خـلاف عقول.. لا خـلاف قلوب!
أ.سحر المصري
الحمد لله الذي خلق فهدى.. وأرسل نبيّه ليُظهِر الدين الحق.. ففتح به قلوباً غلفاً وأنار عيوناً عميا.. فأبصرَت وكان حداؤها عجلتُ إليك ربي لترضى..
إن ممّا يثلج الصدر حقاً هذه الصحوة الإسلامية المباركة.. التي اجتاحت البلاد.. فاهتَزَت ورَبَت وأنبتت شباباً موحِّدا.. على الحق ظاهرين.. لا يخافون من عاداهم وإذا قيل لهم إن الناس قد جمعوا لكم قالوا حسبنا الله ونِعم الوكيل عليه توكّلنا وإليه أنَبنا وهو وليّ الصالحين..
ولكن هذه الفرحة قد شاكها ألم.. فلئن أجَلتَ بصرك بين هذا الحشد المؤمن وجدتَ ما يطعن كبدك مما هو حاصل في ساحة الدعوة.. تفرِقة وشقاق.. لِم؟ لأنهم لم يستطيعوا أن يستوعبوا أن الاختلاف سُنَّة الكون فجعلوه منبعاً للخلاف! فتراهم يختلفون.. ثم لا يزالون كذلك حتى تتفرّق القلوب وتصبح الحياة مسرحاً للتشرذم والصراعات!
“ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ“.. إعجاز الله جلّ وعلا يتجلّى في خلقه.. ألواناً وأشكالاً وألسنة وطباعاً ولغاتٍ مختلفة.. تعدّدت اللهجات.. واختلفت الشخصيات والأذواق حتى في البيت الواحد.. فكلٌّ يفكّر انطلاقاً من خلفيته الشخصية والنفسية والاجتماعية والثقافية.. وهذا بالطبع يسبّب اختلافاً في الحكم على الأشياء..
سنّة الكون أن لا نكون نسخاً مكرّرة.. وإلا فكيف تحلو الحياة وتستمر.. وكيف نبدع ونطوِّر ونرقى إن كنا كلنا على نفس المستوى الفكري والثقافي؟!
لطالما تفكّرتُ أن هذا التنوّع في التفكير والتعبير والتصرّف هو اختلاف طبيعي.. وكلما كثُرَت الآراء وتلاقحت الأفكار كان الانتاج ثرياً وخصباً.. ولا أدري لِم يريدون لهذا الاختلاف أن يكون نواة بركان تطال حممه من يقربه فتنبثق عنه حمماً تلسع.. ونيراناً تلفح!
يكفي أن ينظر البعض اليك ليعرف من خلال لباسك حيناً ومنطقك حيناً آخر الى من تنتمي.. فتبدأ النظرات المستخِفّة.. وقد يكفّرون.. ويبدِّعون.. ويُفَسِّقون.. لأنهم هم أتباع الحق – بنظرهم – ومن سواهم دون ذلك!
تمهّل يا أخي.. ليس هكذا تورِد الإبل.. فلئن اتّبعت إماماً فارحم من اتّبع غيره.. ولئن اقتنعت بمنهج جماعة.. فلا تُنكِر على غيرك اقتناعه بمنهج مختلف.. طالما أن القواعد الأساسية للدين قد تواجدت فيك وفيمن تختلف معه في الرؤى! وليتّسِع صدرك لمن خالفك المنهج والمذهب والجماعة! ورحم الله الإمام الشافعي- رضي الله عنه- حيث قال:”رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب“، وقال أيضًا “والله لوددت أن يظهر الله الحق ولو على لسان خصم“.
واسمع معي إلى ما قال يونس الصدفي: ما رأيتُ أعقلَ من الشافعي، ناظرتُه يوماً في مسألة، ثم افترقنا ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: “يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في المسألة؟!” سبحان الله.. هذه أخلاق الرجال! لئن اختلفوا في مسألة فهم لا يزالون اخواناً في الله.. تربطهم أسمى رابطة قدسيّة يمكن أن تربط شخصين على وجه البسيطة.. تلك الأخوّة التي تجمع المسلمين على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء عليها..
ولنقرأ معًا هذا الحديث النبوي المتفق عليه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه“. أين نحن من حديث قائدنا وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ هل حدّد أن يكون أخاك من الجماعة نفسها؟ أو على المذهب نفسه؟ لقد أطلق القول ولم يقيِّد صلوات ربي وسلامه عليه إذ قال”أخاه المسلم” يعني يكفي أن يكون من تتعامل معه مسلما ليكون أخوك! ولتقتضي عليك هذه الأخوّة واجبات وحقوق.. فأفِق يا أخي من غفلتك واستهدِ بهدي من ترجو أن يبلّغك ربك جل وعلا شفاعته يوم القيامة.. ووالله إن هذه الدنيا بما فيها لا تساوي عند الله جناح بعوضة.. أفلا يكون أولى لنا أن لا نبدِّل الذي هو أدنى بالذي هو خير فنبيع أُخرانا بدنيانا؟!!
وما زلنا نتكلّم عمّن بغض الآخر لاختلاف مذهبه أو جماعته؟ فكيف بنا اذا رأينا في نفس الجماعة من يتخاصم ويتدابر لاختلاف في وجهات نظر أو ابداء رأي؟! أليس هذا ما يذيب القلب من كمد؟! ومن المؤسف حقاً أن يتحوّل هذا الاختلاف في الرأي الى عناد وانتصار ذاتي فيتولّد العداء لمن كان له باعاً معه في الدعوة ذاتها وقد تلقّوا من مشرب واحد!
اختلاف.. وتباغض.. وتقاطع.. وتخاصم وربما تحارب! منبت كل هذا من اختلاف في وجهات النظر.. وصراع لمصالح شخصية واثبات وجود!! وأي ريحٍ ستبقى للإسلام بعدها؟!
ألم يقل الله جلّ وعلا: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا” ألم ينبّهنا حين قال جلّ من قائل” وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ” ألم ينهنا نبيّنا صلى الله عليه وسلّم عن التفرقة حيث قال “لا تختلفوا فتختلف قلوبكم“! وماذا يبقى بعد أن تختلف هذه القلوب؟!! وأي اسلام ننصر وأي عدوّ نواجه إن كنا لا نستطيع كبح جماح أنفسنا عن هواها؟!
ولا بد قبل الأفول من أن نتطرّق قليلاً إلى آداب الخلاف.. لعلّ النفوس ترتقي وتتفتّح آفاق ويتطوّر العمل وتتآلف القلوب والأرواح.. فنُحيل الاختلاف حافزاً للإستمرار ولشحذ الهِمم..
• النقطة الأولى هي إحسان الظن.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوّة”..
• التواضع مع المخالِف.. والحوار بطرق راقية وأدبٍ جمّ وذوق.. ومحاولة عرض وجهة النظر بأسلوب يرضاه الله تعالى.. يقول الله جل وعل “وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ” فكيف بالمسلمين؟!!
• الاعتراف بالخطأ إن رأينا الصواب فيما يقول أخونا.. وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين أقرّ بخطئه ولم يستحِ فإن الله جل وعلا لا يستحي من الحق! فقال عمر “أصابت امرأةٌ وأخطأَ عمر“..
• التودّد مع من اختلفنا معه حتى لو بقي كلّ منا على موقفه.. وهذا علي رضي الله عنه يقول لعمر بن طلحة بن عبيد الله، وكان بينه وبين طلحة خلاف يوم الجمل: “إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك في الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}..
• الحرص على أن لا يلفظ من قول قد يؤدّي الى التباغض والتجريح حين الحوار ومحاولة البُعد عن الألفاظ التي تسبِّب الفرقة.. ويجب أن يفكر دائماً أن شدّته ستزيد من شدّة الخلاف والتباغض.. وأن الكلمة الثقيلة لا تؤدي إلا إلى جرح مشاعر الآخر حتى لا تكاد الجراح تلتئم مهما حاول بعدها أن يداويها.. قال الله عز وجل لنبيّه صلى الله عليه وسلم: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ” وقال سبحانه لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: “فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى” قولاً ليّنا للكافر علّه يتذكّر فكيف بالمسلم يرحمنا الله؟! ولله در الشاعر حيث قال “إن القلوب إذا تنافر ودّها مثل الزجاجة كسرها لا يُجبَرُ!”
• مراعاة الموضوعية.. فلا نرفض الحق لأنه جاء على لسان فلانٍ أو علاّن.. يقول الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه:
“لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله“.. وقال بعض الصحابة: “اقبل الحق ممن قاله وإن كان بغيضًا، ورُدّ الباطل على من قاله وإن كان حبيبًا“.
• محاولة التركيز على نقاط الالتقاء أكثر من مواضع الاختلاف.. والتودّد مع المخالِف وخاصة إن كان من المسلمين الذين وصفنا الرحمن جل وعلا بأننا واياهم إخوة.. يقول الشاعر الإسلامي محمد التهامي “والحب يشفى المعضلات يحلُّها * حلاًّ، به كل النفوس تطيب“.. ويا له من حبّ راقٍ ذلك الذي يجمعنا على غير أنساب بيننا.. وينتهي في ظلٍّ ظليل.. عند مليكٍ مقتدر..
• ومقولة لو كُتِبَت بماء الذهب لما وفّيناها حقها.. يقول الشيخ محمد رشيد رضا والتي تبنّاها الإمام حسن البَنّا وأرشد إليها: “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه“.. ومهما تعاظمت الاختلافات.. فإنها لن تعادل في كفّة الميزان ما اتفقنا عليه!
وتبقى كلمة أخيرة أبثّها وأعلم أني قد أطلت ولكنها الجراح نُكِأت.. إن الجمود والتعصّب والتخاصم لا يفضي الا إلى إضعاف شوكة الإسلام.. فلنفكِّر في هذا الجانب قبل الإمعان في الخلاف.. ولنتأكّد أنه إن لم نستطع أن نجتمع على كلمة التوحيد فلن نستطيع أن نؤثِّر في الناس ولن يُقبِلوا على الإسلام.. فالدين المعاملة.. وقد آن الأوان أن ننبذ كل أشكال الفرقة وتتوحّد صفوفنا مهما كانت خلفياتنا وانتماءاتنا لننطلق الى العالم برسالة شرّفنا الله جل وعلا بحملها.. ولننتهِ عن الاختلاف ولنخلع لباس التخاصم لنواجه معاً مكائد الأعداء.. إنّ سحرة فرعون عندما أرادوا أن يواجهوا موسى عليه السلام اتّحدوا.. “فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى” السحرة وهم على الباطل توحّدوا ليواجهوا موسى عليه السلام.. أفلا نتوحّد على الحق ونحن أصحابه لنواجه المكائد التي حيكَت للإسلام ولنبيّه المصطفى عليه الصلاة والسلام ولأبنائه؟! ألم يأن الأوان بعد؟!!!