قوّة الإدراك أوّلاً
تعرّف على نفسك لتستطيع إسعادها
الدكتور إبراهيم الفقي
المدرّب العالمي ورائد التنمية البشرية
كتب لنا هذه المقالة والمقالات التي تليها في هذه السلسلة الدكتور إبراهيم قبل وفاته رحمه الله تعالى، وكانت تلك المقالات آخر ما كتبه قبل أن يتوفاه الله تعالى.
أراد شاب أن يتعلم فن القتال بالسيف، تسلق جبلاً شاهقاً من جبال الصين حيث يعيش أحد المعلمين المشهورين بهذا الفن من فنون القتال، والذي تقاعد ليعيش بعيداً بقية سنوات حياته على قمة الجبل.. وبعد حوار طويل، وافق المعلّم في النهاية على تعليم الشاب. كانت البداية أن طلب المعلم من الشاب أن يقوم بقطع الأخشاب، وتعشيب الحديقة، وتنظيف المنزل، وجلب الماء من البئر وأداء كافة المهمات المعيشية اليومية, ومرت الأيام ولم يعدل المعلم شيئاً من برنامج الشاب اليومي فملّ الشاب من تأدية دور الخادم للرجل العجوز دون أن يتعلم شيئاً عن فن القتال بالسيف, وذات يوم اقترب من الأستاذ وسأله عن العلم الذي أتى من أجله. استمع المعلّم لحديث الشاب، ثم طلب منه أن يعود لمزاولة أعماله.
في أحد الأيام، وبينما كان الشاب يطهو الأرز، ظهر الأستاذ فجأة من خلفه وضربه بسيف خشبي على كتفه، ثم اختفى فجأة أيضاً دون أن ينبس ببنت شفة.
لم يمض وقت طويل، عندما ظهر المعلّم فجأة وراء الشاب بينما كان منهمكاً في كنس الأرض غير مدرك لما حوله. ضرب الشاب بالسيف الخشبي من خلفه ثم اختفى بسرعة البرق.
استمر العجوز يكرر تصرفه هذا طوال النهار, مهما كان العمل الذي كان يزاوله الشاب، ولذلك لم يكن الشاب مرتاحاً وهو يعلم أن سيده سيظهر وراءه في أي لحظة ويضربه بالسيف الخشبي، ومع مرور الوقت، بدأت تتطور لدى الشاب مهارة الشعور بحركة المعلّم وإيقافه عند اللحظة المناسبة مهما كانت الزاوية التي قد يظهر منها.
علم الشاب أنه تعلم شيئاً قيّماً وشعر برغبة جامحة في الاستمرار في التعلّم, وفي صباح أحد الأيام، وبينما كان الأستاذ مشغولاً بتحضير وجبة من الخضار، تناول الشاب عصا غليظة وحاول أن يقوم بما قام به معلمه، إلا أنه تفاجأ بردّ المعلّم للضربة عندما فاجأه بها من الخلف. فقد تناول المعلّم غطاء وعاء الطبخ والتف حول الشاب مستخدماً الغطاء درعاً واقياً ليصد به ضربة الشاب.
انحنى الشاب لمعلّمه باحترام وسأله: “سيدي، هل يمكن أن تخبرني عن الحكمة من هذه الدروس؟” أجاب المعلم: “الإدراك..”
وما يعني هذا..؟
عندما طلبت منك أن تقوم بالأعمال المنزلية، كان ذلك لمساعدتك في إدراك أن هناك شيئاً ما يحتاج إلى تغيير، وعندما هاجمتك فجأة بالسيف الخشبي، أمكنك أن تطور مهارة الإدراك لديك بغض النظر عن الجهة التي أظهر لك منها فأصبح بإمكانك أن تتعرف على مكاني وتوقفني في أي لحظة أظهر لك فيها. أصبحت مدركاً تماماً للمحيط حولك إلى درجة تطوير الشجاعة– وشجاعتك تحديداً تمكنت من تطويرها بنفسك، قررت أن تهاجمني، ولاحظت كيف تصديت لهجمتك بسرعة، ها أنت أيها الشاب قد تعلمت سر قوة المعلم العظيم: قوة الإدراك.
أنت أيضاً يمكنك أن تصبح واعياً ومدركاً لما يدور حولك، لمجريات حياتك.. عندما تصبح مدركاً لنقاط القوة ونقاط الضعف لديك.. يمكنك أن تقوم بجميع التعديلات اللازمة لتعيش حياة أكثر سعادة وأكثر وفرة.
تفهّم نفسك وعالمك هو البداية
لن يفيدك الجري إن كان الطريق خاطئاًإن إدراكك للمكان الذي تقف فيه هو الخطوة الأولى في مسيرتك نحو الهدف الذي تنشده. كما يقول أبراهام لينكن: “لو أننا علمنا أولاً مكاننا في الحياة، فيمكننا أن نقرر ماذا سنفعل وكيف نتصرف”.
والآن دعني أسألك: ما هو الموقع الذي تحتله في حياتك؟ كيف هو وضعك الصحي؟ كيف حال جسمك؟ ما هو شكل علاقاتك؟ كيف هو مدخولك؟ هل تستخدم إمكانياتك كما تحب أن تستخدمها فعلاً؟ هل تستخدم وقتك، وطاقتك، ومقدراتك كما يجب؟ ما هي مخاوفك، وما الذي يقلقك؟ هل أنت منفتح على الأفكار الجديدة والتغيير؟ ماذا عن صلتك بالله؟ هل تؤدي صلواتك اليومية؟ متى كانت المرة الأخيرة التي شكرت فيها الله على النعم التي أسبغها عليك والتي لا تحصى؟ متى كانت آخر مرة قدمت فيها يد المساعدة إلى أحدهم؟ هل أنت سعيد حقاً؟
إنّ الجواب على هذه الأسئلة يحتاج إلى الكثير من الشجاعة، إلا أن مواجهة الحقائق ووعينا لـ: من نكون، وماذا نكون، وأين نقف، تعتبر نقلة قوية باتجاه الصحوة وفتح الأبواب للولوج إلى المكان الذي نرغب أن نكون فيه.
والآن دعني أذهب معك إلى أبعد من ذلك؛ إلى فرعين رئيسيين من الإدراك: داخليّ وخارجيّ.
الإدراك الداخليالإدراك الداخلي هو أن تكون على وعي تام بما يحدث داخلك : أفكارك، معتقداتك، عواطفك، وقيمك، ما يثير غضبك وما يشعرك بالحب، رغباتك واحتياجاتك. عندما يكون وعيك الداخلي قوياً، فهذا يعني أنك واع لتصرفاتك المباشرة، لنوعية الأسئلة التي تطرحها على نفسك يومياً، والطريقة التي تعمم فيها المعلومات أو تحذفها. عندما تصبح مدركاً حقاً لما يحدث في داخلك وتبدأ بالتغيير، عندئذ تصبح قادراً على العيش حياة أكثر سعادة مما كنت تظن، أو حتى أكثر مما تطمح إليه.
كن ذاتكيقول ديفيد فيسكوت:
إن الناس الذين يقولون إنهم لا يستطيعون أن يكونوا ذاتهم عادة ما يدعون أن شخصاً ما يحول بينهم وبين ذلك.
كيف يمكن لذلك أن يكون حقيقيا؟ كيف يمكنك أن تكون أي شخص غير نفسك؟- من الممكن أن تتوقف عن كونك ذاتك في حالة خوفك من خوض مخاطرة ما, لكنك حينئذ سوف تصبح تحت وصاية أي شخص يقوم بحمايتك. – ولسوء الحظ, فإن الشخص الذي يقوم بحمايتك يتوقع منك أن تتصرف بالطريقة التي يرى أن عليك التصرف بها, بعبارة أخرى بالطريقة التي قام ذلك الشخص بإنقاذك فقط كي تتبعها.- إذا كنت تخشى أن تكون ذاتك، فمن المحتمل أنك تخاف من فكرة أن تعتني بنفسك أو أن تمسك بزمام أمورك دون تدخّل خارجي. – إذا كنت تخشى أن تكون ذاتك، فمن المحتمل أنك تخشى إطلاق غضبك, إنك تشعر بضرورة أن تضمر غضبك بداخلك، وإلا فقد تُغضب الشخص الذي تعتمد عليه في حمايتك وبقائك على قيد الحياة، أو تخشى حرمانك من مزايا شيء ما إن عبرت عن ذاتك.
اعثر على حياتك وعشها بطريقتك وإن لم تستطع التصرف تجاه مصلحتك القصوى فإنّك بكل تأكيد لن تستطيع أن تتصرّف تجاه مصالح أيّ شخص آخر.
إنني ذاتي.. إنني فقط ذاتي.. وأنا على يقين من أن ذاتي تكفيني.
الإدراك الخارجيالوعي الخارجي يعني أن تكون مدركاً للمحيط من حولك. في هذه الحالة أنت ترى الناس، كيف يشعرون، كيف يصبحون مدركين لاحتياجاتهم، رغباتهم، وإراداتهم. تصبح مدركاً لشروق الشمس وغروبها، للون السماء، لجمال الفراشة، لرائحة الورود العطرة، لابتسامة الطفل الصغير.. عندما يكون إدراكك الخارجي قوياً تشعر كأنك ترى الأشياء لأول مرة. الوعي الخارجي يجعلك تدرك أن لا شيء في الحياة سيبقى ثابتاً، أن الليل يأتي بعده النهار وأن النهار ينتهي مع ظلمة الليل، الفصول تتغير، الطقس يتغير, أنت تتوقع التحديات وتحضّر نفسك لمواجهتها, أنت تدرك أن أمزجة الآخرين في تقلب مستمر، تماماً كأي شيء آخر، وأنت تطور مهارة التعامل معهم وتفهمهم في مختلف الظروف.. الإدراك الخارجي يعني أن تصبح مدركاً لكل ما تقول وتعمل، أن تخلق التميّز في حياتك وفي حياة الآخرين.
هل يمكنك أن تتخيل حياتك وأنت تجني حصيلة الوعي الداخلي والخارجي؟
والآن دعني أقدمك إلى القوتين اللتين تشكلان الدافعين الأساسيين لكل إنسان، إنهما تتحكمان بتصرفاتنا وأفعالنا: الألم والمتعة.
تفهّم محرّكاتك: الألم والمتعةنحن كبشر مدفوعون بقوتين مهمتين؛ إنهما الحافز الأساسي لسلوكياتنا وتصرفاتنا, هاتان القوتان هما الألم والمتعة, نحن نبذل كل ما بوسعنا لنتجنب الألم، كما لدينا رغبة جامحة للحصول على المتعة في حياتنا.
أعطيك أمثلة:صديقي مستسلم للألم والمتعة.. يدخن!
كان أحد أصدقائي مدخناً مدمناً، كان يدخن بمعدل ثلاث علب من السجائر في اليوم الواحد, في أحد الأيام زرته في مكتبه فلاحظت أنه يدخن السيجارة في عقب السيجارة فسألته:- “هل تعرف كم تدخن؟”- نعم أعرف, وأعرف أن هذا يسيء لصحتي، وأنه يمكن أن يسبب لي السرطان – سألته ما إذا كان قد فكر في يوم من الأيام أن يقلع عن التدخين فأجاب:- عدة مرات، ولكن هذا كان مؤلماً جداً .. أنا أستمتع بالتدخين.. السيجارة صديقتي .. هي تساعدني على التأقلم مع الحياة وضغوطها.- استمر في التدخين وأعدك بأن هذه العادة ستخلصك من ضغوط الحياة وإلى الأبد.
صديقي يعلم أن السيجارة سوف تقتله، ولكن لأنه وجد المتعة في التدخين والألم في الامتناع عنه قرر الاستمرار في التدخين, كان مستسلماً بالكامل للألم والمتعة اللتين كانتا تتحكمان فيه بشكل سلبي.
في نقلة أخرى:أردت أن أتعلم الإسبانية, سجلت في إحدى الدورات وانتظمت ثلاثة دروس، ولكنني ما لبث أن توقفت، هل تعرف لماذا؟ لأنني في البداية كنت أركز على المتعة في تكلم الإسبانية، وتسيطر عليّ فكرة الذهاب إلى أمريكا الجنوبية لإلقاء محاضراتي هناك بلغة القوم, كنت مدفوعاً بالرغبة في تحصيل المتعة, بعد حضوري لدرسين، أدركت أنه يتوجب علي أن أقرأ وأدرس، شعرت أنه بإمكاني أن أستغل وقتي بطريقة أفضل، وبذلك بدأت أشعر بالألم، ألم “إضاعة وقتي”، والنتيجة أنني توقفت عن الحضور.
هل يبدو هذا مألوفاً لديك؟هل مرت بك تجربة مشابهة؟ هل حدث أن اشتريت كتاباً ذات مرة، إلا أنه لم يتسن لك قراءته؟ أو ربما قرأت بضع صفحات منه ولكنك لم تنهه؟ أو ربما قرأته كله ولكن لم تتمكن من تطبيق المعلومات التي قرأتها فيه؟
تقول الإحصائيات أن أقل من 10 % من الأفراد الذين يشترون كتباً أو أشرطة تسجيل يستخدمونها فعلاً – والباقي لا يستخدمونها، ألا يبدو هذا غريباً؟ يذهب الناس إلى محلات بيع الكتب، ويدفعون المال، ويصطحبون الكتب معهم إلى المنزل وهم يعرفون أن المعلومات التي بداخلها تفيدهم، ومع ذلك لا يستخدمونها؟
الشيء ذاته يحدث مع الأدوات الرياضية, الناس يشترون الأدوات الرياضية، ينفعلون ويستثارون من الوزن الزائد، فيقررون تخفيض أوزانهم ليتمتعوا بصحة أفضل, يبدأ أحدنا باستخدام المعدات الرياضية يومياً ربما لمدة أسبوع أو أكثر, وفي الأسبوع التالي تبدأ فترات التدريب تتناقص إلى ثلاث مرات في الأسبوع، ثم إلى مرة واحدة في الأسبوع ثم تتوقف نهائياً.. المدهش في الأمر، أننا بعد فترة، نشاهد دعاية تجارية على التلفاز مثلاً لجهاز رياضي جديد فتتولد عندنا الرغبة من جديد، وبالتالي نطلب الجهاز بالبريد السريع, وبحماس نبدأ فترة تدريبية جديدة، ولكنها تتكرر بنفس الطريقة الأولى إلى أن ينتهي الأمر بالجهاز الجديد إلى جانب نظيره الجهاز الأول.
ذات الأفراد يستمرون في شراء الأجهزة، ولا يستخدمونها. هل يبدو ذلك مألوفاً لديك؟
وجدت هذا مهمّاً فقررت أن أبحث وأستقصي، لأكتشف في النهاية لماذا نحن نقوم بما نقوم به ولماذا لا نفعل ما نريد أن نفعله؟ قد يقودك كل من الألم والمتعة إلى القيام بفعاليات تحدّك، إلا أنهما يمكن أن يساعداك أيضاً على القيام بأفعال تطور من نوعية الحياة التي تحياها.