علم النفس الصناعي / الموارد المهنية / التوجيه و الاختيار المهني
الموارد المهنية
التوجيه والاختيار المهني
1- عوامل اختيار المهنة
يختار كثير من الناس مهنهم نتيجة لرغبات طارئة , أو نصائح عارضة من صديق أو قريب , علي أثر قراءة قصة في كتاب , أو مشاهدة فيلم سينمائي أو سماع محاضرة حماسية , أو الاتصال بشخصية بارزة في مهنة , أو تحت ضغط الوالدين وتقاليد الأسرة , أو لأن المهنة تتمشى مع مستوى الطموح الذي رسمه الفرد لنفسه في الحياة .. كل أولئك دون أن ينظر الفرد إلي ما لدية من قدرات واستعدادات وصفات مختلفة لابد منها لنجاحه في مهنته .
وأغلب الأمر أن الإنسان لا يختار مهنته نتيجة لعامل واحد أو دافع واحد , بل نتيجة تفاعل عوامل ودوافع شتي تهيمن علي هذا الاختيار وتتحكم فيه , عوامل ذاتية تتصل بشخصيته وتكوينه النفسي الفطري والمكتسب , أو أخري خارجية تتصل ببيئة الاجتماعية وبمجال العمل في المهن المختلفة .. دوافع شعورية يفطن إلي وجودها كمن يفضل مهنة التدريس علي مهنة التصوير إرضاء لدافع التقدير الاجتماعي في ظنه , ودوافع لاشعورية – أي لا يفطن إلي وجودها – كمن يختار مهنة شديدة البعد عن مهنة والده لأنه يحمل لأبيه كراهية مكبوتة .
الواقع أن الإنسان يختار مهنته – كما يختار زوجته – ونفسه زاخرة بكثير من الدوافع والعواطف والعقد النفسية والمعتقدات وعادات صالحة أو غير صالحة للتعامل مع الناس .. إلي غير تلك من الدوافع التي اكتسبتها تدريجيا من جو الأسرة التي نشأ فيها طفلا صغيراً ؛ والمدرسة التي اختلف إليها , والأتراب الذين زاملهم , وفي ظل الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها الآسرة .. ولكل أسرة ثقافتها الخاصة , ووضعها الاقتصادي الخاص , وطموحها وتقاليدها وشعائرها ونظرتها الخاصة إلي مختلف المهن : نظرة احترام إكبار لبعض المهن ونظرة ازدراء و لمهن أخري . يضاف إلي ذلك ما يتسم به الفرد من حيوية موروثة ومزاج خاص وذكاء فطرى . والذكاء من دون شك عامل له خطره في اختيار المهنة : فالأذكياء يكونون أقرب إلي الواقع عادة وأبعد عن الخيال في اختيار مهنهم لأنهم أدني إلي فهم أنفسهم وقدراتهم ممن لا ينعمون بمستوى رفيع من الذكاء.
هذه العوامل والدوافع التي بدأ مولدها من عهد مبكر في حياة الفرد .. يتفاعل بعضها مع بعض , يؤثر بعضها في بعض . بما يجعله يميل إلي اختيار مهن معينة . فإذا به يستجيب للنصح أو لما يقرأ أو يسمع إن تمشى ذلك مع هذا الميل , أو يعزف عن مهن أخري فلا يجدي فيه النصح ولا تؤثر فيه قراءاته ومشاهداته .. حتى ليمكن القول أن اختيار المهنة يبدأ من عهد الطفولة .
وقد تكون نتيجة هذا الاختيار نجاحا وتوفيقا . أو تكون فشلا وإخفاقا مع ما يجره هذا الفشل من أضرار بالغة تحقيق بالفرد ومن ثم بالمجتمع , إذ ليس أضر بالكافية الإنتاجية للفرد من قيامه بعمل لا تؤهله له قدراته واستعداداته , وليس أضر بصحته النفسية من قيامه مضطرا بعمل كريه إلي نفسه حتى إن كان منتجا فيه .
دوافع هامة في الاختيار
لم يعد العمل في حضارتنا الراهنة بمجرد وسيلة لكسب الرزق ؛ بل أصبح فوق ذلك وسيلة لإرضاء كثير من الدوافع والحاجات النفسية للفرد , كالحاجة إلى الأمن والحاجات إلي التقدير الاجتماعي , والحاجات إلي التعبير عن الذات وتوكيدها , ومن ثم كانت هذه الدوافع عوامل هامة في اختيار المهنة .
فمن الناس من يميلون إلى اختيار المهن الآمنة التي تجنبهم المواقف العسيرة أو الحرجة . وهذا يصدق بوجه خاص علي من يختارون مهنة التدريس . فحياة المدرسة بعيدة عن كثير من الصعوبات والمشكلات وضروب التنافس والتناحر التي يزخر بها العالم الخارجي عادة . ولعل هذا الدافع إلى التماس الأمن والهرب من المآزق هو ما يدفع بعض الناس إلى اختيار المهنة التي يراها علي مر الزمن.
والتقدير الاجتماعي من الدوافع الهامة في اختيار المهنة . فمرتب المدرس قد يكون أقل من دخل بواب العمارة ؛ ومع هذا يفضل كثير من الشباب المهنة الأولي . نقول الشاب لأنهم في العادة شديدو الحساسية للتقدير الاجتماعي .
كذلك الشعور بالنقص قد يكون دافعا قويا إلي اختيار المهنة . فكثير ممن يعانون تقصا جسيما أو اقتصاديا – حقيقيا أو موهوما – ينزعون إلي التعويض عما يشعرون به من عجز عن طريق أعمالهم . ويقال إن المصابين بعيوب في النطق تستهويهم المهن التي تتطلب الكلام , وأن المصابين بعيوب في البصر تستهويهم مهن الرسم والتصوير ؛ وأن ضعاف الجسم يميلون إلي مهنة الطب . وكثيرا ما يؤدي الشعور بالنقص إلي فقد الثقة بالنفس والخوف من المناقشة ومن تحمل التبعات فيكون أثر ذلك بالغا في اختيار المهنة .
ويري أصحاب مدرسة التحليل النفسي التي أنشأها العالم النمساوي (( فرويد)) Freud والتي تؤكد أثر الدوافع اللاشعورية في سلوك الفرد أن الإنسان يميل إلي اختيار المهن التي ترضي دوافعه الجنسية ودوافعه العدوانية وإن يكن إرضاء رمزيا . فالميل اللاشعوري إلي العدوان والتعذيب الذي يسمونه ((السادية)) Sadism يجنح بصاحبه إلي امتهان مهنة الجزار أو الجراح أو البيولوجي أو الشرطي أو حتى مهنة التدريس , بل قد تنطوي حركات مهنية معينة كرش الأرض بخرطوم أو ثقب البطاقات علي دلالة شهوية . ومن ذلك أيضا ما يراه ((مننجر)) Menninger من أن الدوافع التي تحمل الطالب علي الالتحاق بكلية الطب خليط من دوافع شعورية وأخري لا شعورية فمن الدوافع الشعورية الراغب في مجاراة تقاليد الأسرة , أو الامتثال لرغبة الوالدين , أو تحدي هذه الرغبة . أو الرغبة في الشهرة والدخل الوفير , أو الرغبة في تخفيف الآلام , ومن الدوافع اللاشعورية ميل لا شعوري إلي إرضاء الأم من حيث هي عنصر الأسرة الذي يتعهد المرضي , أو تقمص الوالد شخصية أبيه وقيمه وأهدافه , أو ميل لاشعوري إلي التكفير عن دوافع عدوانية يحملها الفتي لأبيه أو أخيه ؛ أو ميل خفي لاستطلاع خفايا الجسم .. وقد يضاف إلي هذه الدوافع اللاشعورية الخوف من الموت مقترنا بالرغبة في معرفة الوسائل لاتقائه ؛ أو مرض أو موت حل بشخص عزيز في الأسرة .. هذه الدوافع نفسها قد تقوم أيضا بدور اختيار فرع التخصص الطبي .
من الحقائق المقررة في علم النفس أن الراشد الكبير يجهد في إرضاء الدوافع التي حرم من إرضائها في عهد الطفولة . فمن حرم الأمن وهو طفل صغير أخذ يتلهف علي التماسه وهو حدث كبير . ومن كبتت دوافعه إلي السيطرة والظهور عهد الصغر طفق يلتمس إشباعها بكل الوسائل في عهد الكبر . ومن حالت تربيته الأولي دون إشباع حاجته النفسية إلي التقدير الاجتماعي آثر المهن التي ترضي فيه هذه الحاجة … ومن هنا نري إلي أي حد تتحكم طفولتنا في اختيار أعمالنا .
نصائح الكبار
يتوقف كثير من الكبار إلي إسداء النصح إلي الشاب فيها يتصل باختيار منهم , كما يتفق كثير من الشباب إلى الأخذ بهذه النصائح . ولاشك أن هذه النصائح قد تكون مفيدة أحيانا . غير أن المؤكد أنها تقوم علي معرفة غير كافية بالفرد فتكون كالوصفات البلدية التي يوصي بها غير طبيب . وغالبا ما تكون انعكاسا لحالة الكبير النفسية إزاء مهنته هو : أهي حالة رضا أم سخط ؟ وآية ذلك ما نلاحظه من اختلاف الكبار والأصدقاء – حتى المدرسين – في نصائحهم واقتراحاتهم إخلافا كبيراً بحيث لا يكاد يتفق اثنان منهم في هذه للناحية . إذا كان الطبيب ذو الخبرة والمران الطويل يرتكب أخطاء كثيرة وهو يشخص أمراضنا الجسمية , فما بالك بأناس غير مدربين يحاولون تشخيص هذه الأمراض ؟
زد علي ذلك ما يشيع بين الكبار من أفكار خاطئة . من ذلك قولهم أن الأب متى كان موفقا في مهنته فلا بد أن يتفوق ابنه فيها . ومن ذلك ما يذاع أيضا من أن كل فرد مهيأ بفطريه لمهنة واحدة فهو لا يصلح إلا لها . وهذا رأي لا يقوم علي أساس علمي . فالناس لا يولون نجارين أو حدادين أو صيادلة أو مدرسين أو محامين , بل يولدون بميراث فطري من الصحة والحيوية والذكاء واستعدادات عامة جداً يحيلها التعلم والتدريب قدرات نوعية تفيد في عدة مهن . فالقدرة الميكانيكية تفيد في عدة مهن , وكذلك الحيوية وصلادة الجهد ضروريتان في مجال معين , كان من الممكن أن يكونوا بارزين في مجالات أخري .
ولا ننسي ما يتميز به الإنسان من قدرات عريضة علي التكيف لكثير من المواقف والأعمال والظروف والأجواء المختلفة يشهد بذلك تاريخ الإنسانية وتطوها علي مر العصور .
اثر الآسرة والوالدين وجد في بعض البحوث أن الفرد في طفولته وفي مطلع المراهقة – أي حوالي الثالثة عشر – يكون تفضيله مهنة أبيه أكثر منه في أواخر المراهقة , أي حوالي سن العشرين . ولعل هذا يرجع إلي ما نعرفه من ازدياد ميل المراهق إلى التحرر من رباط الأسرة كلما تقدم به العمر والنضج .
أمت مدى قبول الطفل أو المراهق للمهنة التي يفضلها والده فيتوقف على مركز الوالد ونفوذه وعواطف أولاده نحوه . فقد تجعل منه هذه الاعتبارات مثالا يحتذيه الوالد , أو يعزف عنه , أو يعمل علي التفوق عليه . ولنذكر أن كره الوالد لوالده قد يميل به إلي مهنة غير مهيأ لها من حيث قدراته واستعداداته .
والذي نريد أن نؤكده في هذا المقام أن اختيار الوالدين مهن أولادهم غالباً ما يكون اختياراً منحازاً وغير سديد . فمن الآباء من ينظر إلي المركز الاجتماعي المهنة لا إلي صلاحية ولده لها . وقد يكون الأب كارهاً مهنته فإذا به يشير علي ابنه أو يفرض عليه ألا يتجه إليها . وعكس هذا صحيح .
وقد كشف التحليل النفسي عن الدوافع اللاشعورية الخبيثة التي تحمل بعض الآباء علي قسر أولادهم علي مهنة من المهن أو نوع معين من التعلم بالرغم من عدم ميلهم إليها أو استعدادهم لها .. فإذا بها دوافع أنانية خالصة لا صلة لها بصالح الولد . وأكبر الظن أن الأب نفسه كان يصبو إلي امتهان هذه المهنة لكنه عجز عن بلوغها . فإذا به يمثل هذا الدافع اللاشعوري علي مسرح أطفاله . وهذا نوع من التعويض لا ينجم عنه إلا ضرر الوالد .
ولنذكر فوق ذلك أن انحياز الوالدين يحول دون حكمهما الصحيح علي ذكاء أولادهما وقدراتهم الخاصة . وحتى إن كانا غير منحازين فأحكامهما يبعد أن تكون أحكاماً دقيقة . وقد يعمي أكثر الآباء ذكاء عن عيوب في أولادهم تنب إلى عين الملاحظ العادي . وإنه لمنت اليسير علي الوالدين أن يجد عذرا لتخلف ابنه في الدراسة علي أترابه . بأن يقول إن المدرس غير كفء أو إن ابنه لا يقدر علي تركيز انتباهه , أو إن صحته لا تأذن ببذل الجهد اللازم .. لكنه لا يطرأ على باله في العادة أن السبب هو قصور في ذكاء ابنه . بل قد يسلم بأن أخلاق ابنه ليست فوق الشبهات , لكنه لا يعترف بنقص ذكائه !
من هذا نري أن الوالدين وهما الناس أقرب إلي المراهق أو الشاب يبعد أن يكون توجيههما المهني له سليما مأمون العاقبة.
قيمة التحليل الذاتي
ألا يمكن الاعتماد في اختيار الفرد لمهنة تناسبه علي تقديره لقدراته الخاصة وميوله وسماته الاجتماعية الخلقية المختلفة ؟ دلت تجارب مختلفة علي أن أمثال هذا التقدير الذاتي لا يمكن الاعتماد عليه . من تلك تجربة أجريت لمعرفة قدرة الناس علي تقدير أنفسهم في بعض السمات مثل : حب العمل , العدواني , التعاون , البخل , العناد , الطموح , الغرور , جاذبية الشخصية .. فأسفرت النتيجة عن أن الناس يعجزون إلي حد كبير عن تقدير أنفسهم تقديراً دقيقاً فنحن نميل إلي تقدير أنفسنا تقديرا عاليا في السمات التي نراها موضع استحسان , وتقدير منخفضا في السمات التي نراها غير مرغوبة , زد علي ذلك أن الإنسان يميل إلي كبت عيوبه ونواحي الضعف فيه , وسماته الملمومة , وذلك بإنكارها وإخفائها وعدم الاعتراف بها لنفسه والناس جميعا . إنه ينزع بفطرته إلي إخفاء سوءاته النفسية كما يخفي عوراته الجسمية . فنحن نعرف أنفسنا كما نحب لا كما هي عليه في الواقع .
وفي تجارب أخري طلب إلي أشخاص مختلفين أن يقدر كل منهم ذكاءه بنفسه , ثم ذكاؤهم عن طريق مقاييس موضوعة للذكاء , فوجد أن ذوى الذكاء المنخفض يميلون إلي المبالغة في تقدير ذكائهم , أن ذوي الذكاء المرتفع يميلون إلي الغض من تقدير ذكائهم .
وقد ظهر من دراسات عدة أن مستويات الطموح التي يتخذها كثير من الناس لأنفسهم تبتعد بعدا كبيرا عن مستويات قدراتهم الفعلية . ويقصد بمستوي الطموح , ذلك المستوى أو الهدف الذي يرسمه الفرد لنفسه ويسعى إلي الوصول إليه , أو هو المستوي الذي يتوقع الفرد أن يصل إليه بناء علي تقديره الذاتي لقدراته واستعداداته . فهذا الطالب يصبو أن يكون طبيعيا أو مهندسا أو مدير أعمال .. لكن ليس لديه من المؤهلات العقلية والشخصية ما يأذن له بالنجاح في هذه الأعمال . فإذا به يظهر يلهث لبلوغ هدفه هذ1 , فلا يناله من ذلك إلا الفشل المتكرر وخيبة الأمل والشعور بالذنب واستصغار نفسه أو ازدراؤها أو كراهيتها .. وإذا به أصبح نهبا للتأزم النفسي الموصول ينغص عليه حياته ويهيئه لاضطراب الشخصية . وما ذاك إلا لبعد الشقة بين ما يريده وما يقدر عليه بالفعل , بين مستوى طموحه ومستوي اقتداره . (( ورحم الله امرؤ عرف قدر نفسه )) . ولو وفق مثل هذا الطالب إلي من يعيشه علي تقدير ما لديه من ذكاء وقدرات وسمات تقديرا موضوعيا , إلي تقدير ما لديه من نواح للقوة وأخري للضعف .. لوفر على نفسه هذا الجهد الضائع وأعفاه مما يعانيه من توتر نفسي موصول وفشل أكيد .
بل لقد اتضح أن ميول كثير من الناس إلي امتهان مهن معينة ليست ميولا حقيقية بل ميول عارضة متقلبة أو ميول ظاهرية أو ميول مفروضة يصطنعها الفرد إرضاء لضغط خارجي , من والديه مثلا , وهنا يتعين علي علم النفي أن يتدخل للكشف عما لدي الفرد من ميول حقيقية غير زائفة .
علي هذا المحو يتضح لنا أن التقديرات الذاتية لا يجوز الركون إليها والاعتماد عليها في أخيار الفرد لمهنته .
ومع هذا فتحليل الإنسان نفيه لا يخلو من فائدة – وإن تكون فائدة محدودة . فقد يعينه هذا التحليل الذاتي , علي الأقل , علي أن يتجنب بعض المهن التي لا يستسيغها أو ينفر منها , فمن الناس من لا يطيقون المهن التي تضطرهم إلي التعامل مع الناس , ويؤثرون عليها المهن التي يتعاملون فيها مع الأشياء والأفكار , وآخرون يعزفون عن المهن التي تضطرهم إلي تحمل قدر من المسئولية ويؤثرون دور المقود لا القائد . وفريق ينفرون من المهن التي تضطرهم إلي لمس أجسام الناس كمن الحلاقة والتدليك والتمريض ومعالجة العظام وتقليم الأظافر .
مما تقدم نري أن اختيار الفرد لمهنته يجب ألا يقوم علي أساس ذاتي أو جزافي أو ارتجالي أو عاطفي , بل علي أساس علمي موضوعي دقيق , وهذا أساس حركة (( التوجيه المهني )) كما سنري بعد قليل .
ونوجز ما تقدم فنقول إن العوامل التي تحدد اختيار الفرد مهنته تنقسم إلى عوامل شخصية منها صحته العامة وحيويته وما يراه في نفسه من نواح للقوة وللضعف , ومنها فكرة الفرد عن نفسه , ومستوي طموحه , ودرجة ثقافته وتعليمه , ومنها أيضا ذكاؤه وميوله والقيم التي يدين بها , ودوافع شعورية ولا شعورية شتى .. هذا إلي جنب إعجابه ببعض الشخصيات أو نفوز منها . أما العوامل الخارجية التي تحدد اختيار المهنة فمن أهمها المركز الاجتماعي الاقتصادي لأسرة الفرد , وعلاقاته الشخصية .
سوء اختيار المهنة
ضرره بالفرد وبالمجتمع
قد تكون مهنة الفرد مصدر أمن واستقرار وسعادة له , أو تكون مصدر قلق وتأزم واضطراب وشقاء له ولذويه . والمهنة الملائمة مصدر الأمن والسعادة يجب أن تتوافر لها شروط ثلاثة:
1- أن يستطيع الفرد أداءها بنجاح أنها تتمشى مع حيويته وذكائه واستعداداته الخاصة .
2- أن يرضي عنها الفرد ويميل إلي ممارستها لأنها تتمشى مع مستوى طموحه وفكرته عن نفسه ومكانته الاجتماعية .
3- أن يكون الجو الإداري والاجتماعي الذي يحيط بها جواً رضيا لا تشوبه القوانين واللوائح الظالمة , أو الإدارة المتعسفة أو الزملاء المنافرين .
والمهنة الملائمة بهذا المعني مجال يرضي فيه الفرد دوافعه المادية والنفسية المختلفة وينمي شخصيته ويوثق ارتباطه بالمجتمع , ويؤكد ذاته .. فهي ترضى في الفرد حاجته إلي التقدير الاجتماعي , وحاجته إلي الانتماء إلي جماعة تشد أزره وتزيد من اعتداده بنفسه . كما تشبع لديه حاجته إلى التعبير عن شخصيته , والإفصاح عن رأيه , وتحقيق إمكاناته , والقيان بأعمال نافعة وذات قيمة للآخرين , وأن يكون منتجاً مبدعا .. مما يزيد من احترامه لنفسه واحترام الناس له . هذا إلي أنها تحدد للفرد هدفا في الحياة يعمل علي بلوغه راضيا مختاراً , وهذا يكون لها أثر عميق في اتزان شخصيته وتكاملها . ومن المقرر المعروف في علم النفس أن الفرد إن لم يوفق إلي إرضاء هذه الدوافع والحاجات بصورة واقعية مباشرة متزنة أصبح نهبا للقلق والتوجس والضجر والشعور بالنقص وعدم الرضا عن النفس وعن الناس .. ثم أخذ يرضى هذه الدوافع بطرق ملتوية غير مباشرة أو بطرق منحرفة .. منها الاعتداء علي غيره من الناس بالقول أو بالفعل , ومنها إلقاء اللوم علي غيره واتهامهم بأنهم مسئولون عن عجزه وفشله , أو تبرير ما به من عيوب وأخطاء باختلاف أعذار وهمية يخدع بها نفسه قبل أن يخدع الناس .. ومن هذه الطرق المنحرفة أن ينزوي ويعتكف وينسحب من الصلات الاجتماعية أو يستسلم لأحلام اليقظة يرضي في خيالاتها ما استعصي عليه تحقيقه في عالم الواقع . (( هذا إن لم يفزع إلي المخدرات خلاصا مما يكابده من توتر نفسي موصول وقد دلت إحصاءات كثيرة علي أن الأمراض النفسية والأمراض المهنية ترداد زيادة ملحوظة بين الأفراد الذين يقومون بأعمال تعلو أو تنحط كثيراً عن مستوى ذكائهم , وكذلك بين من يكرهون أعمالهم أو يضيقون بها.
والمهنة المنافرة سبيل إلى فتور همه صاحبها , أو تكاسله أو تمارضه أو تمرده بما يؤدى إلى تخاذل الإنتاج أو سوء نوعه , كما أنها سبيل إلى شعوره بالفشل وخيبة الأمل أو شعوره بالذنب والتقصير بما يؤدى إلى اهتزاز شخصيه واضطرابها .
ولا يقتصر أثر المهنة غير المهنة غير الملائمة علي الصحة النفسية للفرد بل يتعداه إلى صحته الجسمية أيضا . وحسبنا أن نذكر أن هناك مهنا تلحق بأصحابها أضرارا جسمية بالغة إن زاولوها دون توجيه يتضمن فحصهم الجسمي فحصا دقيقا , كمهنة العتال إن احترفها مريض بالقلب , ومهنة البرادة أو التعدين إن احترفها مصاب بالسل , ومهنة اللحام بالغاز إن زاولها ذو بصر مرهف الحساسية , ومهنة التدريس إن اصطنعها من يشكو من ضغط دم مرتفع .
ترك العمل :
وناهيك بما يصيب العامل من أضرار ومتاعب حين يضطر إلى ترك عمله بمحض إرادته أو لعجزه عن التوافق لمهنته أو لزملائه فيها أو حين يفصل لعجزه عن الإنتاج المقرر أو عن مجاراة زملائه ورؤسائه . فهو لابد له أن يبدأ من جديد في التدرب علي عمل آخر لا يدرى هل سيكون ناجحا أو فاشلا في أدائه . أو يضطر إلى العمل في مكان أخر بأجر دون أجره السابق , أو تبتلعه سوق البطالة , مع ما يقترن بهذا كله من اضطراره إلي تغير نظامه في العيش وفي المكان , ومع ما يكون فد لصق بنفسه من حق ونعمة علي من أسعدهم الحظ وصاحبهم التوفيق في أعمالهم . وهو حقد لا يلبث أن ينقلب إلي سخط علي أصحابه وأهل بيته وعلي المجتمع أو علي النظام الاجتماعي بآسرة .
وظاهرة (( تقلب العمال )) هذه من جراء سوء توافقهم المهني تكلف الاقتصاد القومي في بعض البلاد خائر فادحة . فقد دلت إحصاءات قريبة علي أنها تكلف الصناعة الإنجليزية نحو مائة مليون جنية في العام الواحد , وتكلفة الصناعة في الولايات المتحدة ما بين 2/1 و 2/1 1 بليون دولار في العام ..
ولنذكر أن سوء التوافق المهني عامل رئيسي في كثرة تغيب العمال ومرضهم أو تمارضهم وفي زيادة حوادث العمل .. هذا إلى أن تسئ التوافق لمهنته غالبا ما يكون متمرداً مشاغبا يؤثر سخطه في الروح المعنوية لزملائه . وأغلب هؤلاء هم نواة الصراع الصناعي بين العمال والدارة في البلاد الرأسمالية , وما ينجم عن هذا الصراع من قلق اجتماعي . وقد يتردد صاحب العمل في تسريح هؤلاء عطفا وإشفاقا علي الصغار منهم , أو تقديراً لخدمات الكبار منهم ومراعاة لظروفهم وأسرهم . غير أن هذا لا يحول دون أن يكونوا عبئاً علي المؤسسة أو المصنع وعلي نقابة العمال والدولة جميعا .
موجز القول أن امتهان الشخص مهنة لا تناسبه لا يفيد الإنتاج ولا الصحة النفسية للفرد , إن هو إلا بطالة مقنعة . هذا إلى ما يجره علي الاقتصاد القومي من تبذير وخسارة وضياع , وما قد يسببه للتنظيم الاجتماعي من قلق واضطراب .
ومن هنا بدت الحاجة ماسة إلى كل من (( التوجيه المهني )) و(( الاختيار المهني)) . ويقصد بالتوجيه المهني معونة الفرد علي اختيار مهنة تناسبه . أما الاختيار المهني فيقصد به انتقاء أصلح الأفراد لمهنة معينة ..
أما الأساس السيكولوجي لكل من التوجيه والاختيار فيقوم , من ناحية علي ما بين الأفراد من فوارق جسمية وعقلية ومزاجية شتي . وهي فوارق تؤهل بعضهم للنجاح في مهنة أو فصيلة من المهن ولا تؤهله للنجاح في غيرها , كما أنها تجعل بعضهم أكثر إنتاجا أو جود إنتاجا من غيره بالرغم من تشابه الظروف التي يعملون فيها , أو الآلات والأدوات والمعدات التي يستخدمونها . كما يقوم , من ناحية أخري , علي ما تتطلبه المهن المختلفة من قدرات خاصة وصفات شخصية معينه يجب أن تتوافر في الأفراد اللذين يلتحقون بها .
وسنبدأ بالحديث عنا بين الأفراد من فورق مختلفة ,
3- الفروق الفردية
كما يختلف الناس بعضهم عن بعض في الشكل والحجم والمظهر كذلك يختلفون في الذكاء والمزاج والخلق والاستعدادات الخاصة والقدرة علي التعلم والقابلية للتعب .. وأظفر هذه الفروق تبدو في الصفات والميزات الجسمية كالطول والوزن واللون وهيئة الوجه .. فهي تثبت إلى عين الملاحظ علي التو وبصورة مباشرة . أما الفوارق في السلوك فأقل ظهوراً ووضوحا . وفقد نلاحظ أن طريقة شخص في الكلام أو في التحية باليد تختلف عن طرق غيره ممن نعرفهم من الناس , لكنه لا يتسنى لنا أن نعرف إلي أي حد يختلف سلوكه عن سلوك الآخرين بما يميزه عنهم تمييزاً واضحا إلا بعد أن نعاشره ونتصل به عن قرب مدة كافية من الزمن . حتى في هذا الحال فاغلب الأمر أن تفوتنا ملاحظة كثير من ملامح سلوكه المميزة له . فنحن لا نلاحظ في الناس إلا ما يطفو علي السطح من صفاتهم ومميزاتهم الظاهرة . أما الصفات والمميزات الباطنة أو التي يخفيها الناس عنا – عن قصد أو عن غير قصد – فلا نستطيع الكشف عنها إلا إذا درسنا الفرد كما يدرسه علماء النفس عن طريق مقاييس واختبارات معينة تستهدف إماطة اللثام عما بين الأفراد من فروق سيكولوجية كالفرق بينهم في الذكاء أو الاستعدادات الخاصة أو قوة الدوافع أو درجة احتمال التعب .. الواقع أن كثيرا من هذه الصفات تغيب عن الفرد نفسه مما يحمله علي أن يسأل الغير فيها – حين يرغب في امتهان مهنة معينة – عما إذا كان يصلح لهذه المهنة .
وقد أثارت الحروب العالمية الأولي , كما قدمنا , اهتمام العلماء بالكشف عما بين الأفراد من فوارق , خاصة في مجال الذكاء . ثم استمر الاهتمام بالفروق الفردية وازداد بعد هذه الحرب حتى بلغ ذروته إبان الحرب العالمية الثانية إذ تركزت البحوث في موضوع الذكاء وغيره من الاستعدادات الخاصة لا سيما تلك الاستعدادات اللازمة للطيران والغوص والرصد واستخدام الأدوات والأجهزة الحربية المعقدة الدقيقة ..
ومن المشاهد المعروف أن الفروق الفردية يختلف مداها باختلاف القدرات . فأغلب الناس يستطيعون اكتساب مهارات بسيطة مثل قص الورق بالمقص أو دق مسمار في الحائط .. غير أنهم لا يختلفون اختلافا كبيراً في كسب هذه المهارات . أما فيما يتصل باكتساب المهارات المعقدة , كالتصوير علي هدف متحرك أو العزف علي البيانو أو لعبة التنس أو الشطرنج فالاختلاف بينهم يكون شاسعا بعيد المدى , حتى قد يكون أمهرهم أقدر بعشر أو عشرين مرة من اقلهم مهارة فيها . بل هناك مهارات تبلغ من الدقة والتعقيد بحيث يعجز بعض الناس عن اكتسابها حتى إلى الحد الأدنى . وبعبارة أخرى فاكتساب المهارات المعقدة الصعبة يكشف عما بين الأفراد من فوارق في الاستعداد وفي القدرات علي التعلم والتدريب بصورة واضحة بارزة , وهذا علي خلاف الحال في كسب المهارات العادية البسيطة . فلعبة التنس والشطرنج مهارتان أعقد بكثير من غسل الصحون . ولاشك أن الفارق بين غاسل الصحون الجيد والرديء . وأكبر الظن أن هذا الفارق أبعد وأشمل بين مدرس الطبيعة العادي وعالم الطبيعة الذري .
والفرق الفردي التي تهمنا في ميدان الصناعة كثيرة منوعة من أهمها الفروق في : الذكاء , والاستعدادات الخاصة , والإفادة من التدريب , والقابلية للتعب , والتعرض لحوادث العمل , والاتزان الانفعالي , والصلاحية لقيادة الجماعات العاملة.
الفروق الفرد نفسه
كما يختلف الأفراد بعضهم عن بعض من حيث قدراتهم وسماتهم الشخصية , كذلك تختلف قدرات الفرد الواحد وسماته من حيث القوة والضعف . فقد يكون الفرد رفيع الذكاء لكنه ضعيف الإرادة أو سئ الخلق أو مصابا بمرض نفسي . وقد يكون متفوقا في القدرة الموسيقية ودون المتوسط في القدرات اللغوية ,’ أو يكون ماهراً في إدارة الآلات غير ماهر في إدارة الناي , ماهراً في الرسم وغير ماهر في الخطابة . وقد يكون لديه استعداد كبير للأعمال الكتابية واستعداد ضعيف للأعمال الميكانيكية . أو يكون ذا قدرة كبيرة علي احتمال الألم الجسمي لكنه ضعيف الاحتمال للألم النفسي . ولعلك سمعت بأولئك الأشخاص الذين يستطيع أحدهم أن يجري في ذهنه , دون استعانة بالقلم والورق , عمليات ضرب لستة أرقام في سبعة أرقام , أو استخراج الجذر التربيعي أو التكعيبي لأعداد كبيرة .. هؤلاء الأشخاص قد يكون مستواهم دون المتوسط في الذكاء العام , ودون المتوسط بكثير في القدرة اللغوية .
وبناء علي هذا فمن يصلح لعمل قد لا يصلح لعمل آخر , ومن يفشل في عمل لا يتحتم أن يفشل في أعمال أخري , ومن يكون بارزاً نابها في عمل لا يتحتم أن يحتفظ بمركزة في عمليات التوجيه المهني والاختيار المهني والتدريب المهني , وكذلك في عمليات التعين والنقل والترقية للعمل والموظفين .
توزيع الفروق الفردية
يدلنا الإحصاء علي أننا إذا قسنا أية صفة لدى مجموعة كبيرة جداً من الأفراد , وجدنا أن توزيع هذه الصفات يتبع نموذجا خاصا مهما كان نوع الصفة المقيسة , جسمية كانت كالطول أو الوزن أو حدة البصر أو قوة القبضة باليد , أم عقلية كالذكاء أو القدرة اللغوية أو القدرة علي تذكر الأرقام , أم خلقية كالصدق أو الأمانة , أم مزاجية كالاتزان الانفعالي أو القدرات علي احتمال الشدائد , أم اجتماعية كالتعاون أو الانطواء علي النفس . هذا النموذج يمثله رسم بياني معين يتضح منه أن أغلب الأفراد يملكون هذه الصفة بدرجة متوسطة معدلة , ثم يقل عددهم تدريجيا كلما اتجهنا إلي طرف الرسم . المنحني الآتي ( أنظر شكل1 ) يمثل توزيع نسبة الذكاء في مجموعة كبيرة جداً من الأفراد . مما يلاحظ في هذا التوزيع أن نصف المجموعة متوسط الذكاء , أي تتراوح نسبت ذكائهم بين التوزيع أن نصف المجموعة متوسط الذكاء , أي تتراوح نسب ذكائهم بين
نسب الذكاء
شكل 1 توزيع نسب الذكاء في مجموعة كبيرة جداً من الناس
90 و 110 وأن عددا ضئيلا من المجموعة ينحط ذكاؤه عن 60 , يزداد هذا العدد بصورة تدريجية حتى يبلغ نهايته العظمى عند نسبة 100 , ثم يتناقص بعد ذلك بصورة تدريجية أيضا وعلى نفس النحو الذي ازداد به حتى يصل إلى نهايته الصفري عند نسبة 140 . بعبارة فالشرط الأكبر من المجموعة متوسط الذكاء في حين أن العباقرة وضعاف العقول أقل المجموعة عددا . وقل مثل ذلك في سائر الصفات الإنسانية .
ويسمي هذا المنحني (( منحني التوزيع الطبيعي )) أو (( المنحنى لاعتدالي )) . وبما أنه يتكون من شقين متماثلين , وأن شكله شبيه بشكل الجرس , لذا يسمي أحيانا (( منحني الجرس)).
مما يجدر ملاحظته أن التوزيع توزيع متصل يمثل جميع نسب الذكاء من أصغرها إلى أكبرها دون أن تتخلله ثغرات , أي أنه يشمل الذكاء في مختلف درجاته ومستوياته . وهذا علي خلاف ما يبدو للإنسان العادي الذي يميل في العادة إلى ألا يري من الأمور إلا أطرافها : فإما ذكاء أو غباء , وإما طول أو قصر , وإما بياض أو سواد , وإما صحة أو مرض , وإما نوم أو يقظة …… ولا شئ بين الطرفين .
أسباب الفروق الفردية
احتدم الجدل منذ القدم بين العلماء عن أسباب الفروق الفردية بين الناس في القدرات والسمات المختلفة , أهي ترجع إلى الوراثة أو إلى عوامل البيئة ؟ والقول الفصل في هذه القضية هو أن البيئة ليست قوة مستقلة عن الوراثة أو قوة تضاف إليها بل قوة تتفاعل معها فتؤثر كل منها في الأخرى وتتأثر بها ومن تفاعلها يتم نمو الفرد وسلوكه وما يتسم به من صفات جسمية وعقلية ومزاجية واجتماعية شتى . فالاستعدادات الفطرية الوراثية لا يمكن أن تظهر وأن يتضح أثرها من دون عوامل البيئة , كالاستعداد للكلام أو لمرض جسمي أو نفسي . فالطفل الذي ينشأ بين الحيوانات يشب كالحيوان عاجزا عن الكلام بالرغم من أنه يملك الاستعداد وراثيا للكلام يميزه عن الحيوان ولابد له من بيئة إنسانية لتحليل هذا الاستعداد الفطري إلى قدرة فعلية . غير أن البيئة الإنسانية العادية إن كانت تكفي لكسب القدرات علي الكلام فهي غير كافية لتحويل كثير من الاستعدادات الإنسانية الكامنة إلى قدرات فعلية كالقدرة علي العزف علي القيثارة أو القدرة علي حل معادلات من الدرجة الثانية . هنا يجب أن يتعلم الفرد تعلما خاصا وأن يتدرب تدريبا قد يكون طويلا . وكمن ناحية أخري فالمهارات المهنية و الاجتماعية والخلقية التي نكتسبها لا يمكن أن تقوم إلا علي أساس من الاستعدادات الوراثية .
وبعبارة أخري فنحن أبناء الوراثة والبيئة في آن واحد – وكل قدرة أو سمة لدى الفرد موروثة ومكتسبة في آن واحد . ومن المحال أن نفضل أثر الوراثة عن أثر البيئة إلا إذا استطعنا فصل مياه رافدين يصبان في نهر واحد . من أجل هذا لم نعد نتساءل إلي أي حد هي ورائية أو مكتسبة ؟ وذلك لنعرف الأهمية النسبية لكل من الوراثة والبيئة في تكوينها .
غير أننا نميل في العادة إلى أن نصف القدرة أو السمة بأنها فطرية موروثة إذا توافر لها شرطان :
أولهما: إذا لم يتطلب ظهورها واتضاح أثرها تعليما أو تدريبا خاصا , كالقدرة علي الإبصار , والقدرة علي المشي , والذكاء – فالطفل ليست به حاجة إلى من يعلمه الأبصار أو المشي , والتلميذ ليس في حاجة إلى دروس خصوصية كي يتضح ذكاؤه . أما ما نسميه في العادة بالقدرات أو السمات المكتسبة فهي التي تحتاج إلى تدريب خاص أو وقت طويل لتظهر ويتضح أثرها كالقدرة على السباحة أو الرقص , أو القدرة علي حل قضايا في المنطق الرياضي , أو اكتساب سمة المثابرة أو عاطفة الولاء للجماعة .
ثانيها : إذا كانت القدرة أو السمة ثابتة نسبيا , أي لا تستطيع عوامل البيئة أن تغيرها إلا في حدود ضيقة , أو حين تحدث في البيئة تغيرات عنيفة . فالبيئة العادية لا تستطيع أن تغير لون الجسم من الأسود إلى الأصفر , أو تحيل شخصا ذا مزاج دموي إلى آخر ذي مزاج صفراوي , أو تزيد من ذكاء شخص أو تنقص منه إلا في حدود طفيفة جداً , أما ما نسميه في العاد ة بالقدرات و السمات المكتسبة فهي القدرات والسمات المرنة التي تستطيع العوامل البيئية تغييرها تغيرا كبيرا كالمهارات المهنية التي نتعلمها , وكميولنا إلى الأشخاص أو الكتب أو الموسيقى , وكالصفات الخلقية والاجتماعية التي نتسم بها . ففي وسع البيئة أن تنمى في الفرد ميولا لم تكن لديه , وفي وسعها أن تزيل ما لديه من خصال كالغش والكذب أو الشعور بالنقص , وفي وسعها أن تخلق في نفسه عواطف واتجاهات نفسية جديدة كعاطفة الولاء للوطن واتجاه التسامح أو الشعور بالواجب , وفي استطاعة البيئة أيضا أن تكتسب الفرد مهارات حركية شتى لم يكن يقدر عليها من قبل , كالقدرة على سياقة السيارة , وقدرة الإنسان على تحريك أذنيه .
4- التوجيه المهني
اصطلاح (( التوجيه )) اصطلاح عام يقصد به معونة الفرد على فهم نفسه ومشكلاته أيا كان نوعها – مشكلات مهنية أو دراسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية أو زوجية – وعلى أن يفهم البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها حتى يصبح أكثر إنتاجا واستغلالا لإمكاناته وإمكانات البيئة , وأكثر اعتمادا على نفسه في حل مشكلاته المقبلة , وأكثر رضا عن نفسه وعن بيئته . وبعبارة أخري هو معونة الفرد على التوافق الحسن مع نفسه ومع بيئته , بوجه عام لا لجانب منها فقط . والتوجيه فروع منها التوجيه المهني والتوجيه التعليمي والتوجيه النفسي . وسيتضح معنى هذا كله فيما يلي :
أما التوجيه المهني بمعناه الشامل فهو عملية معنوية الفرد على اختيار مهنة تناسبه , وعلى إعداد نفسه لها , وعلى الالتحاق بها , وعلى التقدم فيها .. على نحو يكفل له النجاح فيها والرضا عنها وعن نفسه , والنفع للمجتمع : نقول مهنة تناسبه , لا المهنة التي تناسبه لأن كل فرد كما قدمنا , يصلح لأكثر من مهنة , أي يستطيع النجاح في أكثر من مهنة .
وظاهر من تعريفنا هذا أن التوجيه عملية مركبة تتألف من سلسلة من العمليات المتصلة المتكاملة :
1- اختيار مهنة علي أساس ما لدى الفرد من ميول وقدرات وسمات .
2- الإعداد والتدريب على المهنة المختارة . وهذا يقضى المعرفة بنوع التدريب ومدته ومكانه وشروطه .
3- الالتحاق بالمهنة . وهذا يتطلب الإحاطة بمجالات العمل المختلفة المهنة المختارة , وبوسائل معونة الفرد على الالتحاق بها .
4- التقدم في المهنة . ويكون ذلك بتبصير الفرد بما يطرأ على مهنته من تقدم وتغير وتطور وتجديد , أو بتعريفه بالطرق التي تساعده علي الترقي في مهنته . وهذا النوع من التدريب عندنا في الوزارات المختلفة , وفي القوات المسلحة والتي تستهدف إيقاف المختصين على آخر ما وصلت إليه البحوث والكشوف في ميادينهم المختلفة , أو التي تستهدف النهوض بمستويات الكفاية لموظفي الدولة .
ولا تقتصر مهمة التوجيه المهني على مساعدة الفرد على اختيار المهنة التي تناسبه بل تتجاوز ذلك إلى النصح له بالابتعاد عن مزاولة مهن معينة . إذ هناك عيوب لا تهيئ صاحبها لمزاولة بعض الأعمال : فعمى الألوان مثلا يحول بين صاحبه وبين سوق السيارات أو القطارات و يباعد بينه وبين مهنة الصيدلة والصباغة والدباغة والحياكة والتجليد والتصوير وصناعة المنتجات الكيميائية . وعيوب السمع أو وقره لا تتفق مع مهنة التدريس وبعض أعمال السكك الحديدية والبريد والتليفون والتلغراف والمهن التي من شأنها أن تحدث الدوار . ومن لديهم الاستعداد للإصابة بالسعال يجب أن يبتعدوا عن العمل في المناجم , وعن أعمال البرادة والخراطة والنحت وتسوية الحجارة . كذلك يجب أن يحال بينهم وبين مهنة الطهو وصناعة الخبز أو أن يكون أحدهم موظفا في مكتب . والأولي توجيههم أو توصيتهم بمهن مثل الزراعة أو تهذيب الحدائق أو توزيع البريد أو مهنة الشرطي . والمصاب بمرض في القلب يجب ألا يكون حداداً أو محضراً في محكمة يحتم عليه عمله الصعود إلى الطوابق العليا , بل يجدر توجيهه إلى المهن الجالسة ذات النشاط المنتظم غير المثير . كذلك من العبث أن ننتظر أن من شخص تعوزه القدرة الميكانيكية أن يكون مهندس رادار ناجح , أو من آخر أخرق اليدين أن يكون جراحا .. ومن الطبيعي أيضا أن نتوقع الفشل لملاحظ أو مشرف على العمال أو لناظر مدرسة يكون مصابا بمرض نفسي أو تعوزه القدرة على سياسة الناس .
خطوات برنامج التوجيه
يتضح مما تقدم أن التوجيه المهني يتطلب :
1- دراسة تحليلية شاملة للفرد تفحص قدراته الجسمية والحسية والحركية واستعداداته العقلية , وميله ومستوى طموحه , وسماته الاجتماعية والخلقية المختلفة واتزانه الانفعالي كذلك (( أسلوب حياته )) أي طريقه الخاصة في معاملة الناي وفي حل ما يعرض له من مشكلات وصعوبات .. وليس فحص الصحة النفسية للفرد بأقل أهمية من فحص صحته الجسمية . ذلك أن سوء التوافق المهني – أي عجز الفرد عن التواؤم والانسجام مع بيئته المهنية – قد يرجع إلى اضطراب في شخصيته وليس إلى نقص في اجتهاده أو استعداده .. ويشترط أن تكون هذه الدراسة موضوعة تقوم على القياس الكمي ما أمكن لا علي التقديرات والانطباعات الذاتية .
2- تحليل المهن المختلفة من نواح عدة من : (1) الناحية الفنية لمعرفة عملياتها وواجباتها أو حركاتها الأساسية , وما تتطلبه من مؤهلات خاصة وتدريب خاص (2) ثم تحليلها من الناحية السيكولوجية لمعرفة ما تتطلبه من قدرات واستعدادات وسمات خاصة .. (3) هذا إلى الإحاطة بالظروف الاقتصادية لكل مهنة : مستوى الأجور فيها , وفرص الترقية , ومستقبلها الاقتصادي أي حاجتها إلى العاملين لسنوات عدة مقبلة , والتغيرات المرتقبة ومدى البطالة فيها .. (4) هذا إلى ما قد يحيط بها من مخاطر وما يتعرض له الفرد فيها من أمراض مهنية خاصة .
وسنفرد لدراسة الفرد وتحليل المهن فصلين خاصين .
3- خطة للأعداد والتدريب ونظام للتشغيل والتوظيف . ونذكر أن الإعداد المهني نوعان : فني يتلخص في التدريب لفرد على المهارات التي تحتاج أليها المهنة , وإعداد نفسي يتلخص في معونته على كسب عادات واتجاهات نفسية جديدة تقتضيها مزاولة المهنة كي يتسنى له التكيف لها والنجاح فيها .
4- خطة المتابعة لمعرفة مدى تكيفه لعمله ونجاحه فيه , ومعونته على التغلب علي ما يعرض له من مشكلات في مجاله مع زملائه ورؤسائه مثلا , وكذلك لمعرفة ما يحتاج إليه من عادات ومهارات جديدة تتيح له أن يترقى في عمله , أو أن يتركه إلي عمل آخر أكثر ملاءمة له , من النواحي الصحية والنفسية والفنية والاجتماعية .
من هذا نرى أن عمليه التوجيه المهني عملية ضخمة من التعلم تتطلب تضافر الجهود من هيئات مختلفة وإسهام أخصائيين في نواح مختلفة : أطباء وأطباء نفسيون ومهندسون وأخصائيون في القياس العقلي وأخصائيون في التوجيه والمهني والنفسي والتعليمي والخدمة الاجتماعية . هذا إلى مكاتب منظمة للتشغيل والتوظيف … وبرنامج متجددة للتدريب . غير أن هذا كله يهون إذا قدرنا ما يعود على الفرد وعلى المجتمع من قيام كل فرد بالعمل الذي يتقنه و يرضاه , وما يترتب على الفشل المهني من أضرار بالغة تحيق بالفرد وبالمجتمع .
لقد أصبح من المتعذر اليوم بل من المجال على الفرد العادي – بعد أن تعددت واختلفت المهن والأعمال التي يستطيع أن يلتحق بها أو يؤديها بنجاح – أن يختار ما يناسبه منها دون مساعدة فنية من أخصائيين . يضاف إلى هذا أن كثيراً من الناس لا يعرفون المطالب المهنية للمجتمع وحاجات المؤسسات والشركات إلى العاملين أو لديهم أفكار خاطئة عنها أو لا يعرفون شيئا عن مصير المهنة بعد سنوات . وفي هذا ما يحتم قيام حركة التوجيه وتعميمها بين الناس .
التوجيه الحر الذاتي
ليس عملية التوجيه المهني عملية فرض وإملاء بلب عملية معونة وتبصير . ومن المسلم به في كثير من البلاد التي ذاعت فيها هذه الحركة أن اختيار المهنة يجب أن يقوم على مشيئة الفرد وقبوله واختياره الحر , إذ من حق كل فرد أن يقرر مصيره بنفسه وأن يحمل عابة خطئه . فالموجه يقترح والفرد يختار . الموجه يستعرض أمام فرص النجاح واحتمالات الإخفاق في المجالات المهنية المختلفة … ثم يترك له القطع والبت . الواقع أن مهمة الموجه لا تعدو أن تكون معونة الفرد علي أخذ صورة صادقة عن نفسه وعن بيئته , وعلى التوفيق بين ما يريده وما يقدر عليه .. يعينه على فهم نفسه بالكشف عن قدراته واستعداداته ويعينه على فهم بيئته بالكشف عن إمكاناتها وتصحيح ما قد يكون لديه من أفكار خاطئة أو بعيدة عن الواقع فيها يتصل ببعض المهن والأعمال , فكم من الناس يعتقدون أن مهنه التدريس أو التمثيل المسرحي أو الطلب أو السكرتارية مهن زهو وواهة لا تتطلب جهداُ أو عناء !
وحبذا لو بذل الفرد نفسه في عملية توجيهه وأثناء ارتياده مجاهل نفسه ومجاهل بيئته شيئا من جهده الخاص ونشاطه الذاتي . فالتوجيه – أياً كان نوعه لا يثير الحرص والاهتمام ولا يثمر إلا على قدر ما يبذل الفرد في سبيله من جهد . والكتاب الذي يوزع مجانا قلما يقرأ .
5- مراكز التوجيه المهني
رأينا مما تقدم أن التوجيه المهني دعوة إنسانية وتعبئة قويمة وتنظيم اجتماعي اقتصادي ذو هدفين : هدف اجتماعي هو وقاية المجتمع من كثير من الشرور التي تنجم عن وضع الفرد في غير موضعه . وهدف إنشائي هو استغلال الطاقة البشرية في المجتمع إلى أقصي حد مستطاع . لذا ذاعت هذه الحركة التربوية في الخارج , ولافت تأييدا من الهيئات الرسمية وغيرها فقامت في كثير من البلاد الغربية مراكز للتوجيه المهني يقوم بالعمل فيها أخصائيون فنيون يتعاونون على مهمة التوجيه .
وقد يدور عمل هذه المراكز علي واحدة أو أكثر من الوظائف الآتية :
1- توجيه المراهقين والشباب إلى أنواع النشاط التي يتسنى لهم أن يأتوا فيها بأحسن النتائج . ومما يجدر ذكره بهذا الصدد ما ظهر من دراسات أمريكية من أن ثلث على الأقل ممن يلتمسون المعونة طوعاً من هذه المراكز إنما يلتمسون في الحقيقة مساعدتهم على حل مشكلات نفسية عامة يعانونها أكثر من أن تكون مشكلات مهنية.
2- توجيه النساء إلى الأعمال التي تتمشى مع ميولهن واستعداداتهن الخاصة فالمرأة أكثر حساسية لمشكلات الأسرة والأفراد من الرجال , لذا يجب أن تسهم بقدر غير قليل في الوظائف التي تتصل بهذه النواحي بأن تعمل في مكاتب التوظيف والإسكان والعلاقات العامة والخدمات الاجتماعية والتمريض والتدريس للصغار بوجه خاص . هذا إلى أنها مرشحة بطبعها لوظائف السكرتارية والاختزال والكتابة علي الآلة الكاتبة والاستضافة .. كما أنها أقدر بوجه عام على القيام بالأعمال التي تتطلب التخطيط والتصميم منها على الأعمال التي تطلب التنفيذ . ذلك أن هذه الأعمال الآخرة كثيرا ما تتطلب قدرا من الصلابة والقوة والاحتكاك بالرجال , كثير من هؤلاء لا يقبلون عن طيب خاطر الأوامر التي تصدرها فتاة أو امرأة . أما صناعات التعدين والبترول وغيرها من الصناعات التي تتطلب المعيشة في الصحراء سنوات عديدة فمن الصناعات التي يجدر بالفتاة ألا تسهم فيها .
3- وتوجيه الشيوخ والمسنين إلى أعمال تتفق مع ما يتسمون به من صعوبة التكيف , وتستغل ما لديهم من خبرات . الواقع أن هناك كثيرين من ذوى الكفاءات ممن يحاولون إلى التفاعل على استعداد للعمل بأجور صغيرة أو بغير أجور فإسناد أعمال إليهم يشعرهم بأن المجتمع لا يزال في حاجة إليهم , وأنه يهتم ويحترمهم , كما أنه يقيهم من حياة البطالة التي تقصف العمر والتي لا يطيقها من ألف العمل , فضلا عن أنه يفيد المجتمع مما لديهم من تجارب وخبرات , خاصة في البلاد التي تجهد في استغلال كل طاقة بشرية ممكنة . ويستطيع هؤلاء أن يقوموا بإلقاء محاضرات على العمال في المصانع أو الشباب في الجامعات , كما يستطيعون الأشراف علي البحوث العلمية والفنية أو القيام بدراسات لبحث عيوب الروتين في المصالح الحكومية والشركات وغيرها .
4- توجيه ضعاف العقول وهم منت انحط ذكاؤهم بحيث أصبحوا عاجزين عن التعلم المدرسي وهم صغار السن , وعاجزين عن تدبير شئونهم الخاصة دون إشراف وهم كبار .
5- توجيه العاطلين والذين فشلوا في أعمالهم بإعادة تكيفهم وتدريبهم من جديد.
6- توجيه العصابيينNeurotics أي المصابين بأمراض نفسية بعد علاجهم أو أثناء العلاج . فالعصاب لا يطيق المنافسة ولا يجيد الأعمال الجماعية ولا يرحب بها بقدر ما يفضل الأعمال الفردية .. هذا إلى عجزه عن المثابرة واتخاذ القرارات الفاصلة , ومبادرة التعب إليه بعد المجهود القليل .
7- وتعني بعض المراكز بالتوجيه التعليمي أي معونة التلاميذ علي اختيار نوع الدراسات التي تناسبهم : نظرية أو عملية أو فنية .
8- نشر الوعي التوجيهي بين الناس وتعريفهم بفوائده وعرض بعض النتائج عليهم حتى يقتنعوا به ويقبلوا عليه من تلقاء أنفسهم . فالتوجيه المفروض توجيه مرفوض .
في هذه المراكز يدرس الفرد دراسة إنسانية شاملة من جميع نواحيه الجسمية والعقلية والاجتماعية ؛ ثم ينصح له بالمهن التي يرجى له فيها الخير والنجاح أكثر من غيرها , كما يشار عليه بالمهن التي يجب أن يبتعد عنها لأنها تؤدى به إلى فشل محقق . فإن استقر الرأي على مهنة أو عمل معين أشار عليه المراكز بما يحتاج إليه من تدريب , ومدة ذلك التدريب ونوعه . لذا تكون مراكز التوجيه علي صلة دائمة بمراكز التدريب المهني , وكذلك التشغيل والتوظيف .
ونود أن نشير إلى مراكز التوجيه في بعض البلاد الغربية تلحق بها (( عيادات نفسية )) لعلاج الاضطرابات الشخصية . في ذلك اعتراف صريح بما بين مهنة الفرد وصحته النفسية من صلة وثيقة .
دور المدرسة
تستطيع المدرسة أن تسهم في التوجيه المهني للتلاميذ ابتداء من أولي مراحل التعليم . ففي المرحل الابتدائية تستطيع أن تزودهم بطائقة من الخبرات المهنية وذلك بتعريفهم بمختلف المهن والحروف التي يزاولها القوم في البيئة المحلية عن طريق زيارة المصانع والشركات والمؤسسات , أو عرض أفلام سينمائية , أو كتب مصورة بسيطة .
وتستطيع المدرسة الإعدادية- وهي تقابل مرحلة المراهقة , أي المرحلة التي تتمايز فيها القدرات والمواهب الخاصة وتتضح بعد أن كانت متداخلة غير واضحة في مرحلة الطفولة – تستطيع هذه المدرسة الإكثار من أوجه النشاط الاجتماعي والرياضي والفني والثقافي , وملاحظة التلاميذ أثناء قيامهم به للكشف عن قدراتهم وميولهم حتى يتسنى لنا توجيههم إلى نوع التعليم الثانوي – الصناعي أو التجاري أو الزراعي – الذي يناسب كل واحد منهم , أو في المهنة المناسبة لمن لا يستطيع مواصلة التعلم بعد هذه المرحلة .
وفي البرنامج الدراسية لكثير من المدارس الثانوية بالخارج (( مادة مهنية )) يراد بها تعريف التلاميذ بالطرق المجدية للبحث عن مهنة أو عمل , ونوع المهن والأعمال المختلفة التي يتسنى لهم الالتحاق بها في منطقتهم الخاصة أو في بلدهم بوجه عام , وحاجة البلد إليها , وما تتطلبه من مؤهلات واستعدادات وخبرات وتدريب خاص , والمستقبل الاقتصادي لهذه المهن والأعمال , وفرص الترقية بها , ومدى البطالة فيها , والمشكلات التي تحيط بها وما توسم به من محاسن ومزايا أو عيوب وأخطار … إلى غير تلك من المعلومات التي تعين التلاميذ على الاتصال بعالم المهن عن قرب , وتعصمهم من الحيرة والتخبط الذي يعانيه كثير منهم عند تخرجه , والتي تؤيد قول القائلين بأن المدرسة إعداد للحياة . هذا إلى تكليف التلاميذ القيام برحلات وزيارات للمصانع والشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية وغيرها . وفي بلاد أخري تطبع موضوعات هذه المادة المهنية في كتيب صغير يكون إحدى المطالعات الإجبارية التي يكلف التلاميذ بها.
السجل الجامع Cumulative
وتستطيع المدرسة أن تساعد مركز التوجيه المهني على أداء مهمته إن احتفظت لكل تلميذ بملف خاص تسجل فيه أكبر قدر من المعومات والبيانات الهامة عن حياة التلميذ وشخصيته بما يعين علي توجيه المهني . الواقع أن أغلب المدارس الحديثة تحتفظ لكل تلميذ ببطاقة أو سجل جامع هو عبارة عن ملخص مبوب يستوعب سيرة التلميذ وسلوكه وشخصيته من جميع عبارة عن ملخص مبوب يستوعب سيرة التلميذ وسلوكه وشخصيته من جميع نواحيها وفي سني الدراسة المتتالية , وقد كتب بصورة منظمة واضحة مرتبة تعطي من يطلع عليه صورة متكاملة متطورة عن التلميذ . ثم ينقل هذا السجل مع التلميذ من مدرسة إلى أخرى ومن ورحلة تعليمية إلى أخرى .
في هذا السجل تدون حالة أسرة التلميذ ومركزها الاجتماعي والاقتصادي ومستوى ذكائه , وقدراته , وقدراته الخاصة , ومستواه في التحصيل في المراحل الدراسية , واتجاهه الخلقي العام , وحالته الصحية , ومدى تغيبه , وميوله وهواياته أي الدراسات والمهن التي يميل إلى الالتحاق بها , ودرجة صموده في العمل واحتمال الحرمان , وما يتسم به من تهور أو تؤدة , ومن مثابرة أو تخاذل , من تعاون أو تزاحم كما تدون فيه أوجه نشاطه التلقائي , وموقفه من الأشغال اليدوية والأعمال العقلية وأوجه النشاط الاجتماعي . وهل يؤثر الأعمال الحرة أو المفروضة , الرتيبة أو المنوعة , الدقيقة أو غير الدقيقة , الفردية أو الجمعية … كما يشمل السجل فوق هذا الملاحظات الخاصة التي يبديها المدرسون وإدارة المدرسة عن التلميذ , فيعطى بذلك كله صورة لنمو التلميذ وتطور عقله وميوله واتجاهاته النفسية وسمات شخصيته الأخرى .
الواقع أن هذا السجل الجامع لا تقصر فائدته على تيسير عملية التوجيه المهني للتلميذ , بل أنه يفي أيضا في توجيهه التعليمي وفي توجيهه النفسي إن اضطربت شخصيته أو ساء توافقه الدراسي أو الشخصي أو الاجتماعي . هذا إلى أنه يساعد علي كشف التلاميذ الموهوبين من ذوى الذكاء الرفيع , والأغبياء ممن ينحط ذكاؤهم دون المتوسط .
ومما يجدر ذكر أن المدرسين يكونون في العادة أدني إلى الصواب في تقدير الصفات الاجتماعية والخلقية منهم في تقدير ذكاء التلاميذ وقد دل تاريخ القياس العقلي على أن المدارس أساءت إساءات خطيرة إلى أعداد كبيرة من التلاميذ في الحكم على ذكائهم . ذلك أن كثيراً من المدرسين لم تكن لديهم فكرة واضحة صحيحة عن الذكاء , أو لأنهم كانوا حكاما من نوع لا يعتمد عليه . لذا فمن الخير أن تترك مهمة القياس الذكاء والقدرات العقلية إلى أخصائي في القياس العقلي .
كذلك الحال فيما يتصل بالوالدين . وقد أشرنا من قبل إلى عجزهما وسوء تقديرهم لذكاء أولادهما . غير أنهما يستطيعان عون مراكز التوجيه علي فهم ظهور بعض السمات الخلقية أو المشكلات السلوكية لدى الأولاد , وذلك باستعراض الظروف المنزلية للولد , وموقفه من والديه واخوته إلى غير تلك من الأمور الدقيقة التي يعجز السجل الجامع عن تسجيلها .
6- مبادئ عامة للتوجيه
1- على المواجه – مهنيا كان أم تعليميا – أن يذكر أن من أولي وظائفه مساعدة الفرد الذي يستشيره على الاستبصار في نفسه , أي على معرفة ما لديه من قدرات واستعدادات وسمات شخصية وإمكانات خافية عنه , وما به من نواح للقوة والضعف . وحبذا لو استطاع أن يعينه على الكشف عما يحتضنه من دوافع خبيث لا شعورية تجعله يميل إلي مهنة معينة أو إلى دراسة معينة وهو غير أهل لها . ولقد أشرنا من قبل إلي أن كثيراً من الناس لا يرون أنفسهم علي حقيقتها , فمنهم المصاب بتضخم في شعوره بأهميته وتقديره لنفسه بما يجعله يرسم لنفسه مستوى طموح أعلي بكثير من مستوى قدراته الفعلية . وهذا هو المغرور . ومنهم المثقل بشعور شديد بالنقص يجعله يغض من تقديره لنفسه والهبوط بمستوى طموحه …. ومنهم الخيالي والمثالي وذو الاستعداد العصابى الذي يجعله يضع لنفسه مستوى طموح زائف بعيد عن الواقع … هنا يتعين على الموجه أن يعمل على تعديل مستوى الطموح عند أولئك وهؤلاء , وتصويب أفكارهم عن أنفسهم , وتخفيف ما يصيبهم من صدمات نفسية ومشاعر بغيضة بخيبة الأمل واستصغار الذات حين تنكشف لهم الحقيقة , فيرون أنفسهم على ما هي عليه في الواقع .
2- وعليه أن يذكر أن من مهامه معونة العاجز عن التقدم في عمله أو في دراسته على التغلب على ما يعترضه من صعوبات , وما يعوقه من عقبات .. هذه العقبات قد تكون خارجية اجتماعية , وقد تكون عقبات شخصية ترجع إلى أزمة نفسية يعانيها الفرد , أو إلى نقص في اجتهاده أو استعداده , أو في سوء استغلاله ما لديه من قدرات وسمات من جراء عوامل وصراعات نفسية مكبوتة . وهنا تشبيه مهمة الموجه و مهمة المعالج النفسي … لكن عليه ألا يقتحم نفسه في شئون ليست من اختصاصه . فالعلاج النفسي يقتضي دراسة نظرية وخبرة عملية خاصة قد يكون الموجه غير معدلها .
3- وعلى الموجه ألا يوصد أمام المستشير بابا إلا فتح أمامه باب آخر . من ذلك أن يقول له : (( لديك من الذكاء المرتفع ما يكفي للنجاح في أي واحد من هذه المجالات … غير أن هناك مجالا يبدو أنه يناسبك بوجه خاص وهو مجال يتطلب مستوى عاليا من الاستعداد الميكانيكي . وقد دلت الاختبارات السيكولوجية التي أجريتها عليك أنك موفق في هذه الناحية . والمرجح أنك لو ارتضيت هذا المجال وثابرت فيه سيكون نصيبك النجاح )) أو أن يقول له (( تشير نتائج اختبارات الذكاء التي أجريتها عليك أن فرصة نجاحك في هذه المهنة أو الدراسة محدودة , غير أن اختبارات الاستعداد اللغوي تدل علي أن قدراتك ممتازة في هذه الناحية . وأكبر الظن أن يصاحبك التفوق في عمل يتطلب موهبة لغوية كالتي لديك )) .
4- وعلى الموجه ألا يقع للمستشير بنجاحه أو إخفاقه في اتجاه معين فهناك أشياء أخري يتوقف النجاح أو الإخفاق عليها إلى جانب ما تقيسه الاختبارات السيكولوجية , منها فرص التدريب المتاحة للفرد , وما لديه من قدرة على التعويض عن نواحي القصور التي لديه . فعلي الموجه إذن أن يبين للفرد الاحتمالات المختلفة لنجاحه ولإخفاقه . أما التنبؤ المحدد بالمستقبل المهني أو التعليمي للفرد فلا يمكن القطع به إلا إذا كانت العلاقة وثيقة جداً والارتباط مرتفعا جداً بين نتائج الاختبارات والأداء الفعلي للفرد .
5- وعليه أيضاً أن يكون محيطا بما تزخر به الخزانة السيكولوجية من اختبارات نفسية وتربوية ومهنية وشخصية , وأن يختار أنسبها وأكثرها ملاءمة للحالة التي هو بصددها , وألا يعتمد في التشخيص علي أداة واحدة قد يخطئها التقدير أو يخطئ من يجريها التقدير .
6- وعلى الموجه أن يشرك المستشير في عملية التوجيه إشراكا فعليا , فلا تقتصر مهمته علي تزويد المستشير بمعلومات عن المهن والدراسات , وأنواعها المختلفة , وشروط الالتحاق بها , ومصيرها بعد سنوات .. بل يتعين عليه أن يشعره أنه حيال مشكلة , وأنها مشكلته هو , وعليه أن يسهم في حلها , بأن يفكر فيها , فيوازن بنفسه بين المهن أو الدراسات المختلفة , ويناظر بينها وبين ما لديه من قدرات وسمات , ثم يقدر الاحتمالات المختلفة لانخراطه فيها .. ثم يتخذ قرارا بنفسه في هذا الموضوع بمعونة الموجه . ومتي اتخاذ المستشير قراره بنفيه كان أكثر تقبلا له والعمل بمقتضاه .. كان عليه أن ينفذه وإلا اتهم نفسه بالتقصير , وكان عليه أن يتحمل تبعته فلا يجوز له أن ينحو باللائمة على المواجه إن فشل القرار … فان اتخذ المستشير قراراً يعود عليه بالضرر , نتعين علي الموجه أن يدخل في حزم وكياسة فيفسر للمستشير كيف لا يتمشى قراره مع صالحه وليذكر الموجه دائما ما سبق أن قررناه من أن عملية التوجيه عملية معونة وتبصر وليست عملية فرض وإملاء .
7- الاختيار المهني
الاختيار والتوجيه
يقصد بالاختيار المهني انتقاء أصلح الأفراد وأكفئهم من المتقدمين لعمل من الأعمال أو المرشحين لمنصب شاغر . وهو من تعريفه هذا يرمي إلى نفس الهدف البعيد الذي يرمي إليه التوجيه المهني ألا وهو وضع الفرد المناسب في المكان الناسب.
غير أن التوجيه يبدأ من الفرد ويركز اهتمامه فيه , في حين أن الاختيار يبدأ من مهنة معينة ويهتم بها في المقام الأول . كما أن التوجيه يعمل علي المعونة والإرشاد وصالح الفرد , ويقوم علي أساس أن كل إنسان يجب أن يجد عمله بين مختلف الوظائف الاجتماعية حتى إن كان عاجزاً أو مريضاً أو ذا عاهة , في حين أن الاختيار يعمل على التصفية والغربلة والاستبعاد ولا يهتم بمصير من يستبعدهم من الأفراد لذا كانت رسالة التوجيه أسمي وأرفع وجذا لو عني المجتمع بأمر من يستبعدهم الاختيار .هذا ما يحدث في بعض المؤسسات والمصانع الكبيرة , وما يحدث في كثبر من الجيوش الحديثة إذ تبحث لمن استبعدوا من أعمالهم لا يصلحون لها عن أعمال أخري تناسب قدراتهم واستعداداتهم .
وغني عن البيان أن يكون مجال الاختبار أضيق بكثير من مجال التوجيه . فالاختيار لا يتطلب إلا معرفة المهنة أو العمل الذي سيختار له , في حين أن التوجيه يتطلب المعرفة بآلاف المهن والأعمال . لذا قطع الاختيار المهني إلى اليوم شوطا أبعد بكثير من التوجيه .
وقد كان الاختيار المهني أسبق في ظهوره من التوجيه لما له من مزايا اقتصادية نهم أصحاب العمل بوجه خاص وتتصل بهم اتصالا مباشرا , هذا من ناحية . ومن ناحية أخري لأن مجاله أكثر تحديداً من مجال التوجيه . فهو يتناول حالات خاصة وعملا معينا ظروفه معروفه وطرق أدائه محددة لا لبس فيها , وما عليه إلا أن يغربل المتقدمين فيذر الغث ويحتفظ بالسمين .
وكما يتفق الاختيار والتوجيه من حيث الهدف البعيد وهو المواءمة بين العامل وعمله , كذلك يتفقان بوجه عام من حيث البرنامج الذي يتبعانه لهذه المواءمة ألا وهو :
1- تحليل العمل أو المهنة المعينة تحليلا منفصلا لمعرفة مطالبها المختلفة , السيكولوجية والفنية وغيرها .
2- تحليل الفرد لمعرفة قدراته واستعداداته سماته الشخصية.
3- التحقق من صلاحية الفرد لهذه المهنة بطرق واختبارات سيكولوجية سنعرض لها في الفصول القادمة .
أهداف أخرى للاختيار
لا تقتصر وظيفة الاختيار على انتقاء أكفأ الأفراد لمهنة معينة بل هو يفيد أيضا في :
1- توزيع الأعمال علي العاملين داخل المصنع أو المتجر أو الجيش .
2- نقل العمال والموظفين من عمل إلى آخر .
3- ترقية العمال والموظفين إلى مناصب أعلى , فالترقية حالة من حالات الاختيار والتوجيه .
4- اختيار من يصلحون للتدريب على عمل معين واستبعاد من لا يصلحون .
5- وللاختيار أهمية خاصة في انتقاء مديري الأعمال وقادة الجماعات والمشرفين علي العمال .
6- وهناك أيضا (( الاختيار التعليمي )) لانتقاء طلبة الجامعة وغيرهم من المتقدمين لدراسات خاصة .
8- الاهتمام بشخصية المرشح
أشرنا من قبل إلى أن النجاح في المهنة لا يتوقف فقط على عوامل جسيمة وعقلية وثقافية , بل وعلي سمات شخصية – خلقية واجتماعية ومزاجية أي انفعالية أيضا .. فمن الناس من يحظى بقدر كبير من الثقافة والذكاء , وعلي قدر كبير من حسن النية , لكن أسلوب في معاملة الناس يجني عليه فلا يجعله محبوبا أو يجعله مكروها بالفعل من زملائه ومعاشريه فلا يستطيع نفعهم أو الانتفاع بهم أو العمل معهم .
وتختلف المهن بعضها عن بعض من حيث ما تتطلبه من سمات شخصية . فالإعمال التي تقتضي الاختلاط بالناس والتعامل معهم تتطلب الصبر وسعة الصدر والميل إلى التفاهم . وهي أعمال لا يصلح لها المنطوي الذي يفضل الانسحاب والابتعاد عن الناس , كما لا يصلح لها ذو الميول العدوانية . والأعمال المحفوفة بالمخاطرة والشدائد تتطلب قدراً كبيراُ من الاتزان الانفعالي والبعد عن التهور والاندفاع . وأعمال الإدارة والقيادة والإشراف تتطلب قدراً كافياً من الثقة بالنفس وضبط النفس والشجاعة في اتخاذ القرارات , والمبادأة والنضج الانفعالي والمهارات في إقامة علاقات إنسانية طيبة بين الرئيس ومرءوسيه وبين بعضهم وبعض … وهناك أعمال يتطلب النجاح فيها القدرة على الاحتفاظ بالأسرار , وأخرى تتطلب قدراً معيناً من الصفاقة واللباقة والمراوغة كمهنة مدير المكتب أو السكرتير الخاص … بل إن حسن النية وسرعة التصديق من السمات غير المرغوب في محصل الضرائب أو كشاف الجمرك . وكيف يتسنى لشخص يخاف الأماكن المرتفعة أن يمتهن مهنة بناء أو مصلح أسلاك تليفونية أو لشخص يخاف الأماكن المقفلة أن يمتهن مهنة سائق؟
ويؤكد كثير من النفس الصناعي ضرورة الاهتمام بميل الفرد في عملية الاختيار المهني . وحجتهم في ذلك أن الفرد كلما زادت ألفته بعمله واعتياده مزاولته لم يعد في حاجة ماسة إلى استخدام تفكيره وقدراته العقلية استخداما موصولا لأداء عمليه بنجاح , أصبح ميله إلى أكثر شئ يضمن استمراره على النجاح فيه والتوافق له .
هذه السمات الشخصية المختلفة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار بل يجب أن تكون موضع اهتمام وتوكيد في عملية الاختيار المهني بمختلف أنواعها , . ولا يفي أنها سمات لا تدل عليها الشهادات الدراسية , ولا يمكن الاعتماد في تقديرها علي ما يقوله الشخص عن نفسه أو ما يقوله زملاؤه عنه , بل يجب تقدير على أساس علمي بطرق سيكولوجية يوثق بصدقها .
لقد ظهر من دراسة واسعة في 67 شركة كبيرة بالولايات المتحدة أن عدد الموظفين الذين طردوا لسمات شخصية غير مرغوب كانوا ثمانية أمثال من طرودا لنقص في القدرات الفنية اللازمة للعمل . فالنقص في القدرات على الكتابة الآلة الكاتبة وعلى الاختزال واستخدام اللغة الصحيحة في الكتابة وإمساك الدفاتر .. كان السبب في تسريح 10% من الموظفين , في حين كان الإهمال والكسل وعدم التعاون وعدم الأمانة والتغيب لأسباب غير المرض وانعدام روح المباداة وعدم الولاء للشركة .. كان السبب في تسريح 85% منهم تقريبا . ومن دراسة أخري في 30 شركة صناعية عن العمال (( المشكلين )) ظهر أن 80% منهم يرجع إشكالهم إلى عوامل عقلية ومزاجية . ومن بحث ثالث ظهر أن من حرموا من الترقية لأسباب ترجع إلى شخصياتهم وأخلاقهم كانوا أكثر من ثلاثة أضعاف من حرموا منها في مهاراتهم الفنية .
9- الفوائد الاجتماعية والاقتصادية للاختيار
أما الفوائد التي يجنيها كل من الفرد والاقتصاد القومي من الاختيار المهني العلمي أي عن طريق الاختبارات النفسية فهي هي بعينها فوائد التوجيه المهني السليم ويكفي أن نذكر بعض الخسائر التي يمكن أن تتكبدها الشركة أو المصنع الذي أساء اختيار عماله :
1- فالعامل غير الكفء أقل إنتاجا من غيره , وإنتاجه أقل جودة ونوعا . وقد دلت آلاف البحوث دلالة لا يرقي إليها الشك على أن استخدام الطرق السيكولوجية في الاختيار يؤدي إلى تحسن هائل في الإنتاج . وهذا ليس بمستغرب فالفوارق بين الأفراد في القدرة على أداء عمل معين شاسعة . ولقد ظهر أن الاختيار العلمي يؤدي إلى زيادة في الإنتاج قد تصل إلى أربعة أمثاله . كما دل البحث على أن هذا الفارق الكبير لا يرجع إلى فوارق في الرغبة أو التحمس للعمل بل إلى فوارق فعلية في القدرات العقلية أو اليدوية .
2- والعامل غير الصالحين يحتاج إلى مدة أطول من التدريب , ومن ثم إلى نفقات أكثر . ومع هذا فليس هناك ما يضمن وصوله إلى مستوي المهارة المطلوب . ومن أحد الإحصاءات الأمريكية أن تعيين عامل جديد وتدريبه على عمله يكلف الشركة أو المصنع ما بين 25,400 دولار في المتوسط . بل هناك برنامج تدريب طويلة تستغرق عامين أو ثلاثة فتكلف أموالا طائلة .
3- والعامل القاصر في إنتاجه يتقاضى من الأجر ما يتقاضاه زميله ذو الإنتاج الوفير الجيد .. ذلك وتلك خسارة مادية غير منظورة تتحملها الشركة أو المصنع .
4- وكم من الأخطاء والزلات يرتكبها العامل غير الكفء مما يؤدي إلى عطب الآلات وتلف الأدوات وتبذير في استخدام المواد الخام . هذا إلى ما يتورط فيه من حوادث تتحمل الشركة أعباءها وعواقبها وتدفع ما تقتضيه من تعويضات .
5- والعامل القاصر مصيره في أكبر الظن أن يترك عمله طائعا أو كارها مما يضطر الشركة أو المصنع إلى استئجار عمال جدد والاتفاق على تدريبهم لفترات تطول أو تقصر . هذا إلى ما يحدثه ترك العمال أعمالهم من ارتباك واضطراب في الإنتاج , وإساءة إلى سمعة الشركة
6- هذا إلي أن سوء توافق العامل مع عمله قد يجعله مصدراً للشغب والمتاعب وانخفاض الروح المعنوية لزملائه .
ومن التجارب المأثورة التي تذكر بهذا الصدد أن شركة النقل المشترك بباريس ضخمت بالشكاوى من كثيرة ما يرتكبه سائقون سيارات من حوادث فكلفت الأستاذ (( لاهى )) Lahy أحد علماء النفس الصناعي ببحث هذه المشكلات – قد كانت الشركة تملك ثلاثة آلاف سيارة , وقد قدر عدد الحوادث وما إليها من خسائر في الأرواح وخسائر مادية فادحة كانت تتكبدها الشركة , فبدأ الأستاذ المذكور بتحليل عمل سائق السيارات تحليلا دقيقا , ثم حصر القدرات المختلفة اللازمة للنجاح فيه , ثم وضع اختبارات سيكولوجية لقياس هذه القدرات , وأخذ يختار السائقين على أساس هذه الاختبارات , فكانت النتيجة أن انخفضت نسبة الحوادث بمقدار 16 % مما وفر للشركة 000,300,1 فرنك سنويا . مما يجدر ذكره أن الاختبار العلمي أدى إلى خفض نسبة من يستبعدون من العمال أثناء التدريب من 20% إلى 5,3% وكذلك إلى خفض مدة التدريب من 25 يوما إلى 10 أيتام , فانخفضت نفقات التدريب التي تتكبدها الشركة بمقدار 33% .
ومن الإحصاءات التي يقدمها (( فرنون )) Vernon بإنجلترا , إبان الحرب العالمية الثانية , تتضح نسب عدد الفاشلين في مجموعات من العمال اختيروا بالطرق السيكولوجية ونسبهم في مجموعات اختيروا بالطرق القديمة . فقد كانت نسبة الفاشلين من السائقين الذي اختيروا بالطرق القديمة 30% في حين كانت هذه النسبة 14 % فقط لدى من اختيروا بالطرق الحديثة . وكانت هذه النسب نفسها 11% و4% بين الكتبة , 7% و2% بين عمال اللاسلكي , بينها كانت 60 % و7% فقط بين عمال متخصصين .