الإنسان ذو طبيعة مزدوجة؛ فهو مكوّن من قبضة طين ومن نفخة روح، قال تعالى: “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ” [ص:71-72]، ولقد اهتم الدين الإسلامي بالجانبين: الطين والروح، أي: الجسد والنفس، أما الجسد فإن معالمه أوضح، وعناصره محددة لذلك فإن التعامل معه أسهل، وقد وردت عدة آيات وأحاديث تحدّد كيفية التعامل معه منها قوله تعالى: “يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” [الأعراف:31]، وقول الرسول: “ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه فإنْ كان لابد فاعل فثلث لطعامه، وثلث لمائه، وثلث لهوائه”، وجاءت أوامر الوضوء والاغتسال كشروط لأداء الصلاة لكنها تحقق -في الوقت ذاته- هدفاً دنيوياً آخر هو تنظيف الجسد والمحافظة على سلامته، كما جاءت سنن الفطرة التي تشمل الختان والاستحداد وتقليم الأظافر وإعفاء اللحية التي ذكرتها كتب السنة، لتزيد الحياة جمالاً وطهارة ونظافة، ولا نريد أن نفصل في مجال الجسد؛ لأنه ليس مجال بحثنا الآن، لكن لابدّ من الإشارة البسيطة إليه، وإلى كيفية التعامل معه؛ لأن هذه الصورة من التعامل تؤثر في الصحة النفسية للمسلم.
أما الروح فهو جانب أعقد وأغمض في الإنسان لذلك قال تعالى: “َويَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً” [الإسراء:85]، هذا عن حقيقة الروح وماهيتها، أما جانب دور الروح ووظائفها فذلك أوضح، فقد وردت عدة ألفاظ تدور في الإطار نفسه تشكل منظومة متكاملة مع الروح وهي ألفاظ (النفس، القلب، العقل، الفؤاد)، ويوجّه جميعها الجانب غير المحسوس من الإنسان وهو الجانب الأهم من مثل الأمور النفسية والعاطفية: كالحب، والرجاء، والخوف، والتعظيم، والثقة، والتوكل… الخ، ومن مثل الأمور التفكيرية: كالتذكر، والفهم، والتعميم، والتحليل، والتركيب… الخ.
ومما يشير إلى أهمية النفس وقوع القسم بها فقد قال تعالى: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا” [الشمس:7-10]؛ لأن الله لا يقسم إلاّ بما هو كبير وعظيم وشريف ومهم.
وبيّن لنا القرآن الكريم أن النفس تمرّ بثلاث حالات:
الأولى : الأمر بالسوء، فقال تعالى: “وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ” [يوسف:53]، وهي الحالة التي تأمر النفس فيها صاحبها بارتكاب المعاصي والمنكرات، والوقوع في القبائح، وتنهاه عن الطاعات والمروءات، وتستجيب لدواعي الأهواء والشهوات، وتخضع لنـزغات الشيطان وإغراءاته، وهي الحالة الأدنى.
الثانية : لوم الذات ومحاسبتها، فقال تعالى: “وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ” [القيامة:2]، وهي الحالة التي تلوم النفس فيها صاحبها على فعل الخير وفعل الشر، وقد وضّح ابن عباس رضي الله عنه ذلك فقال: “هي التي تحاسب صاحبها على فعل الخير: لماذا لم أستزد منه؟ وعلى فعل الشر: لماذا وقعت فيه؟”، وهي حالة متقدمة على الحالة التي سبقتها.
الثالثة : اطمئنان النفس: قال تعالى: “يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي” [الفجر:27-30]، وهي الحالة التي اطمأنت فيها النفس أن الله – تعالى- حق، وإلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق ومبعوث لهداية العالمين، وإلى أن القرآن الكريم حق، فعملت بتعاليم الإسلام، وأيقنت باليوم الآخر، واستسلمت لقضاء الله وقدره… الخ، وهي الحالة الأعلى.
ومن الواضح أن هناك تدرجاً بين الحالات الثلاث، وأن النفس لا تنتقل من حالة إلى ما هو أعلى منها إلاّ بعد كثير من الطاعات والعبادات والمجاهدات والقربات من صلاة وصيام وذكر وصدقة…الخ.
وقد حدثنا القرآن الكريم والسنة المشرفة كثيراً عن النفس البشرية، وبيّن لنا معالمها، وقدّم تفاصيل دقيقة عنها من أجل أن نحسن التعامل معها، ومن المتيقن أن هذا التشريح للنفس البشرية سبق الاهتمام الغربي بتكوين (علم النفس)، والذي بنى (فرويد) قسماً كبيراً منه على دراسة حالات مرضية لبعض الأشخاص، وتوصل إلى تصور غير صحيح للنفس البشرية؛ إذ اعتبر أن الجنس -وحده- هو الطاقة المحركة للإنسان، واعتبر أن كل علاقة للولد بأمه هي علاقة جنسية من خلال (عقدة أوديب)، واعتبر -كذلك- كل علاقة للبنت بأبيها هي علاقة جنسية من خلال (عقدة ألكترا).
تلك بعض الآراء التي توصّل إليها الغرب عن النفس البشرية عند أبرز عالم عندهم هو (فرويد)، وهي آراء شاذة ومبالغ فيها وغير دقيقة، لذلك جاءت معالجات (فرويد) لهذه النفس البشرية خاطئة وتتلخص في إطلاق الإباحية الجنسية للفرد من أجل عدم الوقوع في الكبت الجنسي، ناسياً أن العفة لا تعني كبتاً بل تعني ضبطاً للطاقة الجنسية، وهذا في مقدور الإنسان، ولاشك أن الخطأ في المعالجة أمر طبيعي طالما أن هناك خطأ في التصور.
والآن بعد هذا الوصف السريع لنموذج خاطئ في تصوره للنفس البشرية ومعالجته لها، ما معالمها حسب الطرح الإسلامي؟
تتكوّن النفس البشرية حسب الطرح الإسلامي من الطاقات التالية:
أوّلاً: طاقة الحب:
طاقة الحب عميقة في الكيان الإنساني، فقد بيّن الله لنا أن هذه الطاقة تتجه إلى حب الله فقال تعالى: “فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ” [المائدة:54]، وقال تعالى أيضاً: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ” [البقرة:165]، وتتجه إلى الشهوات فقال تعالى: “زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ” [آل عمران:14]، ومما تجدر الإشارة إليه أن الدين الإسلامي أباح للمسلم أن يحب الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والتجارة والمال والمساكن، لكنه طلب منه أن يكون حبه لله ورسوله أكثر من هذه المحبوبات فقال تعالى: “قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ” [التوبة:24].
ثانياً: طاقة التعظيم والخضوع:
الإنسان مفطور على تعظيم شيء أو أشياء -وبالتالي- الخضوع لها، والذي يعظمه الإنسان يخضع له، وكل شيء يخضع له لابد من أن يكون عظيماً عنده، وأول شيء مفطور على تعظيمه هو الله -تعالى- وحده، لذلك دعا الله -سبحانه وتعالى- الرسول في أوائل القرآن الذي تربى عليه إلى تعظيم الله وتكبيره فقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ” [المدثر:1-3]، والتديّن هو تعظيم الله -تعالى- وتقديسه، وتنـزيهه عن كل شبيه أو مثيل وتوحيده وهو الذي يولد عليه المولود كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه”.
ثالثاً: طاقة الخوف والرجاء:
الإنسان مفطور على الخوف والرجاء، لابد من أن يخاف لذلك قال تعالى:
“إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً” [المعارج:19-21]، لذلك طلب القرآن من المسلم أن يوجّه خوفه إلى مقام الله وعذاب الله فقال تعالى: “وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هيَ الْمأْوَى” [النازعات:40-41]، وقال تعالى: “وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ” [الرحمن:46]، وطلب القرآن الكريم من المسلم كذلك أن يوجّه رجاءه إلى الله وجنته فقال تعالى: “فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً” [الكهف:110]، وقال تعالى: “أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ” [الزمر:9].
والآن بعد هذا التوضيح لخريطة النفس الإنسانية كيف تمتلك -أخي المسلم- الصحة النفسية؟ تمتلك -أخي المسلم- الصحة النفسية إذا سارت كل طاقة في مجراها السليم، فطاقة الحب يجب أن تتجه إلى حب الله -تعالى- لأنه هو الذي أنعم عليك بنعمة الإسلام والإيمان والصحة والولد والمال… الخ، ويجب أن تتجه إلى ترجيح كفة حب الله على كل محبوبات الدنيا بمعنى أن تحكّم شرع الله في حب الأموال والتجارة والعشيرة والزوج والولد والوالد والأخ، فتحلّ ما أحل الله في هذا الحب، وتحرّم ما حرّم الله، فتكسب المال عن طريق البيع وتبتعد عن الربا، وتقيم العلاقة مع الأنثى من خلال ميثاق الزواج وليس عن طريق المخادنة والسفاح والزنا، وتجعل علاقتك مع العشيرة من خلال الإيمان بالله وليس من خلال العصبية الجاهلية، ولا أن توالي الوالد والإخوان إن استحبوا الكفر على الإيمان، كما قال تعالى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ” [التوبة:23].
أما طاقة التعظيم والخضوع فيجب أن تتجه إلى تعظيم الله والخضوع له، بمعنى أن تعظم كلام الله وأوامره ونواهيه وحلاله وحرامه وأنبياءه وبيوته… الخ، وأن تخضع له فتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج إلى الكعبة… الخ.
أما طاقة الخوف والرجاء فيجب أن تتجه إلى الخوف من الله وإلى رجاء الله، بمعنى أن تخاف مقام الله وناره التي وقودها الناس والحجارة، وأن شررها كالقصر، وأنها تسأل هل من مزيد، وأنها تتميز من الغيظ، وأن الكافر تمنى من شدة عذابها ألاّ يكون قد استلم كتابه، ولا عرف حسابه، وأنه هلك قبل ذلك، ويتحسر حيث لم يعد يفيده ماله ولا سلطانه، وأن الكافرين يلفح وجوههم رياح السموم الحارة، وأنهم يستظلون بظل لا بارد ولا كريم… الخ، وأن ترجو عطاء الله غير المحدود وكرمه الذي لا ينتهي، وعفوه، ومغفرته، وجنته التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفيها الحدائق والأعناب، والكواعب الأتراب، وفيها القول السلام… الخ، لا أن ترجو المخلوقين الضعفاء المحتاجين من أمثالك.