ما يقوم به المدير يتطلّب الكثير من الكفاءة والتخصص. وما يتصل بهذه الكفاءة المتخصصة هو القدرة على التركيز المميّز، وكذلك المرونة الفكرية، والقدرة على التحوّل سريعاً ما بين القضايا والمظاهر المختلفة، إلى جانب القدرة على إثبات الذات، واتخاذ القرارات. من الممكن العمل على تعزيز وتطوير مثل هذه القدرات الذاتية. لكن التدريب على مهارات الاتصال هو البداية، للقيام بتلك القدرات بصورة نظامية اعتماداً على الحاجات الفردية.
إن المديرين العامين هم أفراد غير اختصاصيين بل متعددي المواهب والكفاءات، كما يقول الأستاذ، جون كوتر، من جامعة هارفارد، بناءً على دراسة قامت بها كلية التجارة هناك. لقد أذهلت هذه المحصّلة جيلاً من روّاد الشركات، الذين بدأوا كخبراء عامين لا اختصاصيين حتى فترة طويلة. والحقيقة أنهم رجال متخصصون، وهم تخصصوا ليكونوا مديرين في أعلى المناصب. وهنا لا يدور الأمر حول الحصول على المعرفة بالقطاعات والقيادة فقط خلال فترة مهنتهم. إن المدير الأول بحاجة إلى تطوير قدرات متخصصة على نحوّ تميّزه الدراية والإلمام والمعرفة. وهذه هي القدرات الذاتية التي يوظّفها المرء في موقع العمل، ليتمكن من تلبية متطلبات النموذج المهني المرتبط به على نحوٍ سليم.
المواصفات التي يجلبها أي مدير معه لا يمكن اختبارها إلا خلال ما يعادل خمسة أعوام على الأقل. ورافق باحثو الإدارة، مثل هنري مينتزبيرج، وروزيماري ستيوارت، وجون كوتر، المديرين التنفيذيين المسؤولين، وغيرهم في الشركات، ليتمكنوا من الحكم عليهم خلال أعمالهم اليومية. وجاء عن جزء من محصّلة مينتزبيرج النظريات الخمس التالية: الحياة التي يعيشها المدير في عمله، تتّسم بأنه نادراً ما يجلس وحده، فهو دائم الحديث مع الآخرين، أو الاستماع لهم؛ أيامهم مخطط لها منذ البداية، حيث يقضون نحو 50 في المائة منها في الاجتماعات؛ ويتسم عملهم بالكسور والتشطير، حيث بالكاد يمكنهم المواصلة في مسألة واحدة ما يزيد على تسع دقائق دون انقطاع؛ وتتقاطع المسائل العادية والجذرية مع بعضها البعض بصورة متكررة؛ وهم من اختار واقع هذا العمل بأنفسهم.
وهناك معلومة ينطوي عليها البحث وتشكّل تهديداً واضحاً: وهي الميل الواضح للمديرين إلى الحديث والنقاش الشفوي، ولا توجد استراتيجيات رئيسية مشبعة بالتأمّل الفكري، التي تحافظ على تطور المجموعة داخل مضمار الهدف ضمن تخطيط، ومذكرات. إن القوى الإدارية تقضي في العادة ما يزيد على 50 في المائة من وقت العمل في محادثات. وقد عمل البريد الإلكتروني على تبديل الكثير من الأمور، ولكن المراقبات هنا تشير إلى أن البريد الإلكتروني يخدم أهدافاً معلوماتية وتنسيقية على وجه التحديد. إلا أن مسائل المباحثات، والأمور المهمة، يتم بحثها إما على الهاتف وإما وجهاً لوجه.
ومن يريد المباحثة شفوياً عليه أن يكون موجوداً، حتى لو لم يتبق وقت كافٍ، أو لم يتبق وقت نهائياً للوصول إلى الموافقة على النتيجة. ومن يجلس في محادثة مباشرة مع أحد المحللين، أو الصحافيين، أو أحد الزبائن الرئيسيين، يعتريه الخوف من الخطأ. ومن يجلس في محادثة مع الموظفين، ويتلقى اتصالاً مزعجاً، يصبح بعيداً عن الإقناع من حيث الحيثية والإنسانية.
عالم منشطر
محصلة أخرى جاءت بها الملاحظات: إن عمل المديرين يتميّز بالانشطار. والانشطار هو أن المسألة الكبيرة تنشطر إلى أجزاء صغيرة. وسواء في تكنولوجيا المعلومات، أو في علم الثقافة، أو علم الاجتماع، فالانشطار يؤدي إلى التمزيق والخطر، الذي يضيع مع الالتحام والتواصل. وعلى خلاف الرسّام فنادراً ما يقف المدير طوال ساعات على منظور واحد من لوحته. فعمله منشطر زمنياً: خمس دقائق في معالجة هذه المعلومة، ونصف ساعة في مباحثة إحدى المشاكل. ودوّن الباحث الإداري، هنري مينتزبيرج، نشاطات خمسة مديرين تنفيذيين مسؤولين. وواحدة من المحصلات كانت: أن نصف نشاطاتهم تستمر ما يقل عن تسع دقائق، وبالكاد تستمر 10 في المائة من نشاطاتهم ما يزيد على ساعة واحدة. لقد جاءت هذه النتيجة عام 1970، ودراسة مشابهة اليوم جاءت عن هاورد نوتهافت، من جامعة لايبزيج، حول مديري الاتصال، تؤكّد أنه لا يمكن تصوّر عدم الانشطار والسرعة في أعمالهم.
وفي النهاية فإن الأمر لا يدور حول التحوّل من مسألة إلى أخرى فقط، ولكن المهم هو تمييز المهم من الأمر غير المهم. كلما كان المركز الإداري أعلى، أصبح أهم، “الحفاظ على الصورة الكلية في مقدمة المخيّلة، والتركيب الإجمالي”. إن المرشد الإداري يُشير إلى أن المدير المسيطر، في وضع يسمح له بالرجوع خطوة إلى الوراء. ولكن من يعود إلى الوراء أكثر وأكثر، في النهاية لا يحصل على صورة كبيرة ليراها، ولكنها بالأحرى بعيدة جداً، بعيدة عن الواقع مثل الخطة الخماسية للوضع الاقتصادي للجمهورية الألمانية الديمقراطية سابقاً. وفي المقابل: في عالم معقّد تتعدد فيه الأشياء تنشأ صورة صحيحة وموثوقة عن تبادل المواقع والأنظار.
عالم متناقض
تشير المحصلات الجديدة إلى المزيد من خصائص الإدارة في عالم يتسم بالديناميكية والتعقيد. وخاصةً في مراحل التحوّل والتغيّر تصبح الصورة الكبيرة صورة صعبة، وكما قيل في عمل “إيشيرز”: فهي صورة متناقضة. وبالتالي على القوى الإدارية تجنّب هذا التناقض. ” إن حجر الأساس للأفكار الكبيرة، هو التمسك بفكرتين متناقضتين في الذهن في الوقت ذاته، ومع ذلك أن تكون الاثنتان ناجحتين أيضاً”، حسب ما ورد عن سكوت فيتزجيرالد. إن المعضلة، والتناقض هما التحول عن التخطيط الطولي عند نقطة معيّنة في إدارة الشركات إلى التأثير عن طريق الإدارة الإستراتيجية.
ويتميّز يوم العمل الإداري بالمعضلة أيضاً: كيف يمكن للمرء أن يطرح مسألة في موقف معيّن تُعد تامة الوضوح بالنسبة إلى الآخرين؟ كيف لي أن استغلّ كفاءة البنية المتخصصة، دون فقدان المرونة؟ كيف لي أن أعمل “كقائد” مقنع للأفكار مائة في المائة، دون أن أترك مكاناً في نظري للأفكار البديلة؟ كيف لي أن أتخذ القرار في مسائل ومتطلبات متناقضة؟ إن أصحاب النظريات، الذين يتعاملون مع مواقف “يلتحم بها الغضب” عند اتخاذ قرار، يتحدثون عن “التوتر البنّاء”، و”الموازنة الديناميكية”. وهذا لا يعني سوى معالجة الأمر رغم كل شيء، وعدم التعقيد، ويمكن صياغة هذا الأمر على نحوٍ مختلف: على القوى الإدارية أن تكون في الموضع الذي يسمح لها بتفجير الأطر المحيطة، حتى عندما يكونوا هم من وضعوها في الأصل. عليهم أن يتحمّلوا التوتر، والتفاعل على نحوٍ يغمره التواصل.
النتائج:
هذه بعض مظاهر “مهنة المدير”، والقابلة للتوسّع أكثر. والمعرفة تبقى: مهارات الاتصال، والمرونة المُدركة، والقدرة على التحوّل، وكذلك القدرة على التركيز المميّز، كلها ترتبط بأهم القدرات الذاتية للمدير. كل واحدة من هذه القدرات الذاتية تعتمد على الكفاءة الكلامية. وعلى هذا فإن التمييز بين إدراك الذات وغير المهم، ورؤية واستيعاب نقاط الآخرين أمرٌ لا مفرّ منه. والقدرات الموضّحة تلك يمكن تطويرها وتعزيزها تنظيمياً عن طريق التدرّب على مهارات الاتصال، وبعض الأمثلة على هذا الأمر:
فاعلية قيادة المحادثة- لماذا يفهمني موظفي بصورة خاطئة، فلم يكن ذاك سوى تقرير واضح؟ لماذا يغضب زميلي، فكل ما قصدته فقط …؟ هذه هي الأسئلة، التي تبدو في المقابل والتي على الموظف أو الزميل الإجابة عنها. ولكن الشيء الأكثر اهتماماً، والبارز، هو البحث عن الإجابة ضمن أسلوب التواصل الخاص، حيث إن الأسلوب الخاص، هو الذي يمكننا فعلاً التأثير فيه، أو تغييره، أو تحسينه. وهنا من الممكن أن يكون مهماً تحسين الفكرة الداخلية عن شريك المحادثة، واحتوائه في شكل أسلوب التواصل الخاص.
فاعلية المرونة والتحوّل – كيف يعيش المدير عالمه الكلامي، المنشطر، والمتناقض؟ من يعمل على القيادة ضمن هذه المظاهر المذكورة سابقاً، أو يجد نفسه معارضاً ومزعجاً، وأحياناً عائق أمام الطاقات القيّمة، فإن الخطوة الأولى هي، معرفة الأشكال الخاصة بعالم العمل الخاص به، وتقبّلها، والخطوة الثانية تدور حول إيجاد استراتيجيات فردية للكشف عن تلك الطاقات.
ولهذا لابد من العمل على التمرّن على قدرة التركيز، وهو الوجود المطلق في الجلسة. فعلى سبيل المثال، يمكن للصور والرموز أن تساعد على إنجاز التحوّل لآراء المستمعين في أحد الاجتماعات تجاه القائد الصارم.
ومن الممكن أن يرافق التطوير الجيد للتركيز مع التدريب تحسّن في وضع الاستراتيجيات، وإزالة التوتر، وإدارة الوقت، والتفويض. وعلى أية حال، فإن الحلول القياسية هنا نادراً ما يكون تأثيرها متغيراً. والتدريب على مهارات الاتصال لا يدور حول “الحلول الجاهزة” من درج الخزانة. ولكن يتم تطوير استراتيجيات فردية، تعتمد على الأفكار الخاصة للمدير، وتتوازى مع مهارات الاتصال الحالية لكل فرد. ولهذا يكون التطوير والتغيير إيجابياً، نابعاً عن الذات وملائماً.
ومن يدرك أهدافه الخاصة (غير الرسمية)، يمكنه التواصل بثقة. ويتوصّل المرء إلى كيفية تأثير مهارات الاتصال الخاصة في الشركة وأسلوب المدير على الأهداف الخاصة. ويندرج تحت هذا حجران أساسيان:
إيجاد الهدف الذاتي: إن إثبات الهدف يُعد “عملية صعبة” في المحادثة: ما هو هدفي؟ هل يمكنني الوصول له؟ وما هو النص الذي يمكن وضعه داخله؟ من هم الأشخاص المهمون بالنسبة إليه؟ ما تكلفة الوصول إلى الهدف؟ وهل هدفي هذا هو فعلاً هدفي؟ وكيف لي أن أحدد فيما إذا كنت على الطريق السليم؟ إن العمل يستحق: التحقق من الهدف المتأصّل في الذهن بصورة إيجابية، وجيدة، وفعلية، مثل محرّك إضافي، يمنح القوة، ويعمل على التقدّم، والتسارع.
موازنة الهدف: ما الأهداف التي تختص بشركتي، أو بقطاعي؟ وكيف ترتبط تلك بأهدافي الخاصة؟ عند موازنة الأهداف تصبح العقبات النزاعية واضحة. ومن يملك الوضوح في بنية الهدف، يمكنه التواصل والتصرّف بسرعة وبشكل صحيح، في حالة النزاع.
إن القوى الإدارية الناجحة تبني قدراتها الإدارية خلال سير مهنتها. والبعض لا يطوّر نفسه أبداً، أو بصورة محدودة، وهم يسجلون العجز، عندما يبقى تطوّرهم الخاص، أو المهني متخلفاً عن توقعاتهم الخاصة. والأساليب والمبادئ للتدريب على مهارات الاتصال، وكذلك بالأخص على المحادثة مع المستشارين، يمكن أن تكون دعماً قيّماً في مجريات التطوّر الشخصي، والمهني.