يتكون علم الاقتصاد من مجموعة من النظريات وهي تمثل الاداة التي يستعين بها الباحث في تحليل وتفسير المشاكل والضواهر الاقتصادية ووضع الحلول والتنبؤ في المستقبل، فالاقتصاد الإيجابي (الموضوعي)Positive economic يهتم بتحليل ماهوقائم في الاقتصاد معتمدا في ذلك على الحقائق والمعطيات الثابتة ، كالربط مابين ارتفاع الاسعار وانخفاض الكمية المطلوبة . اما الاقتصاد المعياري(النمطي) Normative Economic
يهتم بدارسة مايجب ان يكون علية الاقتصاد، ويتأثر الاقتصاد المعياري بالتحليل الشخصي، لذلك في حال وجد خلاف لا تحل بالرجوع الى الحقائق لعدم وجود اتفاق عليها، كالحديث عن اسباب البطالة او التضخم واسبابة(حسام واخرون،2000 ).
أدت الحرب العالمية الثانية إلى دمار القارة الأوروبية، وعجز الشركات الأوروبية عن إعادة تجديد أصولها الثابتة ومخزونها السلعي لتستمر في العمل بعد الحرب . وهذا ما دفع الشركات الأمريكية لتخرج من حدود بلادها وتشتري أسهماً لزيادة رؤوس أموال الشركات الأمريكية وتمكينها من الاستمرار تحت مظلة مشروع مارشال الذي تبنته الولايات المتحدة لدعم القارة الأوروبية كما تبنت الولايات المتحدة تأسيس المنظمة الدولية للتجارة (ألغات) لدعم الحرية الاقتصادية والمنافسة التامة على مستوى العالم أجمع . كما تم تأسيس الحلف الأطلسي ليضم كافة الدول المؤيدة للرأسمالية والمعادية للشيوعية التي شكلت بدورها حلف وارسو . ولم تتمكن دول حلف وارسو من الصمود في المنافسة السياسية والاقتصادية مع المعسكر الرأسمالي فتفتت الاتحاد السوفييتي إلى خمسة عشر دولة انظم معظمها إلى الحلف الأطلسي وهكذا توسعت الشركات متعددة الجنسية كما اتسع مجال العولمة وسقطت كثير من الحدود وسادت المنافسة وتوسعت البورصات على الصعيد المحلي والدولي.
وقد أعطي الدولار دور العملة الضامنة كالذهب في اتفاقية Nilson Woods عام 1945 ، مما مكن الدولار الأمريكي من التحول إلى العملة الأولى التي ترتبط معها الكثير من العملات على مستوى العالم، وصارت السياسة النقدية الأمريكية ذات تأثير حاسم داخل الولايات المتحدة، كما تؤثر تأثيراً فعالاً على العالم أجمع. وصار التوسع الاقتصادي والتوسع في الإنفاق الحكومي داخل الولايات المتحدة وفي الخارج لتمويل الأساطيل الأمريكية والقواعد العسكرية المنتشرة في أنحاء العالم لتلبية متطلبات الإستراتيجية الأمريكية في اعتبار نفسها المسؤول عن أمن العالم بأكمله، صارت كل هذه العوامل تدفع الحكومات الأمريكية إلى التوسع في إنفاق الدولار ولو كان على حساب العجز أو الديون.
وخلال العقد الخامس من القرن الماضي قام ميلتون فريدمان أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة شيكاغو بإعادة صياغة النظرية الاقتصادية على أساس نقدي، وقد استهل فريدمان نظريته عن طريق انتقاد النظريات السابقة وأكد أن مشكلة النظرية الاقتصادية هي في قدرتها على التنبؤ بالظواهر التي يهتم بها الاقتصاديون، وأن النظريات التقليدية عاجزة عن تقديم تنبؤات ذات تأثير في السلوك الإنساني . كما شكك بالعلاقات الدالية التي تبنى من خلال تفسير الأحداث التي مرت فيما مضى من حيث عدم قدرة هذه العلاقات على التنبؤ في المستقبل، فالمستقبل ليس تكراراً للوقت الحاضر، وقد خالف التسلسل المنطقي الذي يركز عليه الباحثون في مناهج البحث من حيث استنباط التنبؤ من خلال تعميمات الماضي . وبين فريدمان أن زيف الافتراضات التي تقوم عليها النظرية لا أهمية لها إذا تمكنت هذه النظرية من تقديم تنبؤات مشروطة فهي بذلك تقدم خدمات جلى للفكر الإنساني، أي أن تمكن النظرية من التنبؤ الدقيق الذي يرغب الناس بمعرفته يؤدي إلى اعتبارها نظرية جيدة(Hasman,1992) .
كما اعتبر فريدمان أن غرض العلم هو التوصل إلى نظريات خاصة شرطية تتغير تنبؤاتها إذا تغيرت الشروط (إذا…إذاً) وليس وضع نظريات عامة لا تتغير باختلاف الزمان والمكان . وعلى ذلك فإن النظرية الاقتصادية التي وضعها فريدمان في النصف الثاني من القرن الماضي تعتمد على كمية النقود التي تؤثر بسلوك أصحاب القرارات الاقتصادية من مستثمرين ومستهلكين وغيرهم، فإن زيادة كمية النقود الموضوعة بتصرف المستثمرين يؤدي إلى زيادة الاستثمارات وتأمين فرص عمل جديدة وإنتاج جديد وقيم مضافة جديدة تؤدي إلى زيادة النمو والازدهار الاقتصادي . لذا فإن قيام المصرف الاحتياطي الفيدرالي بتخفيض أسعار الفائدة سيؤدي إلى زيادة الطلب على النقود وزيادة الاستثمارات، مع عدم إهمال دور السياسة الضريبية في تحفيز الاستثمارات أيضاً (France ,et al.,2007).
وقد أعجبت هذه النظرية الحكومة الأمريكية بعد أن تم تطويرها للتنبؤ بالسياسة النقدية باستخدام مدخل بايز الاحتمالي الشرطي (Bayesian Estimation Approach) وغدت هذه النظرية هي السائدة في الولايات المتحدة ثم في الدول الصناعية السبع وفي الاقتصاد الدولي بصورة عامة .
أما في الجانب المحاسبي فقد تأثرت مدرسة روشيستر بالمدرسة الإيجابية في الاقتصاد التي تبناها فريدمان، وشنت هجوما كاسحاً على النظرية التقليدية من خلال الأبحاث التي أعدها Jensen و Zimmerman و Watts في أواخر عقد السبعينات وبداية الثمانينات من القرن العشرين، من خلال التنبؤ بسلوك الإدارة إزاء القياس والإفصاح المحاسبي، هذا السلوك المبني على مجموعة من العقود التي تصاغ على أساس نظرية الوكالة (الوكيل – المدير ) . ومن أهم الافتراضات التي قامت على أساسها النظرية الإيجابية في المحاسبة، أن سلوك الإدارة يستهدف مصلحتها بالدرجة الأولى، وتظهر هذه المصلحة في ضرورة استمرار المشروع الذي تقوم بإدارته وعدم تعرضه للإفلاس أو التصفية، إذ أن التصفية أو الإفلاس يهدد سمعة الإدارة كما يهدد المشروع بحد ذاته، وإن الإدارة لا ترى مانعاً من التغاضي عن بعض الالتزامات أو تضخيم بعض الإيرادات إذا كان ذلك يؤدي إلى قوائم مالية مضللة تصلح لأن تقدم إلى المصرف للحصول على قرض . وأن العقبة التي تحول دون ذلك قيام الإدارة بأعمال كهذه هو الحماية التي يقدمها المدخل المعياري الذي يفرض على الإدارة إتباع المبادئ المحاسبية المقبولة عموماً (GAAP)التي تهدف إلى الإفصاح العادل الذي تقدمه القوائم المالية عن مركز المشروع المالي ونتائج عملياته وتدفقاته المالية، هذه القوائم التي لا يجوز عرضها في السوق المالي : إلا بعد موافقة مدقق الحسابات عليها وهو الذي يعمل بناءً على معايير التدقيق (GAAS) أو (PCAOB) بالإضافة إلى معايير السوق المالي ذاته .
وقد تعمد الإدارة إلى التغاضي عن بعض الالتزامات أو تقويم الأصول بأكثر من قيمتها العادلة، إذا كانت مصلحة الإدارة تقتضي ذلك كالحصول علاوة إضافية منسوبة إلى الأرباح إذا بلغت هذه الأرباح رقماً محدداً. وإن تصرف الإدارة قد يؤدي إلى نسف النظرية المحاسبية أو المعايير المهنية التي يشترط إعداد القوائم المالية بناءً عليها . وقد وصفت هذه النظرية صيغ تنبؤية شرطية كتلك التي اعتمد عليها فريدمان .
وإذا كانت النظرية النقدية في الاقتصاد توصلت إلى مفاهيم كمية محددة قابلة للقياس ككمية النقود التي تتأثر بمعدلات الفائدة ومعدلات الضريبة، فإن خيارات الإدارة في المحاسبة متعددة ومتباينة قد تتطلب زيادة الأرباح أو إنقاصها، وقد بنت النظرية الإيجابية شعبيتها على حساب هدم المدخل المعياري الذي يبنى على قواعد أو توصيات آمرة بعيدة عن الموضوعية، تاركة القياس والإفصاح المحاسبي خاضعاً لأهواء الإدارة . وإن دراسة بيانات المصارف والشركات الأخرى التي هزها الإعصار المالي المعاصر تدل على أن بعض المدراء كانوا يحصلون على رواتب سنوية تزيد على بضعة ملايين من الدولارات وأن جزء منها كان مرتبطاً بصافي الربح الذي لعبت مصلحة الإدارة دوراً كبيراً في زيادتها زيادة وهمية ولم ينص المدخل المعياري على وضع حدود لهذه الرواتب أو التعويضات مما يجعل مدقق الحسابات ملزماً بالتحري عنه والإشارة إليه في تقريره السنوي، وقد وضعت بعض التشريعات التجارية سقوفاً لتعويضات مجلس الإدارة لكنها لم تتناول رواتب وتعويضات الإدارة ككل . ولعل السبب وراء سكوت التشريعات عن وضع مثل هذه السقوف يعود إلى ضرورة ترك الإدارة حرة في الحصول على الحوافز التي تشجع على تحقيق نتائج إيجابية.
فقد تبنى المدخل الايجابي في النظرية المحاسبية بقصد التركيز على تفسير الواقع الحالي الحقيقي للممارسات المحاسبية واثره على مستخدمي القوائم المالية، وتمدد جذور هذا المدخل الى مفاهيم اقتصادية تناولها فريدمان عند مناقشتة مزايا الاقتصاد الايجابيPositive Economic الذي يمثل الواقع الحالي بالمقارنة مع الاقتصاد النمطيNormative Economic المثالي(Belkaoui,2004) . ونتيجة لقصور المدخل المعياري بتفسير وتعليل الممارسات المحاسبية وعلاقتها في الادارة تم التحول الى المدخل الايجابي الذي يفسر لماذا تطورت المحاسبة من الناحيتين النظري والعملي(مطر،2004).
لقد اهتمت النظرية الايجابية بتفسير وشرح ما تقوم به الادارة، بحيث يمكن إجراء تنبؤات عن ممارساتها وتحديد دوافعها بأختيار الطرائق المحاسبية البديلة، فالتفسير يوفر الاسباب والمبررات التي تؤيد التطبيق العملي للمبادئ والسياسات المحاسبية(حمد الله، 1987).
فقد بين هيبورث (Hepworth,1953) دوافع الادارة في تجميل الدخل الدوريIncome Smoothing للفترات المتعاقبة، وذلك بهدف تنمية العلاقة بين الادارة والمالكين واستقرار سياسة توزيع الارباح وتخفيض العبء الضريبي. فقد كان لتطور الذي حدث في ستينات القرن العشرين في البحوث النظرية والتطبيقية بمجالي الاقتصاد والتمويل والذي ادى الى ظهور نموذج تسعير الاصول الرأسمالية ونظرية كفاءة سوق راس المال الى تأثر البحوث المحاسبية،فقد تحول الفكر المحاسبي من مجرد تقديم اقتراحات وتوصيات لما يجب اتباعة في الممارسات المحاسبية(Normative Theory) الى محاولة تفسير اختلاف الطرائق والسياسات المحاسبية المطبقة في المشاريع الاقتصادية، وتحليل العلاقة بين هذا الاختلاف وبعض العوامل والمتغيرات الاقتصادية وهي ما تسمى بالنظرية الايجابية(Positive Theory)، اي ان الفكر المحاسبي اتجه الى تحليل الممارسات المحاسبية القائمة وتتوقع ما سيكون اعتماداً على الاثار الاقتصادية لهذه الممارسات(حسن، 1998). وفي هذا السياق بين واتس وزيمرمان(Watts and Zimmerman, 1978) دوافع(حوافز) الادارة بأختيارها للطرائق المحاسبية البديلة ، وذلك من أجل تعظيم منفعتها المتمثلة بالأجور والمكافأت النقدية وتوزيعات الاسهم. وتعد دراسة واتس وزيمرمان ركناً اساسيا لبلورة النظرية الاجابية بحيث ربطت بين الممارسات المحاسبية وبين اهداف ممارسيها، اي من خلال تحليل العلاقات المركبة والمتداخلة بين قرارات التقرير المحاسبي والعوامل الاقتصادية المؤثرة على مصالح الجهات المعده للتقرير.
وفي هذا السياق فقد بين سكوت (scott,2003.p.368) وواتس زيمرمان (Watts and Zimmerman, 1990) مدخلين لتفسير ممارسات الادارة في تدخلها في عمليات القياس والافصاح المالي هما : مدخل المعلومات ومدخل التعاقدات وقد استخدم كلا من المدخلين في ادبيات المحاسبية لشرح وتفسير سلوك الادارة ، فمدخل التعاقدات ينظرالى الشركة على انها مجموعة من العقود التي تحكم العلاقة بين الاطراف ذات المصلحة في الشركة كالعلاقة بين المالكين والادارة ، وعلاقة الادارة مع العاملين والدائنين والمستثمرين ..الخ هذه العلاقة قائمة على عقود رسمية وغير رسمية يعتمد تحديده على تقليل التعارض بين مصالح الاطراف، حيث ينشأ التعارض في المصالح نتيجة رغبة كل طرف من الاطراف ذات العلاقة بتعظيم منفعتة الشخصية على حساب مصالح الاخرين. يتبين أن مدخل التعاقدات يفسر سلوك الادارة اتجاه العلاقات التعاقدية للتهرب من الإيفاء بالتزماتها التعاقدية ولتتجنب الاثار السلبة المحتملة للقرارات المحتملة للاطراف الاخرى ذات المصلحة في الشركة .
وتستخدم الإدارة مخرجات مدخل المعلومات الذي يفسر دور الادارة في توصيل المعلومات اعتمادا على توقعاتها لمستقبل الشركة ، أي توفير معلومات أكثر ملاءمة للمستخدمين القوائم المالية للتنبؤ بالارباح المستقبلية وبالتدفقات النقدية دون الاهتمام بتقديم صورة حقيقية عن عملياتها الحقيقية ولأدائها الفعلي (Holthausen,1990) . ومن اهم ما قدمة المدخل الايجابي لبناء الفكر المحاسبي بأنه يفسر دور الإدارة تجاه بدائل القياس المحاسبية، وذلك من خلال تحليل التكاليف والمنافع الخاصة بإدارة المشروع.
وقد قدمت الصحافة المالية والبحوث الاكاديمية كثيراً من الأمثلة حول ممارسات الإدارة في التلاعب بالأرباح وإظهار المشروعات المهددة بالافلاس بوضع جيد، بلإظافة الى تحقيق مصالح شخصية ضخمة للقيادات الإدارية ترتبط بأرباح المشروع (Nelson. et al., 2002) ، (Norris, and Eichenwald, 2002).
ويتبين أن النظرية الايجابية المحاسبية أهتمت بتحديد دوافع سلوك الادارة في المسائل المتعلقة بالقياس والإفصاح المالي للوصول الى تفسير وفهم افضل لطبيعة التطبيقات المحاسبية القائمة ، فالإدارة هي المسؤولة عن إعداد المعلومات المالية لذلك فهي تأخذ كافة الاثار المتوقعة للمعلومات التي تم الافصاح عنها، وقد بينت العديد من الدراسات دوافع الادارة لتدخلها بعمليات القياس كدراسة هيلي وويلين(Healy and Whalen,1999) وفيلد واخرون(Field, et al.,2001) و(صالح ،2003) و(حمد الله،1987) :
1- دوافع تعاقدية ، وذلك لتحقيق المصالح الشخصية للإدارة ولتأكيد قدرتها على إدارة أصول الشركة، ولتحقيق خطط حوافزها المتمثلة بالمكافأت النقدية وزيادة الاجور والامان الوظيفي لها.
2- دوافع للاقتراض ، وذلك لتخفيض كلف الاقتراض المفروضة على الشركة من جانب المقرضين.
3- دوافع ضريبية ، وذلك لتأثير على المدفوعات الضريبية ضمن الحدود التي ترغب بها الادارة.
4- دوافع تشريعية وسياسية ، وذلك لتخفيض الكلف السياسية الناجمة عن مطالبة النقابات المهنية السلطات التشريعية والحكومة لزيادة رواتب العاملين وتحسين ظروف عملهم.
5- دوافع السوق المالي ، وذلك للمحافظة على سمعة الشركة أمام منافسيها وللحفاظ على اسعار اسهم الشركة وتعظيمها باستمرار ولمقابلة توقعات المحللين الماليين.