المعرفة أشبه بالنور فهي بلا وزن ولاملمس ولكنها تستطيع الانتقال بسهولة في العالم فتستضيء بها حياة الشعوب في كل مكان ومع ذلك، فما زال هناك مليارات من الناس الذين يعيشون في ظلمة الفقر.
هكذا ورد في ديباجة تقرير البنك الدولي للإنشاء والتعمير في العالم لعام 1999/98م.
إن المعرفة يستضاء بها في كل عملية اقتصادية فهي تبين الأفضليات، وتوضح المبادلات، وتنقل المعلومات إلى الأسواق.
والافتقار إلى المعرفة هو الذي يتسبب في انهيار الأسواق أو في عدم قيامها أصلاً.
إن تأول التنمية من منظور المعرفة يعزز بعضاً من الدروس المعروفة مثل أهمية نظام التجارة المفتوح والتعليم الأساسي الشامل، كما يركز الاهتمام على الاحتياجات التي أغفلت في بعض الأحيان، التدريب العلمي والتقني والبحث والتطوير، لتسهيل تدفق المعلومات إلى الأسواق.
كما أن تبني سياسة تزيد من كلا نوعي المعرفة وهما البداية الفنية، والمعرفة المتعلقة بالجودة، من شأنه أن يحسن حياة الشعوب من جوانب متعددة، بالإضافة إلى تحقيق دخل أعلى.
فزيادة المعرفة بشؤون التغذية ، قد تعني صحة أفضل حتى لمن ليس لديهم غير القليل لإنفاقه على الطعام.
والمعرفة بشأن كيفية الحيلولة دون انتقال مرض الإيدز من شأنها أن تنقذ الملايين من الأمراض الموهنة للصحة ومن الموت.
كما أن برامج الإئتمان الصغيرة جداً من شأنها أن تتيح للفقراء فرصة الاستثمار في مستقبل أفضل لهم ولأولادهم.
وصفوة القول، إن المعرفة تهيىء الناس أن يسيطروا على مقاديرهم وأمورهم سيطرة أفضل.
وللأسف، فإن هناك فجوة واسعة في المعرفة بين البلدان النامية والبلدان الصناعية، بل أن هنالك فجوات معرفية داخل البلدان.
وكثيراً ما تنطوي بالاستراتيجيات وبخاصة هذه الفجوات على نفس العناصر، من شأن تطبيقها تطبيقاً فعالاً أن يقطع شوطاً بعيدا نحو الحد من التفاوت واستئصال الفقر.
إن العلاقة بين فجوة المعرفة ومشكلات المعلومات مثلاً، هي علاقة واضحة من تاريخ الثورة الخضراء، إذا اتضح مع الوقت أن النوعيات المحسنة من النباتات، كانت ضرورية ولكنها لم تكن كافية لتحسين حياة فقراء الريف.
وفي آخر المطاف، أفلحت الثورة الخضراء في تعظيم دخل المزارعين الفقراء والذين لا يملكون أيضاً.
وقد أدى انفجار المعرفة الجديدة وتعاظم التقدم التقني والتزايد المتواصل في المنافسة إلى جعل التعليم مدى الحياة أهم مما كان في أي وقت مضى وعلى المجتمعات في سبيل تضييق فجوة المعرفة أن تكفل التعليم الأساسي للجميع.
حيث يعتبر التعليم بالنسبة للأفراد والبلدان مفتاح تكوين المعرفة وتطويعها ونشرها فالتعليم الأساسي يزيد من قدرة الناس على التعلم وتفسير المعلومات.
ولكن تلك هي البداية فحسب، لأن هناك حاجة كذلك للتعليم العالي والتدريب الفني من أجل بناء قوة عمل قادرة على مسايرة التيار المتدفق في التقدم التقني، ذلك التيار الذي يضغط دورات الإنتاج، ويزيد من سرعة انخفاض قيمة رأس المال البشري.
فالتعليم الأساسي، الذي يعني في معظم البلدان التعليم الابتدائي- المتوسط – الثانوي، يحقق تطوير قدرة الشخص على التعليم وتغير المعلومات، وتطويع المعرفة مع الظروف المحلية، ومن خلال تأثيراته على الإنتاجية الاقتصادية وعلى نواحي الحياة الأخرى، مثل الصحة فلن يساعد في تحديد رفاه الإنسان.
ثم إن التعليم المدرسي يدعم الابتكار الزراعي، ويعزز قدرة المرء على إعادة تخصيص الموارد استجابة للتغير الاقتصادي، لمواجهة تقلبات الأسعار أو فترات ضغوط وهبوط ودورات الأعمال.
كذلك يشجع التعليم المدرسي على استخدام التقنيات الجديدة في المنزل لأغراض الصحة والتغذية والتعلم وتنظيم الحمل.
وعلى ذلك فإن التعليم الأساسي ضروري لتعزيز قدرة الناس على تسخير المعرفة، خاصة في البلدان الأكثر فقراً.
وهناك بعض الشواهد كذلك على أن التعليم العالي أمر مهم للنمو الاقتصادي.
فإنتاج معارف جديدة وكذا تطويعها لأوضاع بلد معين يرتبط بصفة عامة بمستوى عال من التعليم والبحث.
ولتعزيز إمكانية تطوير المناهج الدراسية والأبحاث العلمية ينبغي أن تعمد كثير من المدارس، والجامعات إلى إقامة شراكات أوثق مع الصناعة، وبناء جسور مع الصناعة من خلال المناهج الدراسية التي تضمن مكونات تعليمية قائمة على العمل.
كذا ينبغي على الأكاديميين أن يدعموا البحث الذي يؤدي مباشرة إلى الابتكار التقني، وأن يرحبوا بتقديم الاستشارات للقطاع الصناعي الخاص.
إن المعرفة عنصر حاسم في التنمية، لأن كل ما نفعله يستند إلى المعرفة. فلكي نعيش، يتعين علينا أن نحول الموارد المتاحة إلى أشياء نحتاج إليها وهو ما يتطلب معرفة.
وإذا أردنا أن نعيش في الغد أفضل مما نعيش اليوم، وإذا أردنا أن نرفع مستوى حياتنا كأسر وبلد وأن نحسن صحتنا ونعلم أولادنا تعليماً أفضل ونحافظ على بيئتنا، فعلينا أن نقوم بما هو أكثر من مجرد إجراء تحويل المزيد من الموارد، لأن الموارد شحيحة.
وعلينا أن نستخدم هذه الموارد بالطرق الكفيلة بتوليد عوائد متزايدة بما نبذله من جهود ونقوم به من استثمارات وهذا يتطلب معرفة تزيد بنسبة أكثر من زيادة مواردنا.
إن السعي في سبيل الحصول على المعرفة يبدأ بالإقرار بأن المعرفة ليس من السهل شراؤها من على الرف وكأنها خضار أو أجهزة حاسب فقابلية المعرفة للتسويق تحدها خاصيتان تميزانها عن السلع الأكثر تقليدية.
أولاهما، أن استخدام شخص لهذا الجزء أو ذاك من المعرفة لايحول دون استخدام الآخرين لنفس هذا الجزء، فهي كما يقول الاقتصاديون ليست تنافسية.
وثانيتهما، أنه متى صار جزء من المعرفة ملكاً مشاعاً، تعذر على منشىء هذه المعرفة أن يحول دون استخدام الآخرين لها، فالمعرفة غير قابلة للاستثمار بها.
وهاتان الخاصيتان للمعرفة، وهما الخاصيتان الأساسيتان في السلع العامة، تهيئان للناس في كثير من الأحيان باستخدام هذه السلع دون دفع مقابل لها، وهو ما يقلل من المكاسب التي يجنيها المبتكرون في استحداثهم للمعرفة وهي مكاسب ليست قليلة.
إن التنمية الناجمة إذ تنطوي على ما هو أكثر من الاستثمار في رأس المال المادي فهي تنطوي كذلك على الحصول على المعرفة واستخدامها، من خلال:
1- الحصول على المعرفة العالمية واستنباط المعرفة محلياً.
2- الاستثمار في رأس المال البشري لاستيعاب المعرفة.
3- الاستثمار في التقنية لتسهيل الحصول على المعرفة.
ختاماً أقول إن السياسات الفعالة للحصول على المعرفة واستيعابها ونقلها هي مكونات يدعم بعضها بعضاً لاستراتيجية شاملة ترمي إلى سد فجوة المعرفة.