تنمية بشرية

حوافز النجاح:تقدير الذات والاعتزاز بالنفس

حوافز النجاح:تقدير الذات والاعتزاز بالنفس

أساس الانطلاق والنهوض، وأهم مميزات الجيوش الإسلامية التي كتب لها الانتصار -بعد توفيق الله ونصره- لم تكن في المعدات أو التسليح، بل كانت في الروح المعنوية العالية، وتلك الروح تكاد اليوم تكون مفقودة في الشعوب المصابة بعقدة الأجنبي الذي نأكل بنمطه ونسير بمشيته ونلبس وفق شكله …، ومنا من فقد ذاته وتقمص شخصيته في سبيل البحث عن ذاته داخل ذوات أخرى، وتجاوزت تلك المحاكاة العمياء المظاهر والأشخاص إلى الأشياء والبرامج والمناهج، فاستشرت عقدة الأجنبي فينا وأسرفنا في إهانة طاقتنا ووأدنا مبدعينا، وعلمناهم أن النجاح لا يكون بأرضنا، وأنها صحراء قاحلة مجدبة لا تنبت، ولا يصلح لها إلا ما استنبت في أرض أخرى غيرها؛ فلذك لما نأتي بتلك النبتة لا تصبر كثيرا حتى تنعى وتعلن وفاتها؛ وليت من استقدمها أكرمها بالدفن؛ فما رأيت شيئا ينتفع به بعد موته؛
كما رأيت ما يفعله متستقدمو تلك البرامج والمناهج التي يحتفظون بها حتى بعد إعلان وفاتها؛ حالهم:

ولو أن نارا نفخت بها أضاءت *** ولكنك تنفخ في رماد

وحري بأبناء أمة الإسلام في ظل ما تشهده بلدانهم من تغيرات؛ أن ينتبهوا لهذا الداء العضال؛ حتى يأخذ نصيبه من التغيير، وكل ذلك لا يتم إلا بإعادة النظر في الذات واكتساب الثقة في النفس، وتصحيح الرؤية، ورؤية الإنسان لذاته مرتبطة ببيئته التي يعيش فيها وثقافته التي يتلقاها، وتبعا لتكوينه تكون رؤيته لذاته التي قد يرفع قدرها ويمنحها الثقة ويعتمد عليها، أو يحتقرها ويتجاهلها ويظل باحثا عن الآخر معتمدا عليه في كل شيء، وتلك أمارة امتهان الذات وانتقاصها، وقبل أن نطلب من الآخر أن يقدرنا ويبوئنا المكانة اللائقة يجب أن نفعل ذلك نحن بأنفسنا أولا؛ فذاتك أنت التي ترفعها أو تضعها بفكرك وعملك، فإذا كنت لها ممتهنا لا يعقل أن تطلب من الغير أن يكون لها محترما، وإن كنت لها محتقرا فمن الحماقة أن تنتظر من الغير أن يكون لها مقدرا.

ومن تأمل حالنا يجد منا من بلغ الغاية في احتقار الذات باحتقار كل ما ننتجه أو يمكن أن ننتجه؛ فيحكم على آثارنا بالامتهان والإعدام قبل أن تخلق، وتظل ثقافته الراسخة العالقة في ذهنه الاتكاء على الآخر فيما أعده وأنتجه، وكأنه هو الذي يفكر ويبدع ويتقن ويحسن، وذلك ظلم للنفس وامتهان يمارس على الذات ويسوغ للآخر أن يمارس الامتهان ذاته ويزيد.

وتجليات احتقار الذات تعدت إلى احتقار من هو على شاكلتنا من بني جلدتنا؛ فسخرنا منهم كما سخرنا من أنفسنا، ومجدنا غيرنا وبنينا لهم الصروح والأمجاد بالإعجاب بما أنتجه والتعلق بما يصدر عنه ولو كان ما عندنا أفضل وأحسن.

والنظرة للذات يجب أن تكون مصحوبة بالثقة والاعتزاز بالنفس والاعتداد بها والاعتماد عليها، واعتداد الإنسان بذاته خلاصة رؤيته لها وتصوره عنها، وكيفما تصورها هو يمكن أن يتصورها الآخرون؛ كما أن احترامها حافز لتحقيق النجاح، ولما نقرأ سير العظماء في تاريخنا الإسلامي نجد عامل الثقة في النفس واحترام الذات عندهم سمة بارزة وذلك الاحترام هو الذي دفعهم للاعتداد بما عندهم وإبراز قدراتهم للمجتمع؛ ومن ذلك ما حكاه القرآن عن نبي الله يوسف: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 55).

ويتجلى الاعتزاز بالنفس والاعتداد بها في أبهى صوره في قصة البطل ربعي بن عامر “فبأمر من قائد جيوش المسلمين سعد بن أبي وقاص، وبطلب من رستم قائد قوات الفرس، وقع عليه الاختيار، فذهب للتفاوض مع الفرس. لبس ثياب الحرب، وامتطى صهوة حصانه، وما ثقته بنفسه إلا مستمدة من قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق:3)، حفظ الآية وعمل بها بيقين تام، فذهب مطمئنا آمنا، فإن قتل فهو شهيد في رحاب الله، وإن عاش عاش عزيزا. فلما سمع رستم بقدومه، أمر بزخرفة موقعه الذي هو فيه، رغبة منه في إرهاب رسول المسلمين أو ترغيبه، فلما اقترب ربعي من هدفه، رأى ما صنع الفرس استعدادا لقدومه، من زخرفة وزينة تذهب الألباب تفنن الفرس بصنعها، ومن طوابير الفرسان الأشداء ارتدوا أبهى الحلل، وطبول حرب تقرع على وتيرة واحدة، وأبصار شاخصة ترمي بشررها على هذا الرسول القادم من جزيرة العرب، امتلأ المكان واكتسى بصمت رهيب، إلا من تلك الطبول. ولكن كل ذلك لم يقع في نفس ذلك البطل، ولم تهتز شعرة في بدنه، لأن نفسه تربت في مدرسة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمن كان الله معه ما ضره من يكون عليه، فبتهكم على حالهم، جلجل صدره المليء بالإيمان قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} (مريم: 74) استمر ربعي في سيره نحو رستم، ولم يعبأ بالأصوات التي نادت بأن ينزل من حصانه و ينتزع سلاحه، بل استمر فوطأ بقدم حصانه السجاد الوثير، وترجل منها وربطها بوسادتين مصنوعتين من حرير وذهب. فلما دخل على رستم، اختار أن تكون له الأرض مجلسا، فقال له الحرس: ما حملك على فعل ذلك ؟ فرد عليهم ربعي بن عامر: إنا نكره أن نجلس على زينتكم. هنا علم رستم أن كل ما وضع من زينة لم تصب قلب هذا الرسول أو عقله، فأصابه الإحباط وأتت النتائج عكسية عليهم، فبدلا من أن يرهبوه، أرهبهم رضي الله عنه. فيا له من اقتحام صنديد، ويا لها من هالة إيمان دخلت وأرهبت أنفس الفرس، ويا لفراسة سعد بن أبي الوقاص الذي عرف من يختار لهذا المقام.

قال رستم: ما جاء بكم ؟ فرد على الفور ربعي فقال: الله جاء بنا والله بعثنا إليكم، لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

كلمات تكتب بماء الذهب انطلقت من لسان ربعي لخص بها الإسلام ودوره في الحياة، قالها من دون تحضير أو ارتباك. استمر ربعي بالتفاوض مع رستم، وأنهاها بإعطائهم ثلاثة أيام للتفكير، وقال لهم: نحن في حل بعد انقضاء المهلة. فكانت معركة القادسية، وبداية فتح بلاد فارس، على أيدي رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ومنهم هذا البطل ربعي بن عامر رضي الله عنه”.

إنه الاعتداد بالذات وتقديرها، يصنع من الإنسان العجائب ويفجر فيه المواهب ويولد منه الطاقات؛ فيشعر بنفسه وكيانه، وحينها يؤدي دوره في الحياة كما أريد له؛ ومن لا يقدر النفس قدرها ويعطيها قيمتها فهو شاعر بفقدانها، والشيء إذا كان مفقودا لم يكن له أثر؛ فتأمل: هل أنت ممن يقدر ذاته أم يحتقرها، وبين الشعورين خيط رفيع يفصل بين الفشل والنجاح في الحياة!.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى