النجاح يولد من رحم الفشل.. لكن ذلك يحدث فقط للذين يتعلمون من تجاربهم وتجارب الآخرين.. فكم من مؤسسة ضلت طريقها بسبب سوء الإدارة، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك؛ لأنها لم تفكر في نواحي ضعفها لتتلافاها ولا في نواحي قوتها لتحافظ عليها وتنميها.
السطور القادمة تعرض لقصص عن إدارة بعض الشركات العالمية التي نجحت ثم تهاوت.. لكنها عادت مرة أخرى للنهوض.. المهم أن نعرف لماذا حدث ذلك.. ونتعلم منه مع مراعاة أنها تجارب نشأت في سياق العالم الغربي الذي يختلف عن واقعنا العربي والإسلامي، غير أن إدارة المؤسسات الكبرى باتت لها قواعد عامة يتفق عليها العالم، وإن اختلفت التفاصيل باختلاف بيئة المؤسسة.
أولى قصصنا لشركة “فورد” العالمية للسيارات التي أصبحت جزءا من التراث الإداري الشعبي؛ فقد بدأ “هنري فورد” عام 1905 من لا شيء، وبعد 15 عامًا أصبح صاحب أكبر شركة سيارات في العالم وأكثرها ربحًا في جميع أنحاء العالم، ووصلت أرباحه آنذاك إلى بليون دولار. لكن الشركة تحولت في عام 1927 إلى خراب، وظلت تخسر لمدة 20 عاماً، حتى باتت خلال الحرب العالمية الثانية غير قادرة على المنافسة.
في عام 1944 تولى “هنري فورد” الحفيد إدارة الشركة، وكان في السادسة والعشرين من عمره ولا يملك التدريب أو الخبرة الكافية، وبعد عامين قام بحركة انقلاب سريع أطاح بأصدقاء جده المخلصين، وأدخل فريقاً إداريًّا جديداً، وأنقذ الشركة، ووضعها في مصاف الشركات القوية في عالم السيارات.
السؤال إذن: “لماذا فشل فورد الجد بعد نجاحه؟”.. هذه هي الأسباب:
1- اعتقاده بأن الشركة لا تحتاج إلى مديرين وإدارة، إنما تحتاج إلى مالك ومنظم للعمل لديه مجموعة من المساعدين. والفارق بين الحالتين كبير؛ لأنه حينما تملك وتدير كل شركاتك بنفسك دون تفويض المسئوليات فقد تنجح لبعض الوقت، لكن من المؤكد أن الفشل سيلحقك في النهاية، أما إذا كان لديك مديرون تفوض لهم سلطاتك وتستطيع مساءلتهم.. فستكون لديك فرصة لمواجهة أي مشكلات وتطوير مؤسستك.
2- كان أسيرًا لمعتقداته؛ فلا يقبل أي حل وسط، وكان يفصل كل من يجرؤ على العمل كمدير أو يصنع قرارًا دون أوامر منه شخصيًّا.
3- حينما اشتدت المنافسة مع الشركات الأخرى العاملة في نفس المجال وتضخمت الشركة، لم يستطع السيطرة على شركته بشخصيته القوية وعصبيته وملياراته.
4- اعتمد على فكرة البوليس السري؛ فكان يحكم الشركة عن طريق التجسس على العاملين وتهديدهم بالفصل.
“سيمنس”.. والناس
فيرنر سيمنس (1816-1892) اختلف تماماً عن فورد الجد؛ فقد كان من أكبر المخترعين في القرن التاسع عشر، واهتم بالناس، وراعى ظروفهم، سواء أكانوا عمالاً أم زملاء مخترعين. لكنه اتفق معه في عدم رغبته في تفويض سلطاته، وإدارته المنفردة للمنشأة.
أسس شركة مبنية على أساس الإحساس بالولاء والمسئولية تجاه الناس، واستطاعت هذه الشركة أن تنمو بشكل سريع شد الانتباه حتى أواخر عقد 1870، إلا أنها تعثرت حتى إنها تخلت عن فرعها في بريطانيا (أغنى فرع لمجموعة سيمنس) بسبب سوء الإدارة، في الوقت نفسه صعدت شركة “جنرال إلكتريك الألمانية” لتنافس سيمنس بقوة.
ويرجع تدهور الشركة لعدة أسباب، من بينها اعتقاد سيمنس المؤسس بأن العلاقات الطيبة الوطيدة هي الضامن الوحيد للنجاح، كما أنه لم يكن يملك مديرين بل معاونين، علاوة على عدم رغبته في إيجاد نظام إداري متكامل يدير دفة الأمور في شركته.
غير أنه بوفاة فيرنر سيمنس تولى ابن عمه “جورج” الشركة الذي استطاع إجبار أبناء المؤسس وورثته على قبول هيكل إداري ومديرين تفوض لهم السلطات، وخلال بضع سنوات استعادت الشركة قوتها ونفوذها.
وبظهور صناعة الأجهزة الكهربائية في مطلع القرن العشرين قامت إدارة الشركة المحترفة التي جاء بها جورج سيمنس بدمج الشركات التابعة لسيمنس، وإيجاد التكامل بينها، وإدخالها في هيكل شركة واحدة قوية، وبذلك ضمنت 40 عاماً من القيادة في صناعة الكهرباء في أوروبا.
إيواساكي.. يملك ويدير
على درب فورد الجد وفيرنر سيمنس سار إيواساكي في اليابان؛ فقد كان لا يفضل المديرين؛ فقد أصر على الملكية الخاصة والمسئولية للمالك المنظم لأعمال الشركة، وانشق بذلك عن التقاليد اليابانية التي تعطي السلطة للأقدمية لا الملكية.
وحول إيواساكي شركته إلى شركة مساهمة، وأصدر أمراً بأن جميع الملكيات يجب أن تمنح لرجل واحد، وعليه أن يقوم باتخاذ جميع القرارات، وعلى الجميع أن ينفذوا أوامره، ولقد بدأ إيواساكي عمله عام 1867، وبعد 15 عامًا كان صاحب أكبر قلعة منتجات صناعية متنوعة في اليابان.
وأدى انفراد إيواساكي بسلطة قرار الشركة إلى تعثرها، لكن بعد موته (عام 1885) قام شركاؤه المقربون بإعادة هيكلة الشركة، وبناء أقوى مجموعة إدارية ذاتية مستقلة في اليابان، ومنذ هذا التاريخ نهضت، وسميت شركة “متسيوبيشي”.
ليست إسرافا
لقد نظر كل من فورد وإيواساكي وسيمنس للإدارة والمديرين على أنها إسراف ليس له داعٍ، وأن الرجل العظيم يمكنه حكم منظمات وهياكل أعمال كبيرة معقدة عن طريق معاونيه ومساعديه؛ أي بواسطة المتزلفين له والمنافقين لديه.
إن عدم إدراك هؤلاء الثلاثة أن المنشأة الصغيرة قد تنجح إداراتها ببعض المعاونين، والمنشأة الكبيرة تحتاج بالفعل إلى إدارات وأنظمة وسلطات غير سلطة من يملك.. أدى إلى فشلهم.
في المقابل فإن “سلون” المعين كرئيس شركة “جنرال موتورز” الأمريكية آمن بضرورة وجود مجموعة محترفة من المديرين تفوض لهم الاختصاصات، واستطاع بذلك انتشال شركته من التعثر؛ بإنشائه إدارة قوية، والحد من نفوذ ملاك الشركة الذين كانوا يديرونها بمنطق الإقطاعية، ومنذ ذلك الحين أضحت “جنرال موتورز” من أقوى شركات صناعة السيارات الأمريكية.
ويمكننا مقارنة المنشأة التي حاول “فورد الجد” إدارتها وتلك التي قادها “سلون” في “جنرال موتورز” بنوعين مختلفين من الكائنات الحية، أولهما: الحشرة التي تكون متماسكة بطبقة جلد قوية جافة، وثانيهما: الحيوان الفقاري ذو العمود الفقري.
فلقد بين العالم البيولوجي البريطاني “دارسي تومبسون” D’Arcy Thompson أن الحيوانات التي يحميها جلد صلب لا تصل إلى حجم معين ودرجة معينة من التراكيب. أما إذا كان الحيوان البري أكبر من ذلك؛ فلا بد له من هيكل عظمي، إلا أن الهيكل العظمي لم ينشأ من الجلد الصلب للحشرة؛ فهو عضو مختلف وذو تسلسل مختلف. وبالمثل تصبح الإدارة ضرورية عندما تصل منشأة العمل الحر إلى حجم معين وتركيب معين. ولكن في حين تحل الإدارة محل هيكل “الجلد الصلب” للمالك منظم العمل؛ فإنها ليست خلفاً له. بل هي بديل له هنا.
فمتى تصل منشأة العمل الحر إلى المرحلة التي يجب أن تنتقل فيها من “الجلد الصلب” إلى “الهيكل العظمي”؟ إن الخط الفاصل هنا يقع بين 300 و1000 موظف في الحجم، وربما يكون الأهم هو الزيادة في تعقيدات العمل؛ فعندما يلزم الأمر أداء مهام متنوعة في تعاون وتواكب وباتصالات مستمرة؛ فإن منشأة العمل الحر تحتاج إلى مديرين وإدارة، وإلا فستخرج الأمور عن نطاق السيطرة، وستفشل الخطط في التحول إلى عمل أو يحدث الأسوأ؛ فتسير أجزاء مختلفة من الخطط في سرعات مختلفة وفي أوقات مختلفة ولأهداف وغايات مختلفة، وتصبح محاباة “الرئيس” أهم من الأداء.
وقد تكون المنتجات عندئذ ممتازة والأفراد قادرين ومكرسين لأعمالهم. وقد يكون الرئيس رجلاً ذا قدرة عظيمة وقوة شخصية، إلا أن منشأة العمل الحر ستبدأ في التعثر والركود، وتنحدر بعدها إلى الحضيض ما لم يتحول العمل إلى “الهيكل العظمي” الخاص بهيكل المديرين والإدارة.
عبر وعظات
إن الدروس التي نستطيع استخلاصها من تجارب الشركات العملاقة التي فشلت ونجحت مرة أخرى في النهوض هي ما يلي:
– إن المشروعات المتوسطة العملاقة لا يمكن لها أن تستغني عن الإدارة والمديرين، ونحن لا نحتاج الإدارة لمجرد أن العمل كبير الحجم، ولا يستطيع الفرد القيام به.. بل إن إدارة المشروع تختلف تماماً عن إدارة ممتلكاتنا الشخصية. فلا يمكن لمالك المشروع أن يمارس كل الوظائف الإدارية.
– إن المشروعات الصغيرة التي يرغب أصحابها في النمو، عليهم أن يغيروا من مبادئهم وقيادتهم الإدارية حينما تنمو منشآتهم؛ فاللامركزية وتوزيع سلطاتهم على مديرين كفيل بإحداث توازن مع كبر المنشأة آنذاك.
-إن المشروعات الناجحة هي التي تؤمن بأن الإدارة أرقى من الملكية، حتى لو كانت هناك جهة واحدة تملك المشروع؛ فشخصنة المشروعات تودي بها إلى الهلاك، أما إرساء قواعد إدارية مستقرة يشرف عليها مجموعة من المديرين المحترفين؛ فذلك يكفل البقاء والنجاح والتطوير.