
من مذكرات (سنوحي) طبيب الفرعون (أمفسيس):
يقول(سنوحي) في مذكراته: كنت أمشي في شارع من شوارع مصر، وإذا بالرجل الوجيه الشريف الثري المعروف (إِخناتون) ملقى على الأرض مضرجاً بدمائه، وقد قطعت يداه ورجلاه من خلاف وجدعت أنفه، وليس في بدنه مكان إلا وفيه طعنة رمح أو ضربة سوط وهو قاب قوسين أو أدنى من الموت، فحملته إلى دار المرضى وجاهدت جهاداً عظيماً لإنقاذه من الموت، وبعد شهرين أو أكثر وعندما أفاق من غيبوبته قص علي قصته المحزنة المفجعة قائلاً: لقد أمرني الفرعون (أمفسيس) أن أتنازل له عن كل شبر أرض أملكه، »وأن أهبه أزواجي وعبيدي وكل ما أملك من ذهب وفضة، فاستجبت لما أراد، بشرط أن يترك لي داري التي أسكن فيها ومعشار ما أملكه من الذهب والفضة لأستعين بها على أودي، فاستثقل فرعون هذا الشرط واستولى على كل ما كان عندي، ثم أمر بأن يفعل بي تلك الأفاعيل الشنيعة، وأن أطرح في الشارع عارياً لأكون عبرة لمن يخالف أوامر الإله (أمفسيس) ودارت الأيام، و(إخناتون) المسكين يعاني الفقر والحرمان، وكل أمله في هذه الدنيا هو القصاص من الفرعون الظالم ولو على يد غيره.
ومات الفرعون، وحضرت مراسيم الوفاة بصفتي كبير الأطباء، فكان الكهنة يلقون خطب الوداع مطرين الراحل العظيم، وكانت الكلمات التي يرددونها لا زلت أتذكرها جيداً فقد كانوا يقولون يا شعب مصر، فقدت الأرض والسماء وما بينهما قلباً كبيراً كان يحب مصر وما فيها من إنسان وحيوان ونبات وجماد، كان للأيتام أباً وللفقراء عوناً وللشعب أخاً ولمصر مجداً كان أعدل الآلهة وأرحمهم وأكثرهم حباً لشعب مصر. ذهب (أمفسيس) لكي ينضم إلى الآلهة الكبار وترك الشعب في ظلام، وبينما كنت أصغي إلى كلام الكهنة ودجلهم في »
ويضيف (سنوحي) القول، وأندب حظ مصر وشعبها المسكين الذي يرزح تحت سياط الفراعنة والكهنة معاً، وبينما كانت الجماهير المحتشدة التي لقي كل فرد منهم على حدة من بطش فرعون وسياطه أذى وعذاباً تجهش بالبكاء: سمعت رجلاً يبكي كما تبكي الثكلى، وصوت بكائه علا الأصوات كلها، ويردد عبارات غير مفهومة، فنظرت مليا، وإذا صاحب البكاء هذا هو (إخناتون) المعوق العاجز الذي كان مشدوداً على ظهر حمار، وأسرعت إليه لأهدئه بعض الشيء، فقد ظننت أنه يبكي سروراً وابتهاجاً على وفاة ظالم ظلمه إلى حد الموت
بالتعذيب، ولكن (إخناتون) خيب آمالي عندما وقع نظره عل ي، وأخذ يصرخ يا (سنوحي) لم أكن أعلم أن (أمفسيس) كان عادلاً وعظيماً وباراً » : عاليا بقوله بشعبه إلى هذه المرتبة العظيمة إلا بعد أن سمعت ما قاله كهنتنا فيه. وها أنا أبكي يا (سنوحي) لأنني حملت في قلبي حقداً على هذا الإله العظيم بدلاً من .« الحب والإجلال طوال سنوات عديدة، ح قاً لقد كنت في ضلال كبير ويقول (سنوحي): وعندما كان (إخناتون) يكرر هذه الكلمات بإيمان راسخ، كنت أنظر إلى أعضائه المقطوعة وصورته المشوهة وأنا حائر فيما لقد » : أسمع، وكأنه قرأ ما يدور في خلدي، وإذا به يصرخ فيّ بملء شدقيه: كان (أمفسيس) على حق فيما فعله بي؛ لأنني لم أستجب إلى أوامر الآلهة، وهذا هو جزاء كل من يعصي الإله الذي خلقه وأحبه، وأي سعادة أعظم (( للمرء من أن ينال جزاء أعماله الذي يستحق على يد الإله لا على يد غيره))
من (أمفسيس) هذا؟
فرعون من فراعنة مصر، حكمها بالنار والحديد طوال عشر سنوات، دخل في حرب خاسرة مع بلاد النوبة الجارة، قتل فيها خمس شعب مصر، خرب المزارع وقطع الأشجار، وأباد شباب مصر متهماً إياهم بالهزيمة في الحرب التي شنها ضد النوبة، أحرق العاصمة في إحدى ليالي مجونه كما فعل بعده (نيرون) بسبعة قرون الذي أحرق روما عاصمة الرومان. لقد كان عهد (أمفسيس) أسوأ عهد عرفته مصر في تاريخ الفراعنة الذين حكموها مبتدئا من الأسرة الأولى حتى الأسرة الخامسة التي كان (أمفسيس) أول أفرادها. مات (أمفسيس) وترك خراباً شاملاً وشعباً ممزقاً، ومع كل هذا بكته الجماهير المحتشدة متأثرة برثاء الكهنة وخطبهم، ومن بين تلك الجماهير .(١)« (إخناتون) المسكين نعم؛ هكذا يفعل التضليل بعقول الناس عندما يصدر من أفواه قوم يتظاهرون بالدين ويرفعون شعاره، ويتولون قيادة الأمم إليه وحل رموزه وإيضاح مبهماته لهم، فلا تلبث العقول أن يطغى عليها التضليل، فيعمي بصائرها ويطمس شعاعها، فتنقلب عندها الموازين حتى ترى الطغيان عدلا وإحسانا وتحسب البطش بها برا ومرحمة.
ملاحظة :
كان (سنوحي) طبيباً للفرعون(أمفسيس) الذي عاش في القرن العاشر قبل الميلاد، وقد كتب مذكراته عن حياة هذا الفرعون وعن الشعب المصري الذي كان يعاني استبداد (أمفسيس) واكتشف علماء الآثارهذه المذكرات ضمن ما خلفته السنون بين الكتب الهيروغليفية، وترجمت مذكرات هذا الطبيب التي كتبها بأسلوب رائع وبديع إلى اللغات العالمية الحية، وطبعت أكثر من مرة، وهي الآن بين أيدينا يستطيع القراء قراءتها كل بلغته واستخلاص دروس العجب منها.