحاسبية تاركا للمهنة دورها في هذا المجال معتمداً على مفهوم الأفصاح الذي يمكن قراء القوائم المالية من معرفة طبيعة البدائل المحاسبية المستخدمة تحت مظلة المبادئ المحاسبية المقبولة عموماً(GAAP) .ويتضح أن الأسواق المالية رسخت المدخل المعياري في المحاسبة بما فيه من رقابة وصدقية وحرية للإدارة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى