يرى كثير من الاقتصاديين فى الوقت الراهن أن الهدف الأساسى الذى يجب أن تعمل السياسة النقدية على تحقيقه هو التحكم فى عرض النقود وإدارته ، على النحو الذى يقتضيه تحقيق معدل النمو الحقيقى الأمثل ، مع المحافظة فى نفس الوقت على استقرار الأسعار فى الداخل استقراراً نسبياً ، وكذلك استقرار سعر صرف العملة الوطنية .
وقد اتبعت مصر منذ تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادى فى بداية عقد التسعينيات سياسة نقدية ،تعطى أهمية بالغة لتحرير سعر صرف العملة الوطنية بحيث يتحدد تبعاً لقوى السوق ، وذلك لدعم الاستقرار الاقتصادى وعلاج الاختلالات المالية والنقدية ، التى كان يعانى منها الاقتصاد المصرى عندئذ.
تستلزم الأوضاع والظـروف السائدة فى الوقت الحاضر ضرورة إعادة النـظر فى أهداف السياسة النقدية وأدوات تنفيذها إذ إن الاعتماد على سعر الصرف كمحور ارتكاز لدعم سياسات الاستقرار الاقتصادى ، لم يعد بالضرورة السياسة المناسبة ، فى ضوء المتغيرات الداخلية والخارجية .
ونعرض فيما يلى ، الاقتراحات التى تهدف إلى تحديث السياسة النقدية فى مصر :
يعد اختيار الإطار النقدى المناسب ، أحد الموضوعات التى تحظى باهتمام واسع بين الاقتصاديين ، سواء على المستوى المحلى أو المستوى العالمى ، حيث يحتد النقاش حول كيفية اختيار هدف تسعى السياسة النقدية إلى تحقيقه .
وتزداد أهمية اختيار إطار نقدى مناسب فى حالة الاقتصاد المصرى ، مع التحول التدريجى منذ يناير 2001 ، إلى نظام سعر صرف أكثر مرونة ، ومراعاة لقوى العرض والطلب . هذا مع ضرورة مراعاة أن يتسق هذا الإطار النقدى الجديد مع هدف تخفيض عجز الميزان التجارى ، وضرورة تنمية الموارد من النقد الأجنبى .
ومن الجدير بالذكر أن اتباع سياسة نقدية مناسبة سوف يساهم إلى حد ما فى مواجهة مشكلة الكساد التى يمر بها الاقتصاد المصرى ، وفى تحقيق أهـداف النمو ، ورفع معدلات تشغيل القوى العاملة ، دون اللجوء إلى الاحتياطات الدولية إلا فى أضيق الحدود . هذا بشرط اتسام هذه السياسة بالقدر الكافى من الوضوح والشفافية لدعم مصداقيتها لدى المتعاملين .
ويلزم لتطوير وتحديث السياسة النقدية ما يأتى :
1- استقلال السياسة النقدية ، الأمر الذى يستلزم استقلال البنك المركزى عن الحكومة. ولا يعنى هذا الاستقلال انقطاع الصلة بالحكومة ، إنما يقصد به استقلال هذا البنك فى استخدام أدوات السياسة النقدية ، مثل سعر الخصم ونسبة الاحتياطى ، وعمليات السوق المفتوحة ، وإدارة الاحتياطيات الدولية ، فضلاً عن التدخل فى سوق الصرف للحفاظ على قيمة العملة الوطنية إذا دعت الضرورة إلى ذلك ، على أن يراعى البنك الأهداف الاقتصادية للدولة وحالة الاقتصاد القومى .
وتؤكد التجارب الدولية بوضوح أن فاعلية أدوات السياسة النقدية التى سبقت الإشارة إليها ، تتضاءل إلى حد كبير ، بل وقد تنعدم تماماً فى حالة عدم استقلال السياسة النقدية التى يتبعها البنك المركزى عن الحكومة باعتبارها السلطة المالية للدولة .
وحتى يمكن للبنك المركزى أداء وظائفه بكفاءة وفاعلية ، فمن اللازم الارتقاء بكفاءته المؤسسية والنقدية .
2- تفعيل أدوات السياسة النقدية :
بالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه ، من ضرورة استقلال البنك المركزى فى تصميم وتنفيذ السياسة النقدية ، فمـن الضرورى أن يقترن ذلك بتطوير وإصـلاح طريقة استخدام البنك المركزى لأدواته المباشرة ، من أجل تحقيق الأهداف الاقتصادية للدولة .
وقد يقتضى هذا ، إعادة النظر فى نسبة الاحتياطى القانونى الذى تحتفظ به البنوك لديه آخذين فى الاعتبار نسبة السيولة المطلوبة ، لكى يؤدى الاقتصاد القومى وظيفته فى يسر .
ويرى البعض ضرورة ، تعديل قانون البنوك والائتمان ، بحيث يسمح بحصول هذه البنوك ، على عائد على الاحتياطى القانونى بالعملة الوطنية . فضلاً عما سبق ، فإن على البنك المركزى أن يعمل على إعداد قاعدة عريضة وشاملة من البيانات الإحصائية ، خاصة المتعلقة بتحليل المتدفقات قصيرة الأجل بين قطاعات الاقتصاد القومى ( بشكل نصف سنوى ثم ربع سنوى ) ، ذلك لأهميتها فى توضيح تدفق الأمـوال بين المدخرين (من خلال المؤسسات المـالية المصرفية وغير المصرفية) ، ومستخدمى هذه الأموال (توظيفات المؤسسات المالية لهذه المدخرات) .
ونود أن نلفت النظر ، أنه من الخطأ تصور أن يكون لأدوات السياسة النقدية فى مصر نفس فاعلية هذه الأدوات فى الدول المتقدمة ، لاختلاف الظروف الاقتصادية والعادات والتقاليد الاجتماعية ، إذ يرى البعض أن تخفيض سعر الفائدة على القروض ، سوف يشجع الاستثمار ، وهذا أمر محل نظر إذ أن هناك دراسات كثيرة تؤكد أن التغيرات التى تطرأ على سعر الفائدة على القروض ، لا تباشر تأثيراً يذكر على الاستثمارات ، إلا إذا تعلق الأمر ، ” بمستثمر ” يرغب فى الاعتماد المطلق على القروض فى تمويل ما يقوم به من استثمارات ، ومن ناحية أخرى فإن تخفيض سعر الفائدة ، سوف يؤدى إلى آثار سلبية بالنسبة للمدخرين خاصة إذا ما عرفنا أن مدخرات القطاع العائلى تمثل نحو 70% من حجم الودائع فى البنوك ، وأن تخفيض سعر الفائدة سوف يقلل ما يحصلون عليه من عائد على مدخراتهم ، الأمر الذى يقلل بدوره من طلب المستهلكين على السلع والخدمات المختلفة .
تحديث سياسة التشغيل
نجح برنامج الإصلاح الاقتصادى فى تحقيق معظم أهدافه النقدية والمالية وبحلول عام 1995 حدث تحول إيجابى فى أداء النمو مقارنة بالمعدلات البطيئة التى ظلت تميز أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات . إلا أن هذا الأداء الجيد على مستوى الاقتصاد الكلى ، لم يواكبه أداء مماثل فى مجال سوق العمل و التشغيل بل تفاقمت الاختلالات العديدة لسوق العمل المصرية خلال عقد التسعينيات .
ونظراً لما تتمتع به مصر من قوة بشرية ضخمة ، ولأن النسبة العظمى من البطالة من المتعلمين ، فإن معالجة مشاكل سوق العمل وخلق فرص جديدة للتشغيل يصبح حاجة ماسة وملحة ، سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية ، كما أنه يمثل التحدى الأكبر الذى يواجه متخذى القرار .
ونقدم فيما يلى أهم ملامح سياسة التشغيل المقترحة لخلق فرص عمل منتجة جديدة من أجل خفض معدلات البطالة ، مع تسليمنا بأن حل مشكلة البطالة بصفة جذرية لن يتحقق إلا فى المدى الطويل .
إن الركيزة الأولى لسياسة التشغيل المطلوبة هى أن تكون متكاملة ومنسجمة مع السياسات الاقتصادية الكلية وأن تكون أحد مكوناتها الدائمة . والمطلوب أن تستهدف هذه السياسات تحقيق معدل نمو اقتصادى يعتمد إلى حد كبير على طرق الإنتاج المكثفة للعمل . فالملاحظ أن نمو قوة العمل بمعدل كبير لم يواكبه نمو مماثل فى التشغيل بسبب عجز معدلات نمو الناتج المحلى المتواضعة عن توليد طلب كاف لاستيعاب نحو 500 إلى 600 ألف فرصة عمل سنوياً . كما أن نمط النمو الذى يعتمد على طرق الإنتاج المكثفة لرأس المال ارتبط بتزايد البطالة الصريحة . ومن هنا يتأكد ضرورة استكمال السياسات الاقتصادية الكلية التى تستهدف تحقيق معدل مرتفع للناتج المحلى بمزيج من السياسات القطاعية لزيادة الطلب على العمل . وبالإضافة إلى ذلك ، لابد أن تستهدف حزمة السياسات الاقتصادية المتبعة رفع إنتاجية العمل وزيادة قدرته على المنافسة .
فى إطار هذا الهدف يمكن تحديد ملامح سياسة حفز التشغيل فى العناصر التالية :
1- السياسات الاقتصادية الكلية اللازمة لضمان معدل نمو مرتفع ومستدام
إن المشكلة الأساسية التى تواجه الاقتصاد المصرى منذ منتصف التسعينيات هى التركيز المفرط الذى حدث على سياسات التثبيت مع التراخى فى تطبيق سياسات الإصلاح الهيكلى ، مما أثر سلباً على النمو طويل الأجل ، ولذلك فإن هناك ضرورة لتحقيق معدل نمو متوسط قدره 6% سنوياً للناتج المحلى خلال السنوات الخمس المقبلة حتى يمكن تخفيض البطالة . ويتطلب تحقيق هذا الهدف توافر عدة شروط وهى رفع مستوى المدخرات المحلية ومن ثم رفع معدل الاستثمار عن المعدلات المنخفضة حالياً ، والاستمرار فى إصلاح الأسعار النسبية من أجل توفير نظام رشيد للحوافز ، وتحسين أداء التصدير وجذب المزيد من الاستثمار الأجنبى المباشر لتمويل الفجوة بين المدخرات والاستثمار .
2- تعظيم محتوى العمالة فى النمو
أوضحت تجربة الاقتصاد المصرى فى الربع الأخير من القرن العشرين الانعكاسات السلبية لنمو الناتج المحلى ذى التوجه المكثف لاستخدام رأس المال على أوضاع التشغيل والبطالة ، مما يؤكد على ضرورة توجيه الاستثمارات للمجالات الأكثر قدرة على توسيع قاعدة التشغيل . ومن المهم التأكيد على أن هذا لا يعنى التضحية بتطوير وتنمية الأنشطة المكثفة لاستخدام رأس المال . ذلك أن هذه الأنشطة تعد ذات أهمية حيوية لأنها تولد بدورها أنشطة كثيفة العمل مع توسع المنشآت والإنتاج ، كما أن لها آثاراً موجبة على الإنتاجية . والمطلوب إذن للاقتصاد المصرى هو تحقيق مزيج قطاعى مناسب بين كل من الأنشطة التى تعتمد على طرق إنتاج مكثفة لاستخدام العمل وتلك التى تعتمد بالدرجة الأولى على استخدام رأس المال فى كل فروع الاقتصاد القومى .
إن توسيع قاعدة التشغيل ، ورفع كثافة العمالة فى النمو يمكن أن تتم على جبهتين :
2/1- زيادة معدل خلق فرص العمل فى القطاع الرسمى حتى يمكن لنسبة متزايدة من قوة العمل الحصول على فرص عمل منتجة و دائمة وذات إنتاجية أعلى . وهنا لابد من التركيز على الأنشطة كثيفة العمل فى الصناعات التحويلية والخدمات ، خاصة فى المنشآت المتوسطة والصغيرة، مع تعميق عملية التصنيع الموجه للتصدير .
وتشير تجارب العديد من أقطار شرق آسيا التى اتبعت سياسة التصنيع الموجه للتصدير إلى نجاح هذه السياسة فى توليد العمالة فى القطاع الحديث بمعدلات سريعة . وإن كان نجاح هذه السياسة مرهوناً بقدرة الصادرات المصرية على المنافسة فى الأسواق المحلية والعالمية .
ويتطلب تحقيق كثافة عالية للتشغيل فى النمو إجراء دراسات دقيقة تسمح بتقدير الكثافة فى داخل كل قطاع من قطاعات الاقتصاد القومى . إلا أنه بصفة عامة يمكن تحديد ثلاثة مجالات رئيسية لأنشطة القطاع الخاص ذات القدرة العالية على توليد فرص عمل ، وهى كل من الصناعة التحويلية الموجهة للتصدير وأنشطة المنشآت صغيرة ومتوسطة الحجم فى كل القطاعات غير الزراعية وأنشطة الخدمات عالية النمو كالسياحة والنقل والتمويل والمعلومات والخدمات الشخصية .
وفى داخل قطاع الصناعة التحويلية لابد من استهداف الصناعات ذات القيمة المضافة المرتفعة والأنشطة التى تستخدم عمالة ماهرة ولها روابط قوية داخل الاقتصاد المحلى إلى جانب قدرتها على المنافسة خارجياً .
2/2- تطوير الأنشطة الصالحة فى القطاع غير الرسمى . فى ضوء تزايد الدور الذى أصبح القطاع غير الرسمى يلعبه فى استيعاب العمالة وتوليد الدخول فى مصر ، هناك حاجة ضرورية للاهتمام بهذا القطاع وتطوير أنشطته الصالحة اقتصادياً حتى لا يتكدس المتعطلون والوافدون الجدد إلى سوق العمل فى الأنشطة ذات الأجور المتدنية وذات الإنتاجية المنخفضة ، وذات ظروف العمل القاسية والبعيدة عن مظلة الحماية التأمينية وقوانين العمل .
3- رفع كفاءة التدريب
إن انخفاض إنتاجية العمل الحقيقية فى فروع النشاط الاقتصادى ، وخاصة فى الصناعة التحويلية ، يعد من أهم المشاكل التى تحد من القدرة التنافسية لعنصر العمل المصرى – ومن بين أسباب انخفاض إنتاجية العمل أن نظم التعليم والتدريب فى حاجة إلى مزيد من الجهد والمهارات اللازمة التى يحتاجها سوق العمل .
ويعانى نظام التدريب الحالى فى مصر من مشاكل عديدة تعود أساساً إلى السيطرة الحكومية شبه التامة على التدريب مما أخضع النظام التدريبى للقيود البيروقراطية والمالية، وركز برامج التدريب على الأنشطة الصناعية مع استبعاد القطاعات الأخرى مثل الخدمات . كذلك تركز التدريب على التدريب النظرى والسريع الذى لم يمد العمال بالمعارف والمهارات الكافية . وفضلاً عن ذلك ، أدى تعدد وانتشار برامج التدريب وعدم التنسيق بينها إلى ازدواج الجهود وتقديم التدريب لحرف ومهن متماثلة دون اعتبار لاحتياجات سوق العمل . وكذلك أدى عدم توفير معايير مهنية وآليات اختبار موحدة ومستمرة إلى التأثير سلباً على نوعية المهارات التى تقدمها برامج التدريب .
إن الركيزة الأساسية لنجاح برامج التدريب على هذا النحو هى :
– الحد من سيطرة الحكومة عليها ،
– وإشراك القطاع الخاص فى التدريب ،
– وإحياء نظام التلمذة الصناعية القديمة جنباً إلى جنب مع التدريب السريع .
4- الاستثمار فى رأس المال البشرى
يرتبط بالتدريب مباشـرة الاستثمار فى رأس المال البشرى من خلال التعليم. إن مقارنة الحالة التعليمية للمشتغلين فى منتصف كل من السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات توضح ارتقاء المستوى التعليمى للعمالة المصرية خلال الفترات المشار إليها .
ورغم ذلك ، فإن الحصيلة التعليمية لقوة العمل مازالت تفتقر إلى الكثير من حيث الكفاءات والمهارات العملية ومن حيث السلوكيات الضرورية التى يحتاجها سوق العمل .
وحيث أنه لا جدال فى أهمية رأس المال البشرى كمحدد أساسى لقدرات الدولة ونموها ، فإنه لابد من زيادة الاستثمار والإنفاق على التعليم و الخدمات الصحية والتغذية والإسكان ، لتوفير الحد الأدنى من الظروف المعيشية اللازمة لتمكين قوة العمل من المساهمة بكفاءة فى عملية التنمية ولرفع إنتاجية العمل .
5- إصلاح الإطار المؤسسى والقانونى لسوق العمل
إن الغرض من إصلاح الأطر المؤسسية والقانونية لأسواق العمل عادة هو زيادة مرونة هذه الأسواق ، بمعنى زيادة درجة تكيف عرض العمل مع ظروف الطلب ، وزيادة قدرة سوق العمل على التخلص من كافة أشكال ” الجمود ” التى تعوق هذا التكيف .
وختاماً ، يجب أن نضع فى الاعتبار أنه لن يمكن لمصر أن تحقق النمو والتقدم الاقتصادى والاجتماعى إلا بتبنى استراتيجية خاصة ومتكاملة وشاملة للتشغيل تعمل على امتصاص البطالة مع رفع كفاءة العمالة .