المخاطر الائتمانية في العمل المصرفي الإسلامي
(دراسة فقهية اقتصادية)
1- أهمية الموضوع :
إن الدراسـات النظرية في المصرفية الإسـلامية تركزت فيما مضى على صيغ التمويل الإسلامية وقدرتها على النهوض بحاجات الوساطة المالية وان تكون بديلاً ذا كفاءة للإقراض، من حيث حاجات الناس إلى التمويل وانسجام تلك الصيغ
مع القوانين المنظمة للأعمال المصرفية. إلا أن جانب الرقابة المصرفية لم يلق حقه من تلك الدراسات. ومعلوم أن الرقابة المصرفية تعنى بجوانب المخاطرة في الأعمال المصرفية، إذ المصرف مؤتمن على أموال الناس فكان عليه أن يستخدمها مع الحرص الدائم على توافره على القدرة على الوفاء بحقوقهم فيها. ولذلك فإن الدراسات المقارنة لمخاطر الصيغ الإسلامية بالغة الأهمية. ذلك أنه يساعد على الفهم الصحيح من الناحية الفنية لجوانب من العمل المصرفي الإسلامي تحتاج إليها الجهات الرقابية. كما أنه يزيل تهمة كثيراً ما ترددت في الدوائر المصرفية، وهي أن: “الصيغ الإسلامية أعلى مخاطرة من الإقراض بالفائدة”. ونظراً إلى أن هذا الموضوع بكر، فان ما قدمه الباحث فيه هو جهد المقل وإنما هو مقدمة للموضوع وإلقاء الضوء على جوانب ربما تكون مادة لدراسات في المستقبل.
2- معنى الائتمان :
الائتمان كلمة عربية صحيحة، يستخدمها الاقتصاديون ترجمة للكلمة الأجنبية Credit. وهي ترجمة سديدة تحمل المعنى الدقيق للكلمة. وقد وجدت في بعض المعاجم اللغوية تحت كلمة Credit ما يلي :
“هو الثقة التي تُشعر الناس أن فلاناً ملئ”
ثم أضاف صاحب المعجم:
“وهو التزام يقطعه مصرف لمن يطلب منه أن يجيز له استعمال مال معين نظراً للثقة التي يشعر بها نحوه” [خليل شيبوب: المعجم القانوني:1949] .
وهذا معنى في غاية الدقة لكلمة ائتمان، إذ ليس صحيحاً أن الائتمان معناه القرض، فالقرض نتيجة تابعة للائتمان. لأن الائتمان معناه الثقة التي يمنحها المصرف لعميله حتى يكون مستعداً لإقراضه أو كفالته. ولذلك كان القرض تابعاً لتلك الثقة ونتيجة لها وليس هو الائتمان، وكانت الكفالة جزءاً مما يسمى الائتمان في المفهوم المصرفي لاعتمادها على تلك الثقة.
وقـد عرفته بعض المعاجم المصـرفية بأنه “القـدرة على الاقتراض وشـراء السـلع مقابـل وعد بالدفع في المستقبل” وعرفته أخــرى بأنـه: Man’s confidence In Man”” [Dictionary of financial & Investment terms. Barrens].
3- مفهوم المخاطرة في الأدبيات المالية :
لا يكاد مفهوم المخاطرة يحتاج إلى تعريف لأنه مفهوم واضح يستخدمه الناس حتى في محادثاتهم العادية. فإذا قال المتحدث: “هناك مخاطرة في أمر ما”، فهم المستمع أنه يتحدث عن وضع عدم التيقن بحدوث النتائج المطلوبة
واحتمال أن يكون المآل هو إلى أمر غير محبب إلى النفس. وهذا بالضبط ما يقصد بالمخاطرة في لغة الدراسات المالية، فهي تشير إلى الوضع الذي نواجه فيه احتمالان كلاهما قابل للوقوع. ومن الجلي أن الحالات التي نواجه فيها احتمالاً واحدا هي حالات انعدام الخطر. والمخاطـرة في تعـريف أحـد الكتـابهي “الحالـة التي تتضمن احتمال الانحراف عن الطريق الذي يوصل إلى نتيجة متوقعة أو مأمولة” [Vaughan
& Therese (1999),P.] . وعرفهـا آخـر أنها ببسـاطة “احتمـال الخسـران” [Megginson
(1997),P95 ] .
والمخاطرة جزء لا يتجزأ من أي عمل يقوم به الإنسان، ولكنها تكتسب أهمية خاصة عندما تكون دراسة المخاطر جزءاً من عملية اتخاذ القرارات المالية. إن قدرة أي أصل من الأصول على توليد العائد المتوقع هي أمر غير مضمون، ولذلك فإننا نسعى دائماً إلى دراسة القوى التي يمكن أن تؤثر في قدرة ذلك الأصل على توليد العوائد. ودراسة المخاطر هي موضوع عدد من العلوم الاجتماعية منها علم الإحصاء، وعلم الاقتصاد، وعلم الإدارة المالية والتأمين. ولا ريب أن نظر كل علم من هذه العلوم إلى المخاطرة له خصوصياته التي ينفرد بها عن الآخر. ومع كل التعقيدات النظرية التي تكتنفها دراسة المخاطر فإن معناها لا يخرج من جميع هذه العلوم عما ذكر أعلاه. إن الغرض من دراسة الخطر ليس إلغاؤه لأن هذا غير ممكن بل الغرض هو السيطرة على تلك المخاطر وإدارتها بطريقة تمكن من تقليل أثرها السيئ على نتيجة القرار الذي نريد أن نتخذه.
4- قياس المخاطرة:
الواقع أن مفهوم المخاطرة لا قيمة له من الناحية العملية إذا لم يكن قابلاً للقياس، كما أن مفهوم المخاطرة بسيط وواضح في ذهن الناس، فإنهم يفرقون أيضا بين مخاطرة عالية وأخرى متدنية. فاحتمال وقوع المكروه يكون بدرجات
مختلفة، فخطر الإصابة بأمراض الرئة الذي يواجهه من يدخن ثلاث باكتات من السجائر يومياً أكبر من ذلك الذي يواجهه من لا يدخن. وكذلك فإن وجود رصاصة واحدة في مسدس لاعب الروليت الروسية يعني أنه يواجه خطر الموت بنسبة تقل عن ذلك الذي يكون في مسدسه رصاصتان، واكثر منهما من كان في مسدسه ثلاث رصاصات. وبما أن في الخطر قليل وكثير، ففيه درجات بين القليل والكثير. وهكذا احتاج الأمر إلى معايير لقياس المخاطر وتصنيفها بطريقة تمكن من التعرف على درجتها بشكل واضح ومقارنة المخاطر المتضمنة في القرارات المختلفة مع بعضها البعض، ثم مع العائد المتوقع من الاستثمار. وهناك طرق متعددة لتصنيف المخاطر ولقياسها تقوم بها مؤسسات متخصصة، كما تتبنى البنوك وشركات التأمين مقاييسها الخاصة للمخاطر. وعندما تكون فرص الاستثمار عالية المخاطر، فإن ذلك لا يعني عدم إقبال الناس عليها إذا أمكن قياسها، وقابلها عوائد مجزية بالقدر الذي يرون أنه ملائم لمستوى تلك المخاطر. لكن الناس لا يقبلون على فرص استثمارية يكتنف قياس المخاطرة فيها الغموض وعدم الوضوح؛ فلا يعرف هل هي عالية أم متدنية المخاطرة. هذا الغموض نفسه يضحى مخاطرة، ومن ثم فإن كل اســتثمار لا يكون قياس المخاطرة فيه واضحاً يعد ذا مخاطرة عالية. وجذور محاولات الإنسان لقياس المخاطر قديمة تعود إلى القرن السابع عشر عندما اكتشف الرياضي المشهور باسكال نظرية الاحتمالات، وهو يحاول حل لغز المقامرة، ثم قانون الأعداد الكبيرة الذي مكن من استخدام المعلومات المتوفرة عن الأمس لتوقع ما يستحدث في الغد، والتوزيع الطبيعي في الإحصاء ومعامل الارتباط، ثم انتهت إلى هاري ماركوويتز الذي اثبت في سنة 1959م أن الإنسان يمكن عن طريق التنويع تقليل المخاطر في الاستثمار في السوق المالية[Markowitz, 1959]. لقد بدأ ماركوويتز دراسته بفرضية أن تكوين المحفظة الاستثمارية يمكن أن يعتمد على متوسط عائد الاستثمار وعلى الانحراف المعياري لذلك العائد.وبينما أن متوسط العائد هو عبارة عن المعدل المثقل لكل أصل تحتويه المحفظة، فإن المخاطرة بالنسبة للمحفظة ستكون أقلكلما كان الارتباط بين الأصول التي تحتويها أقل ما يمكن، وهي الفكرة التي أطلق عليها: مبدأ التنويع، بناء على ذلك فإنه يمكن القول إن المخاطرة التي يتضمنها امتلاك أصل من الأصول في محفظة استثمارية تتكون من عنصرين، أحدهما يمكن جعله ينخفض إلى حد الاختفاء من خلال عملية التنويع التي سبق الإشارة اليها، والعنصر الثاني لا بد أن يتحمله المستثمر. ولذلك فإن نظرية تكوين المحفظة الاستثمارية هو في الواقع الخيار بين تعظيم العائد وفي نفس الوقت تخفيض المخاطرة. ومن جهة أخرى فقد اصبح معامل الارتباط بين الأدوات الاستثمارية (صيغ الاستثمار) عنصراً مؤثراً في تكوين المحفظة لا يقل في أهميته عن الأصول المستثمرة فيها، ولم يعد ممكناً النظر إلى هذه الأدوات بمعزل عن بعضها البعض. وتكتسب كل أداة أهميتها من مقدار ما تسهم به في العائد الكلي للمحفظة.
ولذلك فإن تطبيق نظرية ماركوويتز يحتاج إلى دراية تامة بالمتوسطات والانحرافات المعيارية وبمعدلات الارتباط لجميع الأصول التي يمكن أن تتكون منها المحفظة. ثم جاءت النقلة الأخرى على يد شارب[1964] عندما أثبت أن المستثمر إنما يحصل على عائد مقابل عنصر المخاطرة الذي لا يمكن إلغاؤه بالتنويع، إذ لماذا يتوقع الإنسان أن يحصل على عائد عن مخاطرة لا يحتاج إلى تحملها وبإمكانه التخلص منها؟ ولذلك فإنه إذا أخفق في أعمال مبدأ التنويع كما ينبغي فإنه يحمل نفسه مخاطرة لا عائد من وراء تحملها.