المدهش أنها حياة واحدة.. نحياها ثم ينتهي السباق.. يظهر بغتة خط النهاية، نُبصر دون تحذير شارة التوقّف؛ فلا حركة بعدها، ولا نفس.
حياة واحدة نعيشها جميعاً؛ فليس من الفطنة إذن أن نحياها ونحن نرتجف هلعاً ورعباً، وليس من الفطنة كذلك أن نحياها دون أن نتعلم فيها ومنها.
وأبداً ليس بذكي ذلك الذي يحياها وكأنه لم يحيَ فيها، يتلمّس موضع قدمه قبل الخطو، وينظر في وجوه مَن حوله قبل النُطق، ويلتفت خلفه قبل أن يقرر شيئاً ما؛ حتى وإن كان بسيطاً.
يُقال إن أقصر قصة لحياة شخص ما، هي: “ولد عاش ومات”.. هكذا دون تفاصيل مهمة، بلا إشارات ذات دلاله عميقة، ولا هدف تحقق، ولا تاريخ مشرف يمكن أن يُروى للأبناء والأحفاد.
كم مِن حولنا ولدوا وعاشوا وماتوا فلم يشعر بموتهم أحد، كما لم يشعر أيضاً بحياتهم أحد.
المؤسف أن تكون هذه القصة المختصرة الهزيلة، أفضل من قصة أخرى أشدّ منها قِصراً وهزلاً؛ لكنها مع الأسف الشديد تملأ عالمنا العربي، قصة مَن “وُلِد ومَات” ولم يعِش أبداً؛ برغم سنوات عمره التي قد تمتد طويلاً.
وُلد.. ومَات؛ هكذا دون أي اعتبار لأنفاس لا ندري هل دخلت لتخرج، أم أنها لم تدخل أصلاً؟
عاش فصنع في الحياة زحاماً، وفوضى، وزاد عدد الأجساد واحداً؛ لكنه -يا للمأساة- لم يُعطِ لنا ولا لنفسه مبرراً وجيهاً للسنوات التي قضاها سائحاً في دنيا الله.
وعلى النقيض، هناك من ولد ولم يمُت برغم غياب جسده من بيننا، لا يزال حياً في ذاكرة الدنيا، ولم يعُد توقف أنفاسه دليلاً على موته وفنائه.
صَدَق فيهم قول الشاعر:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم .. وعاش قوم وهم في الناس أموات
أعمارهم مباركة برغم صغرها، يصفهم ابن عطاء الله السكندري بقوله “رُبّ عُمُر قصُرت آماده واتسعت أبعاده”، يقتحمون الحياة، يُخطئون فيستغفرون، يُصحّحون أخطاءهم بلا خجل، يعيدون ترتيب حياتهم إذا ما اعتراها خلل أو فوضى، ينطلقون إلى الأمام دائماً، أوقاتهم هي رأس مالهم الحقيقي، أهدافهم نبيلة، ووسائلهم لنيلها شريفة، أحلامهم مضيئة؛ لكنهم برغم كل هذا مقاتلون من الطراز الفريد.
يُدركون أن الحياة تُعطي لتأخذ.. تبتسم؛ لكنها لا تَثبُت على حال، هم دائماً في يقظة وانتباه؛ لذا لا عجب أن تراهم لحظة انتهاء حياتهم مطمئني الجَنان؛ فعدمُ تقصيرهم تجاه التزامهم بجدية العيش في الحياة، يجعل ضمائرهم هانئة مستريحة.
والسؤال.. أي حياة من الحياتين ستعيش؟
حياة مَن ولد وعاش ومات.. أم حياة من عاش؛ لكن لم ولن يموت؟
حياة واحدة ستعيشها؛ فهل ستجعلها حياة بألف حياة.. أم ستكون حياة كَلَا حياة؟
ولديك وحدك الإجابة.