إن تقدم أي امة من الأمم مرهون بوضعية الإنسان لديها ثم وضعية العملية التعليمية و التربوية التي تستهدف هذا الإنسان بصفة عامة، فمن خلال المناهج الدراسية تتم صياغة الإنسان القوي و المتعلم و الكريم على نفسه و على أمته، أو تشويهه عن طريق تعليم فاشل و فارغ فإذا به عاجز خامل .
لا تصح أية إرادة في التطور و النمو نحو الأفضل إلا إذا كانت مصحوبة بإرادة في إصلاح المنظومة التعليمية و التربوية . إنها عملية تحرير الإنسان من دركات الجهل و الخرافات و الخوف و تزويده بعناصر التحرر ثم الإبداع الغير المحدود و الكرامة الإنسانية ، حتى في القران الكريم نجد أن الكرامة مرتبطة بفعل القراءة في بداية سورة العلق: ﴿ اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان مالم يعلم﴾. لكي أوضح للقارئ الكريم مدى الأهمية التي تعطيها الأمم للتعليم و التربية سأسوق حادثة وقعت نهاية الخمسينيات من القرن الماضي :
في أكتوبر 1957 أطلق الاتحاد السوفيتي أول جرم صناعي إلى الفضاء الخارجي سبوتنيك-1 ) ، هذا الانجاز أذهل العالم ، وخصوصا الأمريكان ، و هو حدث جعلهم يستفيقوا من غفلة كانوا يعتقدون من خلالها أنهم الأكثر تفوقا من الروس جراء اختراعهم القنبلة النووية عام 1945، و فاجئهم حجم التقدم المذهل الذي حققه منافسهم الروسي ،و من ثم، حجم تخلفهم في المجال العلمي، بشقيها التطبيقي و المجرد ،كالرياضيات والهندسة، الخ… ، وسرعان ما اهتدوا إلى سبب هذا التخلف، و أرجعوه مباشرة إلى المنظومة التربوية و التعليمية لديهم في تلك الفترة ، معناه أن الطالب الروسي أكثر تفوقا و اجتهادا من الطالب الأمريكي وهو ما يترتب عنه أن المهندس الروسي أكثر عبقرية من المهندس الأمريكي و النتيجة هاهي : كرة معدنية لامعة من صنع روسي ، لا تتعدى كتلتها 74 كلغ ، لا يتجاوز قطرها نصف متر، تدور حول الأرض كل ساعة تقريبا و متحدية ألمع العقول العلمية الأمريكية بإشاراتها الراديوية المتقطعة : تيت … تيت … تيت…. لا غير .
و بسرعة غيروا البرامج التعليمية ابتدءا من القسم التحضيري من التعليم الابتدائي إلى السنة النهائية من الدكتوراه ، بحيث أعطوا أهمية للفعالية العملية البراغماتية المباشرة . وأزيدكم علما ، أنهم لم يخصصوا ميزانيات ضخمة لتنقل و رفاهية أفراد اللجنة المعينة لإصلاح التعليم إلى روسيا أو اليابان أو حتى بوتسوانا لتستجدي المناهج التربوية كما وقع عندنا ، لا ، كل شيء يصنع انطلاقا مما هو متوفر في البلاد و الوطن، و كل ما جاء من الخارج سيكون مآله الفشل و الاندثار لأنه نبت في بيئة غير البيئة الوطنية ،
والنتيجة جاءت بعد 12 سنة من هذا التاريخ، أي 21 يوليوز عام 1969 خطا رائد الفضاء الأمريكي نيل ارمسترونغ أول خطوة له فوق سطح القمر نيابة عن البشرية جمعاء.
هذا هو مسار الحكومات التي لديها أهداف واضحة و جلية ، كل شيء ينطلق من التعليم ، فالتفوق على دولة ما في ريادة الفضاء الخارجي لكوكب الأرض و غزو الكواكب الأخرى تتم اولا عبر التفوق عليها داخل صفوف الدراسة ، لأنه بالتعليم تتم صناعة الإنسان ، يعني ما هو الإنسان الذي نريده ؟ ، في المغرب كان التعليم يسير في الاتجاه الصحيح منذ الاستقلال إلى بداية الثمانينات ، خلا ل هذه الفترة كان التعليم بحالة جيدة على عدة مستويات :
– المرودية حيث كان الطالب المغربي مشهود له بالتفوق النوعي على كل المستويات ، حيث انه كان إذا حدث أن نزل طالب مغربي في جامعة أوروبية مثلا سرعان ما يلتف حوله الطلبة الأوروبيين لأنهم يدركون تفوق الطلبة المغاربة في العلوم النظرية كالفيزياء و الرياضيات ، أما حاليا فإنهم ينفرون منه نفور الإبل من البعير الأجرب ، هذا إذا حصل على الفيزا للدراسة في أوروبا و نزل في جامعة ما .
– قيمة رجل التعليم: حيث كان رجل التعليم مهاب الجانب و مقدرا ، سواء من طلبته أو من المجتمع بصفة عامة ، كان المعلم و الأستاذ مربيا قبل كل شيء .
– حركية المجتمع: كان المجتمع المغربي بصفة عامة قد دخل في حركية ثقافية و سياسية تتشرب من الصحوة الإسلامية الآتية من المشرق و من الايدولوجيا الشيوعية من الغرب ، و كانت بعضها ذات طابع عسكري، حيث تعرض الحسن الثاني لعدة محاولات انقلابية فاشلة .
غير ان هذه الحركية الاجتماعية التي كانت كثرة الانقلابات إحدى تجلياتها الغير مسيطر عليها جعلت الحسن الثاني يحس بالخطر منها ،وهو ما حدى به إلى نهج سياسة الحذاء الصيني في المنظومة التربوية ، و الحذاء الصيني لمن لا يعرفه، هو حذاء من خشب يوضع في قدم الفتاة الصينية بحيث تبقى قدمها صغيرة رغم تقدمها في السن ، قام الحسن الثاني بتغير مناهج الدراسة بحيث يكون الطالب المتخرج فارغا في تكوينه و تعليمه من كل عناصر القوة و الفعالية ، وهو ما حدث فعلا حيث أن هذه السياسة كانت لها نتائج على عدة مستويات :
-1 دخول المجتمع المغربي في خمود حركي قيده عن كل محاولة للتطور و النهوض ، إلى حدود الساعة ، نتيجة تضافر مجموعة من العوامل أهمها الخوف المزروع في النفوس منذ سنوات الرصاص .
-2 استمرار نسبة الأمية في المغرب على نفس الوتيرة منذ الاستقلال إلى الآن ، فكيف يعقل أن يبقى نصف شعب جاهل لا يقرا و لا يكتب لأزيد من نصف قرن من استقلاله ؟ ،
و لم تتدارك الدولة عيب هذه الوضعية الا بعد تتابع تقارير المنظمات الدولية التي كانت تصنف المغرب في المراكز المتخلفة ، و هو ما حدا بها اي الدولة ، الى إطلاق برامج محو الامية في البوادي و القرى مستعينة بالمساجد و المدارس ، و لكن بعد فوات الاوان
-3 خلو الفكر المغربي الناتج عن التعليم الأكاديمي الصرف من الفكر الخلاق والتجديد العلمي و الابتكار التكنولوجي، وان كان هذا يدل على انعدام البحث العلمي في المغرب ،
فطريقة تدريس المهندسين مثلا غارقة في البيروقراطية و الضعف و انعدام الرغبة ، حكي لي صديق تخرج مهندسا في الاتصالات كيف أن المدير كان يغلق على الأجهزة الالكترونية داخل خزانة من حديد و يحتفظ بالمفتاح في جيبه، مخافة أن يفسد الطلبة المهندسين هذه الرادارات، و كيف أن الأساتذة يدرسون مواد ليست من اختصاصهم ….
و النتيجة أننا لم نسمع يوما ما دكتورا أو مهندسا تخرج من جامعة مغربية أنجز بحثا او اختراعا حصل به على جائزة نوبل مثلا .
-4 فصل التربية عن التعليم : و هو ما يفسر اختفاء ذلك التقدير، التي كانت لرجال التعليم إبان السبعينيات و الثمانينيات كما قلت، بحيث انحسر دور رجل التعليم في تلقين الدرس داخل القسم ، و لا يتدخل في سلوك الطلبة، و هذا واضح من خلال النظر إلى معايير وزارة التربية الوطنية في اختيار رجال التعليم ،وهي معايير أحادية البعد ، يعني أنها تكتفي بقراءة بيان التنقيط المحصل عليه في الامتحانات لتحدد إن كان مؤهلا ام لا ، أما بكونه ذو أخلاق فاضلة أو مدخنا أو سكيرا فهذا ليس من شأنها ، وهو ما نتج عنه انتشار مظاهر الانحراف داخل المؤسسات التعليمية و انحطاط المستوى الأخلاقي للطلبة و شيوع الفكر التخريبي لدي الأغلبية الساحقة منهم ، وأصبح هم الطالب عندنا محصور في ثلاثة أمور:
* موسيقى الراي و الراب مستعينا بالة MP3 . MP4,
* الدوري الاسباني البارصا و الريال مستعينا بالقنوات الفضائية إلى
درجة التعصب الأعمى لأحد الفريقين .
* العلاقات العاطفية بين الجنسين مستعينا بالهواتف الجوالة عبر: msn , mms, sms
و هذا معناه أن الطالب لا يجد في المناهج التعليمية ما يتناسب و طموحاته و ميولا ته العلمية والأدبية الآنية ، وهو ما يجعله يرفض ما تعلمه في القسم عن طريق محوه بالموسيقى و الأغاني بصفة عامة ، لأنه لا يمكن جمع معادلات اينشتاين و فيثاغورس مع كلام المغني البركاني أو الكرسيفي أو التاوريرتي ….الخ.
-5 تقهقر مردودية التعليم في المغرب إلى دركات عالمية مخجلة، حيث أصبح ترتيب المغرب بجوار كل من غزة و الصومال و جيبوتي …الخ. ولكم أن تقارنوا إمكانيات المغرب مع ظروف و إمكانيات غزة والصومال .
هناك نتائج أخرى كثيرة لا يسعنا المجال للتفصيل فيها :
كالتسيب المدرسي ، و الهدر المدرسي، و الاكتظاظ داخل القسم ، و انسداد الأفق المدرسي ، الغش المدرسي ، عدم مواكبة التعليم لمتطلبات سوق الشغل، هجرة الأدمغة ، انعدام البحث العلمي ، انشقاق التعليم إلى عام شعبوي وخاص نخبوي، انتشار الزبونية في التعيين و إسناد المسؤولية التربوية إلى غير أهلها الخ …
خلاصة لما أود قوله، هو أن مستقبل الشعوب و الدول يوجد في المعرفة و المعرفة هنا هي تلك المنتجة لرأس المال ، فالمعرفة التي لها مردودية، يكون مصدرها الإنسان الذي يتم تكوينه كي يكون قادرا على إنتاج الذكاء الخلاق، الذي من خلاله تتولد قيمة مضافة إلى منتوج معين يغزو به العالم (الهواتف النقالة و الحواسيب الخ…) ، ومن ثم انتفاء الحاجة إلى المواد الأولية من خامات و موارد طبيعية ضخمة ، سأعطي مثال على دور الفكرة في التقليص من دور المادة مستعينا بأفكار أوردها عالم المستقبليات المهدي المنجرة ( و الذي نتمنى له الشفاء العاجل) ،مثلا نريد تمكين عشرة ألاف مكالمة هاتفية يومية بين مدينتين، ففي الماضي كنا نحتاج إلى مد خطوط الأسلاك بين المدينتين، وهذه الأسلاك تكلفنا حوالي أربعين طن من نحاس الخام الذي نستورده و نصنع منه الأسلاك لتمرير المكالمات الهاتفية ، أما في الوقت الراهن فانه بإمكاننا تركيب مختبر صغير، بحجم ثلاجة، ننتج فيه ألياف بصرية قادرة على تمرير نفس العدد من المكالمات مع فارق جوهري، هو أننا سنحتاج فقط أربعين غرام من الزجاج ذو النقاء العالي لتمرير هذا العدد من المكالمات ، إذن بفضل هذه التقنية المستحدثة اكتفينا بالأربعين غرام من الزجاج عوض الأربعين طن من النحاس، القيمة المضافة هنا هي قيمة براءة الاختراع ، قيمة البرنامج الحاسوبي ، قيمة الخلق و الإبداع ، و هذا ما يسمى بلامادية المادة ، يعني خلق أفكار جديدة يتم الاستغناء فيها عن المواد الأولية ، ومن اجل الوصول إلى هذه الحالة لابد للحكومات أن تجعل الإنسان محور اهتمامها تربية و تعليما وتكوينا، ثم نشر قيم الديمقراطية و قيم الحرية و الكرامة للإنسان أولا وأخيرا ، يعني أن تكون الحكومة في خدمة الإنسان المواطن و ليس العكس ،
إن الإنسان أو الجيل الذي نريد به أن نحقق الريادية على مستوى العالم يتم إعداده منذ الأيام الأولى للمدرسة ، يعني وضع برامج تعليمية تهدف إلى إشباع هذا الإنسان بقيم الحرية و العدالة ثم التجديد و الابتكار.
إن قوة أية دولة أو امة تنبثق من قوة أفرادها ، و دور الحكومات كما قلت هو كيف تجعل المواطن وكل عناصر المجتمع من خلال البرامج التعليمية والإعلام و الأسرة و الشارع محصنين فكريا و أسوياء اجتماعيا وجامعين لكل عناصر القوة و النجاح ، أما غير هذا فهو التخلف و التبعية الاقتصادية و السياسية التي يتحتم على المجتمعات العربية خوض نضالات أخرى تكون مكملة لنضالات الاستقلال عن المستعمر الأجنبي و التي يبدو أن المجتمعات العربية قد دشنتها بشكل فعلي و حاسم بالثورات المتلاحقة خلال الأشهر الماضية .
و الله اعلم