يفيدنا الخيال باكتشاف العالم ذهنياً والقيام بتجارب فكرية ضرورية لاتخاذ قرارات وحل مسائل؛ وهو عملية عادية جداً وفي قلب حياتنا النفسية، لكن عندما يكون بخدمة الإبداع، يصبح الخيال مقدرة على خلق الواقع بأفكار جديدة وعلى اختراع طرق لقلب وضع سائد. فكيف يعمل الخيال؟ وبفضل ماذا يسمح لنا بالإبداع؟ علماً بأن الإبداع ينشأ نتيجة تفاعل بين مكونات معرفية (معارف، ذكاء، أسلوب معرفي) ومكونات لها علاقة بالمجهود (خصائص شخصية، دوافع)، ومكونات تعود لسياق الحالة والمحيط(3).
اتساع مجال التماثل
يعترف اختصاصيو العلوم المعرفية في يومنا هذا بالقدرات الواسعة لآليات الفكر التماثلي، وبأن النماذج، والصور والتشابيه البليغة ليست مجرد زخرف للخطاب.
هل تعرفون قانون “الجاذبية الكونية” الذي يجعل النجوم تدور في مدار والكراسي تنقلب عندما ندفعها؟ لقد أعطاها إسحق نيوتن صياغتها الحديثة عام 1687، ويوجد نصان لهذا الاكتشاف، نص علمي يقول بأنه نتيجة عمل دؤوب على معادلات كيبلر(4)، توصل نيوتن في نهاية الأمر إلى الحل الخاص به (بشكل مبسط F=Gmm`/d2). والنص الآخر، شعبي، يقول بأنه عندما شاهد تفاحة تسقط من شجرة، حدَّثه حدْسهُ بشكل مفاجئ موحياً له بفكرة مفادها بأن النجوم أيضاً تسقط. حاز النص الأول على تأييد المؤرخين طالما أنه يثبت الفكرة القائلة بأنه كلما كانت المعرفة علمية، تكون مؤسسة على ملاحظات دقيقة وبراهين منطقية، أي عقلانية؛ إلى جانب ذلك، لم تكن قصة التفاحة سوى أسلوب مستحب للإضاءة على نظرية الرجل العظيم، إن لم تكن قد صيغت في وقت لاحق، وهي كذلك. لكن شيئاً ما تغيّر عندما تمت إعادة فتح بعض كتاباته في عام 1936 ليكتشفوا أن هذا العالِم رغم دقته وصرامته، كان شغوفاً بالكيمياء: ففكرة أن المادة يمكن لها، مثل بعض المعادن، أن تتجاذب وتتجابذ عن بعد، كانت موجودة. هناك شك بأن قانون الجاذبية الكونية قد أوحي له من هذا المبدأ، الذي كان في تلك الفترة مستبعداً بشكل عام، الأمر الذي يفتح آفاقاً أخرى ويضع هذا البرهان “بطريقة القياس” في قلب الفيزياء.
ففي مجال كمجال العلوم الدقيقة، التحدث عن “برهان تماثلي أو قياسي” هو دوماً كمن يلعب بالنار. لماذا؟
لنأخذ تماثلاً شائعاً: التماثل الذي يقدم لنا الذرَّة وكأنها نظام شمسي صغير، مع نواة وإلكترونات تدور من حولها. إنه ليس خاطئاً تماماً لكنه أيضاً ليس صحيحاً حرفياً: فسرعة ووضعية الإلكترون لا يمكن أن تعرفان في آن معاً، فهو إذاً لا يسير بشكل “دوائر”. قبل اكتشافات الفيزياء الكوانتية، كان يُنتقَد بصرامة ثم تمَّ قبوله كنموذج تقريبي. كان هناك سلبيات كبيرة في ماضي العلوم بسبب تماثلات خاطئة، مثل الإيتر الميكانيكي لرينيه ديكارت(5)، كما أن الاعتقاد بأسلوب وهمي وتقريبي في البرهنة، أثار عدداً كبيراً من الفلاسفة والعلماء ودفعهم إلى رفضه وتجنبه وكأنه طاعون، حتى أن نيوتن ذاته قد أدلى بتصريحات بهذا الشأن.
النظر إلى الواقع بطريقة مختلفة
مع أن، العديد من المؤرخين والفلاسفة والعلماء يقرّون اليوم بأن التفكير بطريقة التماثل أو بالاستعارة ليس هو ممارسة شعرية فقط، إنما هو عنصر ضروري لنشاط المعرفة، لأنه مصدر للحدس المبدع قبل كل شيء. فبناء تماثل يكون بشكل أساسي في مقارنة ومقابلة ميدانين أو ظاهرتين كانتا في الماضي تعتبران منفصلتين: خلية حية وآلة، موج على سطح الماء وانتشار الصوت، الجو الأرضي وبيت زجاجي في حديقة، الدماغ البشري والحاسوب. يبرز هذا الأسلوب قيمة استكشافية عليا بالنظر إلى الواقع بشكل آخر.
وفي الجانب الآخر من الآلية، هناك الاتصال، تسمح الصورة البصرية من خلاله بعرض نتيجة أو نظرية بشكل أكثر سهولة من خطاب أو من سلسلة من المعادلات. لهذا السبب، تقوم المجلات العلمية باللجوء إلى رسوم توضيحية هي غالباً ليست سوى استعارات كما في حال المورِّث الـDNA الذي يتم تقديمه برمز معلوماتي.
بين الاثنين، قد تمَّ لمدة طويلة اعتبار القسم العلمي الأكثر صعوبة، بما فيه عملية البرهنة، والتحقق والمصادقة على نظرية ما على سبيل المثال، خارج مستوى الوصف التماثلي، لأن ما هو صحيح في مجال قد يكون خطأ في مجال آخر ولأن القيمة التقريبية أو التخمينية ليست برهنة. مع أن هذا الاستبعاد لا يعكس واقع طرق العمل العلمية: فوفق ماري- جوزه دوران- ريشار(6)، ينبغي التدقيق في التماثل وأين يكون الخطأ الجزئي كما هو حال الذرَّة – الشمس الذي سمح بالوصول إلى اكتشافات أخرى (الكوانتا). يمكن للتماثل إذاً أن يكون له دور حاسم حتى في العلوم الدقيقة، وحتى لو كان مصير هذا الدور هو النسيان، لكنه موجود. فالتماثل الأكثر استخداماً لوصف دور الدم في الجسم كان الري وظلَّ هذا الأمر لقرون عديدة. ولما كان الطبيب وليام هارفي (1578- 1657) غير مكتف بهذه الصورة، حاول أن يفهم كيف يعود الدم إلى القلب، وبدَّلها بمماثلة أخرى: وهي الدوران العام للدم. أي المماثلة القديمة مع عجزها، كانت الأساس للنظرية الحديثة. كل هذه الأمور قادت المؤرخين والمختصين في البرهنة العلمية إلى إعادة اعتبار المكانة الحقيقية للتجربة التماثلية في تكوين المعارف. حتى لو أن استعارة ما لا تحتوي بداخلها أدوات التحقق منها، فهي أكثر قليلاً وربما أكثر كثيراً من الزبد، أو كما كتب الفيلسوف جاك بوفريس “دمال المعرفة العلمية”.
من وجهة نظر أساسية، يعمل بعض اختصاصيّي علم النفس منذ عقدين أو ثلاثة عقود مغامرين في محاولة لمعرفة إن كانت البرهنة “بالتماثل”- بالإضافة إلى كونها أداة اكتشاف – تستطيع أن تكون في الوقت نفسه أداة لحل مسألة أكثر شيوعاً وفائدة مما نظنها. في حقل علم النفس التجريبي، “المسائل” هي التفاسير الممحصة لعمليات نجريها كل يوم مثل التنقل، وشراء بعض الأشياء، وأخذ المواعيد، والشروع بمهمة بدل أخرى، إلخ. وما نكتشفه فيها قد يساعد في الإضاءة على نشاطنا اليومي.
بماذا يفيدنا التماثل؟
وفق اختصاصية علم النفس إيفلين كليمان(7)، يفيدنا أقله في معرفة المسألة. مثال: كلمة طرح. غير أن هذه العملية يمكن أن يتم فهمها بطريقتين: فصل قسم عن مجموع (بعض الكلل من كيس مليء بالكلل) أو السير في مسافة بين نقطتين مع عد الخطوات. هاتين الصورتين يمكن تحريكهما للقيام بعمليات إما بسحب أو بعدّ الباقي (8-5=3)، أو بعدّ الفاصل بين رقمين (5+1+1+1=8). “سحب الكلل” و”الخطوات المعدودة” هي تماثلات- مصادر بالنسبة إلى علم الحساب.
الجرّاح والجنرال
لكن هناك ما هو أفضل. ألا يكون التماثل بذاته مدخلاً لجواب على المسألة المطروحة؟ عندما نبحث عن مسألة خاصة، نسبر معلوماتنا السابقة. وما نجده فيها، مهما كان مختلفاً عن المسألة الراهنة، ألا يمكن أن يساعدنا بالإجابة على المسألة المطروحة؟ مثال: هل يمكن لحل مسألة عسكرية أن يفيد في حل معضلة طبية؟ لقد تمت التجربة. قدموا لطلاب أحجية، وهي أن جراحاً عليه أن يزيل ورماً دماغياً عميقاً، لكن ينبغي عليه ألا يستخدم كل قدرة أشعة الليزر التي لديه لأنه يتلف بها النسج المجاورة. ما الحل بالنسبة إليه؟ الجواب: استخدام عدة حزم بقدرة أقل تقارباً.
ثم نأخذ طلاباً آخرين ونقوم أولاً، قبل طرح مسألة الجراح، بطرح المسألة التالية:”جنرال في الجيش ينبغي عليه أن يحاصر حصناً لكن ضيق الشارع الرئيسي في المدينة يعيق إشراك جيش ضخم كاف لاحتلال المكان. ماذا عليه أن يفعل؟” الجواب: “تجزئة جيشه وفق مجموعات صغيرة واحتلال منافذ الحصن انطلاقاً من عدة شوارع صغيرة”. تم إعطاء الجواب للجميع، ثم عودة إلى مسألة الجرَّاح: في هذه المرة 20% من الطلاب وجدوا الحل تلقائياً و75% لو تم إعلامهم أن هناك علاقة مباشرة بين الروايتين… خلاصة الموضوع: لو كان هناك تماثل ملائم حاضراً في الذهن بشكل مسبق لكانت المسألة قد حلت بسهولة أكثر.
هناك تطبيقات ليس لها علاقة لا بعلم النفس ولا بأوضاع مخبرية، إنما ممارسات مؤسساتية راسخة في التراث. حق العدالة على سبيل المثال، يمارس بغزارة النقل التماثلي للحلول. عندما يتعلق الأمر بإيجاد قانون جديد للأسرة في فرنسا، يستوحي الحقوقيون بشكل كبير من حقوق المتزوجين ليعالجوا به حقوق غير المتزوجين.
يمكننا إضافة العديد من الأمثلة: في السياسة كما في الأعمال، في الحب كما في العمل، في النهج الرياضي كما في الفن المسرحي، القرارات المتخذة بالتماثل تحصل يومياً. لكنها ليست أفضل الحلول على الدوام.. عندما نواجه الواقع، دون خبرات أو تقاليد، فالتماثل الذي نلتمسه هو بشكل عام أكثر بساطة من المسألة المراد حلها: هو مضيء، لكن يمكن أن يبدو غير ملائم وغير صالح للحصول على حل المسألة.
الاستعارات والفكر العادي
الاستعارة (المجاز أو التشبيه البليغ) هي حالة خاصة في التماثل والتي تظهر في الخطاب:”لقد أخذ جاره الصغير تحت جناحه” إنه تماثل يقرن الفعل الذي يحمي إنساناً بطير. لكن هذه التشابيه تُستخدم كثيراً لدرجة أنه من الصعب تبيّنها. طوَّر الفيلسوف بول ريكور(8) فكرة أن هذه التصورات والاستعارات موجودة في كل الخطابات بشكل مجمد.
فالمعنى الشائع للكلمات لا يمكن أن يكون بقية لمجازين أو ثلاثة مجازات ضائعة، أي “ميتة”. وذلك على عكس المجازات الحية التي ندركها وكأنها مملة بمعنى مجازي.
لا يهم إن كانت البرهنة على هذه الفكرة يلزمها متابعة: لكنها توفر للفكر التماثلي مكاناً أساسياً في تطور اللغة، وربما أكثر من ذلك، لأنه خلف الكلمات، هناك أفكار. بعد أن ظهر كتاب ريكور بفترة قصيرة ظهر في الولايات المتحدة بحثٌ أثار ضجة كبيرة: نحن نعيش بالمجازات” لجورج لاكوف ومارك جونسون(9)، لغوي وفيلسوف، طوَّرا نظرية تعرِّف المجاز على إنه أداتنا الرئيسة في صناعة الأفكار، وليس الكلمات فقط. فكتبوا:”المجاز حاضر في كل مكان في الحياة اليومية، ليس فقط في اللغة، بل في الفكر وفي الفعل. الجزء الأكبر من نظامنا الإدراكي العادي الذي يساعدنا على التفكير والفعل، هو ذو طبيعة مجازية”.
ماذا يعني هذا الكلام؟ لنأخذ مثال دليل لاكوف وجونسون. لوصف مناقشة، نستخدم تعابير مثل “هاجمني”، “دافعتُ عن نفسي”، “لقد لسعني بشدة” “استراتيجيتي كانت أفضل”، إلخ. هذه الكلمات التي تعود إلى المفردات العسكرية، ليست بالنسبة إلى لاكوف وجونسون أسلوباً بالكلام فحسب. هذه التعابير تترجم الواقع، لأننا عندما نناقش، نعلن الحرب على الخصم. في مملكة الأفكار، هناك إذاً “مفاهيم مجازية”، مثل “المناقشة هي الحرب”، والتي تبني أسلوب فكرنا وتترجم تجربة عامة في الحرب وفي المناقشة. وبذلك هناك مجازات أضحت مفاهيم مثل “الوقت ثروة” و”الحب رحلة”، و”الأفكار غذاء” هي في أساس أسلوبنا في الفكر والقول، مثل “نهدر وقتنا” “نأخذ انطلاقة جديدة معاً” أو “نهضم اقتراحاً”.
ماذا تغيّر المفاهيم الأكثر كلاسيكية في علاقات اللغة والفكر؟ أولاً، هذا المفهوم هو ضد الفكرة القائلة إن الكلمات والتعابير لها معنى حرفي يوافق أشياء العالم أو يوافق مفاهيم تجريدية حيث لا يكون المعنى المجازي سوى قيمة تقريبية. بالنسبة إلى لاكوف وجونسون، العكس هو الصحيح: أفكارنا هي مجازات لأننا لا نحاول تسمية الأشياء، إنما التجربة التي لدينا عن الوضع. لا يفيد القول إن هذا الموقف غير مقبول من قبل العديد من اللغويين والفلاسفة واختصاصيي علم النفس. وهذا لا يمنع: أن اقتراح لاكوف وجونسون عرف منذ صياغته الأولى تطورات ربما لم تجعل منه مدرسة، أو نظرية كاملة، لكنه جذب انتباه العديد من الاختصاصيين في العلوم المعرفية حول حقيقة إن التماثل والمجاز هي آليات الفكر وعلى مستوى أكثر عمومية وأساسية مما تقوم به مقاربة أدبية أو شعرية أو زخرفية بالرسم للحقائق نفسها.
الإبداع والبحث عن أفكار
غالباً ما يعزى اختراع الطباعة إلى كوتنبرغ (10)، بينما قد تم استيرادها من الصين. إن حصة مساهمة كوتنبرغ كانت في الأحرف المتحركة للطباعة. قبله كانت الطباعة تتم انطلاقاً من كتلة واحدة للنص محفور على لوح خشبي. يُحكى أن كوتنبرغ حضر ذات يوم عرضاً لعصر النبيذ فلاحظ الشعارات المحمولة على خواتم بإصبع بعض الأشخاص. فاستوحى من ذلك فكرة ابتكار مطبعة تحمل أحرفاً معدنية متحركة، وكل حرف منها يوافق الحرف الأبجدي (كما الأحرف المحفورة على الخواتم تماماً). وهكذا تم تحقيق تماثل بين عناصر ليس فيما بينها أي رابط مسبق (مكبس الطباعة ومعصرة النبيذ، خاتم الشعارات والأحرف الطباعية) ما أدى إلى اختراع حاسم. هذه الطرفة، سواء أكانت صحيحة أم مغلوطة، تبين عنصرين هامين في الابتكار الموصوف في A-GC (تماثل وإدارة الضغوط).
وفق هذا النموذج، يتم شرح ديناميكية الابتكار بآليتين معرفيتين: تحقيق التماثل وإدارة الضغوط.
يلعب التماثل دوراً مركزياً في البحث عن حلول إبداعية. لفهم استتباعات المتطلبات المعروضة في دفتر الشروط أولاً، يستحضر المصمم أشياء يعرفها تخدم نوعاً ما بعض المتطلبات النوعية. بالإضافة إلى ذلك، هناك شأن هام ومركزي وهو استحضار أشياء تكون مصدراً للوحي، وتتيح للمصمم أن يقيم توافقاً بين المصادر وبين الشيء غرض الابتكار. وبذلك، يصبح بإمكانه إجراء “نقل تماثلي” لبعض سمات المصادر المستحضَرة بغية إعادة استخدامها لابتكار الشيء المعني.
تسمح إدارة الضغوط بتوجيه تنفيذ التماثل وبالإحاطة التدريجية بمجال البحث عن أفكار. يبني المصمم لنفسه تصوّراً ذهنياً بإدماج ضغوط متنوعة، بعضها تكون محددة ومعينة (فرز المتطلبات الماثلة في دفتر الشروط الأولي)، وأخرى تضاف من قبل المصمِّم على أساس خبرته، وتكون (“مبنية”). وأخرى يحددها المصمِّم أيضاً خلال كل فترة حل مسألة (مستنتَجة”) وتنتج عن تبني مختلف وجهات النظر.
مظلة من أجل قمر (صناعي)
سمحت دراسة أُجريت على مصمَّمين يعملون في مكتب دراسات فضائية بحضور ومشاهدة بزوغ فكرة مبدعة. الموضوع هو ابتكار نموذج جديد لعاكس الهوائي(11) للأقمار. كان على الاختصاصيين أن يخترعوا عاكساً يفوق طوله بكثير طول ما كان يستعمل عادة في المشروع. وكان ينبغي أن يتم نقله إلى تحت غطاء الصاروخ “آريان”. كيف يتم تجسيد مثل هذا الجهاز الذي بواسطته سيُحمَل جسم ثقيل جداً لمسافة محدودة؟ تغلب المصمِّمون على هذه المعضلة عندما حضرت أحدهم فكرة المظلة. تمَّ تصميم العاكس على شكل مظلة يمكن طيّها على الأرض ثم فتحها في الفضاء. فاشتراك فكرة التماثل مع إدارة الضغوط بشكل تام وبتنسيق جيد أدّى إلى إيجاد حل جديد وملائم للوضع في آن معاً.
هذا النموذج A-GC، المتلائم مع غيره مثل نموذج جينيبلور، قد تم اختباره في إطار أوضاع تجريبية عديدة.
وتستمر الأبحاث لتكشف لنا خفايا الابتكار؛ فالمهندس المعماري، والمهندس المدني، والمبتكر في المعلوماتية، كل هؤلاء يستعينون بمخيلتهم لخلق أغراض تقنية ينبغي أن يتم تصميمها قبل إنتاجها.
لقد عرفتم الـ”إيباد(12) 4″ والـ”كوه-لانتا(13) ” والـ”بوكيمون(14) “… أو سمعتم عنها، لكن من أين يستوحي المبتكرون أفكارهم؟ وكيف يطوِّرونها؟ ولماذا يتوصل بعض الأشخاص لأن يكونوا مبتكرين أو يكونوا ذلك بشكل أسهل من غيرهم؟ خلاصة الموضوع: ما هو الابتكار وهل يمكننا تنشيطه وتحريضه؟
يشرح لنا بعض المخترعين كيف خطرت الفكرة ببالهم.
فهذا “يان لو غاك(15) “، مبتكر البرنامج المتلفز “كوه-لانتا”، يصف بأنه تصوَّر الاختيار النهائي للإشارات بعد أن راقب البجع. فأخذ بعض خصائص من وضعية جسم البجع ليطلب من المتسابقين بأن يتخذوا هذه الوضعية نفسها لأطول وقت ممكن. وبشكل مماثل، شرح “ساتوشيتاجيري (16) ” مخترع البوكيمون (هذه المخلوقات الخيالية التي تثير الأطفال) لقد أمضى طفولته في جمع الحشرات، كان يصطادها في كل مكان، على ضفاف البرك أو في الغابة، ويبحث عن غيرها باستمرار. حتى إنه كان يتخيل تقنيات كي يجذبها ثم يأسرها. ومع البوكيمون، أراد أن يقدم للأطفال إمكانية اصطياد مخلوقات كما كان يفعل ذلك في طفولته، وبذلك نقل معارفه في الحشرات وأسلوب أسرها إلى عالم تخيلي يتضمن تنوعاً كبيراً من مسوخ صغيرة (17).
فإذا أخذنا عكس تعريف قاموس ويبسترز(18) لعام 1880، “لا يتم ابتكار شيء ما انطلاقاً من العدم”، عندئذٍ, كيف نتلمس الموضوع؟
آليات الإبداع
يتركز اهتمامنا هنا على نقطة محددة: وهي مراحل الإبداع في آليات الابتكار أو التصميم (19) والتي تنتج عن مجموعة أشياء حاضرة في محيطنا اليومي أو المهني: الهاتف، السيارة، الحاسوب، موقع “ويب” على الشابكة(20)، تشكيلة الثياب وألوانها، إعلان للدعاية. دراسة هذه الآليات هي على مفترق مجالين في البحوث: علم النفس المختص بالإبداع، وأعمال ابتكار المنتجات. لقد تم تحديد ثلاث مراحل متشابهة لها دور رئيسي انطلاقاً من مقارنة أعمال محَققة في هذين المجالين:
– صياغة وإعادة صياغة المسألة,
– البحث عن أفكار أو حلول إبداعية,
– وتقييم الحلول. غير إنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذه المراحل تتداخل في الواقع بتفاعلية ولا تنفصل الواحدة عن الأخرى.
1– صياغة المسألة
المرحلة الأولى يمكن تسميتها التهيئة والتحليل أو صياغة المسألة. فهي تتناسب مع استقبال وتجميع المعلومات ومع صياغة وإعادة صياغة المسألة. فأي مهندس معماري أو مصمِّم لموقع على الشابكة ينبغي أن يأخذ على عاتقه انتظار الزبائن، لكن هؤلاء ليسوا دوماً واضحين بالنسبة إلى أهدافهم الخاصة، وحتى لو كان الأمر كذلك، فإن المعلومات التي تم الحصول عليها غير كافية لمعرفة كيف سيكون حل الابتكار النهائي. إحدى خصائص المسائل الإبداعية هي أنها “سيئة التركيب” أو سيئة التحديد”: هناك أولاً تصور غير دقيق للمنتَج المبتكر؛ فينبغي عندئذ على المصمِّم القيام بتعديل تصوره الأولي تدريجياً، ثم يعيد باستمرار تحديد المسألة التي هي قيد المعالجة ويعيد حتى الحلّ المحسوم. المقاربة التي تدعى “الإحاطة بالمسألة (21)” تعتبر أن آلية الابتكار تتضمن أولاً، ليس الحل، بل تحديد المسألة. ووفق كيز دورست ونيجل كروس(22)، حل مسائل الابتكار ينتج عن تطور متزامن للمسألة وللحل في آن معاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن التبادلات بين مختلف الفاعلين في آلية الابتكار هي أحياناً ضرورية. فعلى سبيل المثال، إن إعادة مراقبة الشكل الخطي لموقع الشابكة (بهدف جعل الموقع أكثر تنظيماً منطقياً، والتعبير الخطي أكثر حداثة بما يتماشى مع روح العصر، إلخ.) قد يتطلب مناقشات بين المبتكرين، والمنظّمين، والمصممين، والمستخدمين، والمشرفين على الموقع. والحل المقترح بعد إعادة المراقبة قد ينتج عنه إعادة تحديد وتعريف وسطي للأهداف الأولية. بالنتيجة، لا يمكن فصل مرحلة بناء عرض المسألة عن الحل الأساسي.
2– البحث عن حلول
تحسم المرحلة الثانية بالتوصل إلى اقتراح حل. يمكن لهذه المرحلة أن توصَف بتعابير مثل إنشاء أو تأليف. بعض المؤلفين أبرزوا المراحل النوعية للإبداع مثل “الإعداد أو الحضانة”، (حيث إن هناك مجموعات عديدة من الأفكار قد تم إبداعها بشكل لا واعٍ)، والـ”استضاءة العقلية” التي توافق الوعي المفاجئ لفكرة هامة. قد تم شرح الأعمال الإبداعية أيضاً بتسلسل التداعيات الذهنية، مثل إعادة إنتاج ودمج سمات لأشياء موجودة، وكأنها إعادة تركيب مفاجئ للمجال المدرك (التبصر) الذي يسمح بالحصول على نظرة جديدة أو أيضاً مثل نتيجة لـ”تشابك مفاجئ لمعلومتين أو لنظامين فكريين كانا إلى اليوم معزولين(23) “. قد تم اقتراح نماذج تساهم في شرح بزوغ أفكار خلاقة في إطار نشاطات التصور الإبداعية، وعلى وجه الخصوص كما في نموذج A-GC، ونموذج جينيبلور(24).
المرحلة الثالثة هي مرحلة التقييم، والتحقق أو التصديق. يمكن اعتبار نتيجة الآلية الإبداعية على أنها نجاح من قبل المصمِّم نفسه، لكن يمكن أيضاً أن تظهر جزئياً غير مُرضية، وفي هذه الحالة، يتم طلب إعادة تحديد في إطار حلقة “تهيئة- تقييم”. هذا “التقييم الاستبطاني” (أو التقييم الذاتي للمصمم بنفسه) يمكن أن يُستكمَل ببعض الاختبارات؛ ففي مجال الشابكة على سبيل المثال، عملية إنشاء “صيغة بيتا”(موقع تجريبي يتم اختباره لبعض الوقت قبل الافتتاح الرسمي للموقع) قد تؤدي إلى إعادة تهيئة جذرية.
تفيد هذه الشروح في الرجوع إلى الوراء أو بإعادة طرح القرارات السابقة، وهي خصوصية أخرى مختلفة لأعمال الابتكار ولكل نشاط إبداعي: فهي تعتبر ملائمة. يمكن للقرارات أن تنتج عن مسيرة تنازلية أو تصاعدية (25) ويتم تنفيذها في مختلف المستويات من التنظير. مثل هذه القرارات يمكن أن تؤدي بالمصمِّم إلى إعادة طرح القرارات السابقة أو إلى تأجيل قرارات أخرى إلى وقت لاحق.
3- تقييم الحلول
ينبغي أخيراً الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن تقييم الحلول يتم غالباً تنفيذه من قبل المحيط الاجتماعي. فبالنسبة إلى “ميهاليسيكزنتميهالي (26) “ ينتج الإبداع عن دورة تجمع ثلاث أنظمة:
* الفرد المبدع الذي يكون دوره جلْب التحولات إلى المعارف المتعلقة بالمجال.
* المجال الموافق لمعرفة ثقافية، أو لقائمة من المعارف المنضمة إلى الثقافة المعنية، والتي تحمل الأفكار والإنتاج المنتقى من الحقل.
* الحقل الذي يعيد جمع مجموعة من الأشخاص يعتبرون حكام “حراس المجال”، أو مؤسسات اجتماعية، تدير المجال وتقيّم ثم تختار، من بين الأفكار الجديدة وإنتاج الأفراد، أيّ منها ينبغي الاحتفاظ به.
الإبداعية هي إذاً ملتقى لديناميكيات متعددة: فردية وجماعية، نفسية واجتماعية، نظرية وعملية، بالمراهنة على الخيال والتأمل، إلخ. من هذه الناحية، تشكل هدفاً ممتعاً للبحث وفي الوقت نفسه تدفع نحو الازدهار. الرهانات لمثل هذه الأعمال هامة جداً لأن الإبداع يتواجد في مركز عمل كل إنسان ملتزم بحل مسائل جديدة، سواء أكان ذلك في إطار أوضاع في الحياة اليومية أم في أوضاع مهنية.
كيف نشجع الإبداع
أصبح تشجيع الإبداع هدفاً هاماً بالنسبة إلى المشاريع. فعلى سبيل المثال، أقامت شركة “اورانج لاب”أو “بيل لاب” لـ”آلكاتيل- لوسنت (27)” خدمات متخصصة في تحديث الإبداعية. كما تطورت أيضاً مجالس استشارية لدراسة الإبداعية وتم إعداد مجموعة كبيرة من التقنيات الهادفة إلى تحريض الابتكار. أشهرها “العصف الفكري(28)” الذي ابتكره آليكسأوزبورن (29) بهدف تسهيل عملية توليد الأفكار (دون أي نوع من أنواع النقد) قبل فرزها واختيارها في زمن لاحق.
الأعمال التي تم إنجازها في علم النفس المعرفي وفي الشغالة (30) (تنظيم الشغل تنظيماً منطقياً)، تتيح المجال لاقتراح طرق مساعِدة أخرى للإبداعية المُعدَّة خصوصاً للمحترفين. يهدف بعضها إلى تسهيل تنفيذ التماثل ومساعدة المصمِّمين على توسيع مجال البحث عن أفكار. لذلك تم تطوير أنظمة معلوماتية لمساعدة الإبداعية. هذه الأنظمة تقترح مصادر إلهام مرتبطة بغرض الابتكار. إنها حالة نظام IAM-eMMa الذي تم تطويره في جامعة طوكيو. فهو يسمح للمصمِّمين بانتقاء الصور وفرزها داخل مكتبة الصور وفق الضغوط المتعلقة بغرض الابتكار. ففكرة “الجو” على سبيل المثال، يمكن أن يتم جمعها مع قيم مثل “مرح”، “حزن”، “حار” “بارد”. فانطلاقاً من قواعد استدلال، يختار النظام ويعرض صوراً تخرج من مكتبته ويعرضها.
في مجموعة هذا النظام، تمَّ إنجاز نظام “البيئة لمساعدة الابتكار الإبداعي ترند(31) وذلك في “تقنية باريس للفنون والمهن(32)”. يسمح هذا النظام، بفضل عناصر ذكية، بالبحث عن مجموعة كبيرة من الصور على الشابكة حيث يكون بإمكان المصمِّم أن يستوحي من أجل “الشيء” غرض الابتكار. يلتقط المستخدم كلمة أو عدة كلمات لهذه الغاية: مثلاً:”رياضي” لإنتاج نموذج سيارة جديد. على هذه القاعدة، سينتج النظام صوراً لها روابط مع هذا التعبير.
لا تزال هناك بحوث جارية لتحديد الفوائد الفعلية لمختلف نماذج الأنظمة المعلوماتية حول نشاط التصميم الاحترافي وفيما يفيد طلاب التخطيط.