الكاتب: م.يوسف مزهر يحيى عباس
الازمات وبناء الشخصية,مهارات النجاح, د محمد العامري
الامتحان الحقيقي للإنسان هو في الأزمات، وفي مواجهة المشاكل، وعند التعرض للنوائب. إن المرء قد يتظاهر بأنه رجل صالح، ولربما يتحمل الكثير حتى يظهر بخلاف ما هو عليه، فإذا تعرض لضائقة مالية، أو لمصيبة عائلية، أو خسر في تجارة، أو انهزم في معركة سياسية، أو ما أشبه ذلك، تظهر حقيقته الكاملة من دون قناع أو تلوين..
فالمشاكل تعصر الإنسان حتى يبوح بكوامنه، ويظهر على حقيقته.. ليس عن طريق الكلمات وإنما عن طريق المواقف. ألا ترى كيف أن البعض إذا أصيب بمصيبة يجزع بلا حدود.. وربما يكفر بالأقدار ويلعن السماء.
والبعض الآخر ينهزم إذا خسر، أو يجن إذا فقد وظيفة، أو ينتحر إذا خسر في معركة سياسية، أو يشكك في وجود البارئ إذا تعرض لكارثة..
هؤلاء هم ضعاف النفوس، لأنهم يتنازلون عن مبادئهم وقيمهم مع أول صدمة، ويتراجعون عن إنسانيتهم مع أول ضائقة، ومثل هؤلاء ليس في داخلهم إلا البصل، وحينما يعصرون في معصرة الأزمات يخرج منهم عصير البصل، وليس عصير التفاح، إن الرجال يعرفون في الشدائد والأزمات، وإن الإيمان يتبين عند الفتن.
لقد كنت في السابق عندما أسمع أنهم يقولون على سبيل النكتة: “إن شخصا تسابق مع نفسه فخسر السباق وأصبح الثاني..” كنت أعتبر ذلك مجرد طرفة من طرائف الظرفاء، ولكن بعد التأمل في ذلك بدا لي أن أغلب الناس هم من هذه الشاكلة، فالذي يكون آخر يوميه شرهما هو من يخسر في معركة النفس، فلا يحرز المرتبة الأولى، ومن يكون في اليوم حسن الأخلاق دمث الطبع، ولكنه في اليوم التالي يكون سيئ الأخلاق غليظ القلب، هو ممن تسابق مع نفسه وجني الخيبة والفشل.
وكذلك من كان في يومه مؤمنا متيقنا، لكن الشك أخذ يقضم يقينه في اليوم الثاني هو ممن تسابق مع نفسه فلم يحرز المرتبة الأولى، وخسر السباق. إن النفس إذا هزمت في معركة القيم والمبادئ فلن تبقى لها قائمة..
ألا ترى كيف أن البعض يترك مجتمعه الإيماني السليم، بحثا عن إشباع نزوة عابرة في وسط فاجر فاسق، غير مبال بما سيؤول إليه مصيره في الدنيا وفي الآخرة؟!
إن كل الذين يقفون مع الحق يوما، ثم ينقلبون عليه يوما آخر، هم ممن خسر المعركة أمام أهواء النفس، وفي الحقيقة فإن الإنسان في سباق دائم في ميدان الحياة: بين نفسه الأمارة بالسوء، وبين ضميره المدعوم بالعقل.. وأحيانا ينتصر هذا على ذاك، وأحيانا يحدث العكس. فمنذ الأيام الأولى لنشأة الطفل ونمو شعوره وإحساسه وفطرته من جهة، وبين رغباته من جهة أخرى.. يجد نفسه ساحة السباق مع ما يرغب فيه من جهة، ومع ما يجب عليه أن يفعله من جهة أخرى.
وفي داخل المجتمع أيضا ينتصر للحق أولئك الذين انتصرت الفطرة في نفوسهم، كما يدافع عن الباطل أولئك الذين انتصرت الأهواء عليهم، فالحياة حلبة سباق، ومن فيها فاز ومن تأخر فيها خسر.. والفوز الحقيقي هو في تزكية النفس وتهذيبها. والخسارة الحقيقية هي خسارة الوجدان والضمير والعقل والآخرة جميعا.
ثم إن للسباق في ميادين الحياة أوجه متعددة، ولعل من أهمها السباق بين الأفراد، إما لإشباع الأهواء والرغبات والمكاسب المادية، وإما طلبا للعلم والفضيلة والطاعة والخيرات والعمل الصالح، ومن السباق يولد الصراع بين الناس، ولكن يبقى الصراع الأكبر والأشمل والأخطر للإنسان، هو صراعه مع الشيطان، فمن هذا الصراع تتفرع كل الصراعات الأخرى في الحياة العامة.
وغلبة الإنسان في صراعه مع إبليس ستمنحه البصيرة الكافية لمعرفة الطريق الذي ينبغي السير فيه، والعمل من أجل الخير ومواجهة الشر.
فمن يتغلب على شيطان نفسه الأمارة بالسوء، لن يدخل في التنافس مع الناس من أجل المكاسب المادية، ولن يصارع الآخرين في سبيل الوصول إلى السلطة والهيمنة، ولكنه حتما سيتنافس مع الصالحين لتحقيق الصالح من الأعمال كطلب العلم، وعمل الخير، ومساعدة الآخرين وما شابه ذلك.
إذن ليس الفضل في أن يكسر الإنسان شوكة الشجعان في الحرب، لأن القوة قد يمتلكها أقذر الناس، ولكن الفضل كله في أن يكسر الإنسان شوكة الشيطان، صاحب القوة الجبارة في داخل ذاته. وهذه القوة هي التي لم يستطع الجبابرة والطغاة بكل ما امتلكوا من قوى وجيوش أن يهزموها، بل انهزموا أمامها. غير أن الإنسان المؤمن يستطيع وبسهولة أن يلحق الهزيمة بالشيطان الرجيم، بفضل إلحاقه الهزيمة بنفسه الأمارة بالسوء، واستجابته لضميره ووجدانه.
يقول الإمام أمير المؤمنين: “ألا وإن اليوم المضمار، وغدا السباق. ألا وإن السبقة الجنة والغاية النار. أفلا تائب من خطيئته قبل منيته؟ ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه؟”.
إن الحياة هي ميدان صراع وسباقِ، فالتسابق من لوازم الحياة، والصراع من لوازم البقاء.
خذ مباراة رياضية كالمصارعة، أو الجري، أو رفع الأثقال، أو ركوب الخيل، أو السباحة أو ما شابه ذلك. ففي أمثال هذه المباريات هنا لك جوائز وميداليات تمنح لمن أحرز الفوز، ويحرم منها من خسر. ترى كيف تكون الخسارة؟ وكيف يكون الفوز؟
طبعا لا يفوز في المباريات إلا من كان أفضل من غيره في الأداء، ولا يكفي في ذلك مجرد حسن النية، كما لا يكفي العلم وحده، إنما الأداء الجيد، الذي هو نتيجة الإرادة القوية، هو الذي يؤدي إلى الفوز، فينجح من تدرب أكثر وواصل التمرين، واستعد للسباق، لأن الفوز لا يأتي مجانا، إنما هو نتاج العمل الدؤوب والجد والاجتهاد والمثابرة.
وليس الأمر كما يقول البعض: بأن الفوز إنما يأتي لأنه مكتوب على الجنين، بل هو بذل الجهد، إذ (ليس للإنسان إلا سعى) كما يقول القرآن الكريم.
فكما أنه في المباريات الرياضية لا بد من توفر أمرين:
الأول: الأداء الجيد على أرض الواقع، مثل الركض والمصارعة ورفع الأثقال وغيرها..
الثاني: الجائزة التي تعطي للفائزين.
وكذلك الأمر في باقي ميادين الحياة، فهي ساحة صراع وتنافس، ولكن السباق ليس في الألعاب وما يرتبط بأمور الدنيا، بل هو سباق للباقيات الصالحات كما يقول ربنا: (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا).
إن موضوع المسابقة هو تهذيب النفس وإصلاح النية.. وميدان السباق هو العمل وأداء الواجبات..
يقول الإمام على رضي الله عنه: ميدانكم الأول أنفسكم، فإن قدرتم عليها فأنتم على غيرها أقدر، وإن عجزتم عنها فإنتم عن غيرها أعجز”.
وفي النهاية تقدم الجوائز للفائزين، وهي عبارة عن الفوز بجنة الله عز وجل ورضوانه. يقول الإمام: “الدنيا سوق، ربح فيه قوم، وخسر آخرون”.
بالفوز في الشوط الأول للمباراة، وإنما الانتهاء بالفوز في الشوط الأخير..
كذلك في الحياة. فهنا لك جولات كثيرة، وحلبات مختلفة للسباق، وعلى المرء أن يكون حذرا جدا فلا يصاب بالغرور إذا ربح في البداية، حتى لا يخسر في النهاية، ولا يصاب باليأس إذا خسر في الجولات الأولى. حيث إن بإمكانية أن يعد العدة مرة أخرى ويكون الفائز في نهاية المطاف.
وعلى المرء أن يتوكل على ربه عز وجل ويعمل للفوز في ميدانه الأول على أهواء نفسه، حتى يكون أقدر على الفوز في ميادين الحياة الأخرى.
هادي المدرسي