يوجد في العمل المصرفي ما يعرف بعقد تأجير الخزائن الحديدية، والواقع أن هذه التسمية تعطي لهذا العقد وصفا قد لا ينطبق تماما على مضمونه وطبيعته القانونية، فلا يوجد اتفاق على انه مجرد عقد إيجار. فبينما يرى فيه البعض ذلك( ) يراه آخرون أقرب لعقد الوديعة( ) وغيرهم عقد من نوع خاص أقرب إلى عقد الحراسة( ).
كما ان وصف الخزائن بالحديدية قد لا يكون صادقا في كل مرة، إذ لا يشترط تشريع أو عقد أن تكون الخزانة حديدية بل تكفي فيها خاصية الصلابة والقوة لكي تؤدي الغرض مهما كانت المادة المصنوعة منها.
ومما يمكن ملاحظته أيضا أن هذا النوع من التعامل قد لا يصدق عليه وصف العمليات المصرفية تماما، فرغم ان العمل يجري على ذلك لدى أغلب المشرعين الذين تدخلوا لتنظيم هذه العملية، وسايرهم الفقه في ذلك، إلا أن صلته بالعمليات المصرفية ضعيفة ولا تظهر إلا من خلال صدوره عن المصرف كباقي العمليات واعتباره من الأعمال التجارية تبعا لذلك، فهو وإن أتى في إطار ما تقوم به المصارف من أعمال إلا أنه مختلف في طبيعته عنها( ).
وإذا كنا في هذا البحث سنتعامل معه على أنه ضمن أعمال المصارف آخذا بما يجري عليه العمل، إلا أننا نرى أنه يتميز عن باقي العمليات. فهو أولا وإن كان يتم داخل المصرف إلا أنه بعد إنعقاد العقد يظل شأنا خاصا للعميل لا تربطه ببقية العمليات علاقة ويظل مستقلا عنها( ) فالعميل يمارس حقه الناشىء على الخزانة بإيداع ما يشاء فيها وسحبه منها دون تدخل المصرف وفي إطار من السرية تستلزمه طبيعة العملية حتى في مواجهة المصرف ذاته.
وهو ثانيا مستقل عن سياق العمل المصرفي الذي يتمحور حول الودائع وتجارة النقود وباقي العمليات المرتبطة بها ولا يعتبر من قبيل النشاط الإستثماري الذي يطبع أعمال المصارف حيث لا يتطلب من إدارة المصرف حذق ومهارة التاجر ولكن يستلزم منها حرص ويقظة الحارس.
إنه إذن خدمة يقدمها المصرف لعملائه كنوع من التعأون المطلوب( ) معهم ووسيلة لجذب عملاء جدد، وهو لا يمثل مردودا هاما للمصرف يمكن التعويل عليه أو مقارنته ببقية العمليات.
ورغم كونه خدمة بالوصف الذي قدمناه ومستقل عن باقي العمليات إلا أنه يتأثر بكثير أو قليل بالإطار الذي يحكم أعمال المصارف.
فالإعتبار الشخصي( ) فيه وإن كان بدرجة أقل عما هو في باقي العمليات إلا أن من المتصور قيامه، ذلك أن المصرف قد لا يقدم هذه الخدمة إلا لمن يحظى بثقته.
كما أن مبدأ السرية المتغلغل في كافة العمليات يحيط هذه الخدمة برعايته وإن كان يأخذ بعدا آخر يجعل من السرية التي تقوم لصالح العميل تكون حتى في مواجهة المصرف ذاته إذ لا يفترض في هذا الأخير أن يكون له علم بما يقوم به العميل من إيداع وسحب ولا بما يوجد داخل الخزانة.
وبالإضافة لذلك فإن دوافع طلب هذه الخدمة تتأسس على ما يحيط بالمصارف من ثقة هي عماد أعمالها، فإقدام الشخص على تفضيل حفظ بعض مقتنياته في المصرف دليل على الثقة الكبيرة والأمان التي يجدها فيه ولا يجدها في مكان آخر حتى في بيته.
وقد نظم المشرع الليبي هذه العملية ضمن عمليات المصارف في القانون التجاري الليبي الصادر في 28/11/1953م. وخصص لها المواد 228، 229، 230، وهو وإن لم يكن تنظيما وافيا إلا أنه إشتمل على أسس تسمح بعد ذلك للإتفاقات أن تقيم هذه العملية بالشكل الذي يحفظ حقوق أطرافها.
وجاء تنظيم المشرع المصري لهذه العملية في قانون التجارة الجديد الصادر في 17/5/1999م، حيث خصص لها المواد من 316 إلى 323 وأطلق عليها تأجير الخزائن منحازا بذلك الرأي الذي يري فيها عقد إيجار، أما المشرع الليبي فسماها الخزائن الخاصة ولم يرد في نصوصه ما يقطع في الوصف القانوني لهذا العقد.
وعقد الخزائن الخاصة كغيره من العقود يخضع في تكوينه وإثباته للقواعد العامة في العقود ولا يثير من هذه الناحية صعوبات تذكر( )، غير أنه في تكييفه القانوني وفي طبيعة الإلتزامات الناشئة عنه وخاصة تلك التي في جانب المصرف آثار ولا يزال يثير الكثير من الجدل، ولذا سيكون تركيزنا في هذا البحث على ذلك، وسنحأول أن نطرح بعض المشاكل الناشئة عنه من زأوية مسؤولية المصرف التي يمكن أن تقوم من جراء هذه العملية.
وبناء على ذلك فإننا سنهتم بإلتزامات المصرف( ) لبيان مضمونها وحدودها في فقرة أولى كي يتسنى لنا أن نلقي الضوء على مضمون مسؤوليته وحدودها في فقرة ثانية.
إلتزامات المصرف:
تتحدد إلتزامات المصرف بالأحكام التي يكون قد وضعها المشرع وبالشروط الواردة في العقد وبما يقضي به العرف السائد – إن وجد – في هذه المعاملة.
وهي بالضرورة تعكس موضوع العقد والهدف منه وتقاس بالغاية التي وجدت من أجلها هذه العملية، وسنحأول في هذه الفقرة أن نركز على مضمون هذه الإلتزامات أولا ثم نبين حدودها ثانيا.
أولا مضمون إلتزامات المصرف
تمثل المصارف مواطن ثقة وأمان وسرية تعتبر الدافع الرئيسي لإستئمانها على ما هو غال بشكل عام، فالشخص الذي يطلب خدمة الخزائن لا يشكو ضيق سعة في بيته ولكنه ينشد مكانا آمنا توفره له المصارف دون غيرها.
وعلى هذا الأساس فإن المصرف لا يعد مجرد مؤجر كما هو الحال في عقد الإيجار العادي بل هو يقدم سعة في مقره تصاحبها إلتزامات وأعباء أخرى لا يستقيم أمر هذا النوع من الإيجار بدونها.
وللوصول إلى نتائج سليمة تعكس الغاية من هذا العقد لابد أن ينظر لإلتزامات المصرف من خلال الطبيعة المتميزة لهذه المعاملة، وأن يتم تحديد حجم وحدود هذه الإلتزامات وفقا للإعتبارات المحيطة بها.
وإذا اردنا أن نعدد التزامات المصرف فإنها تتمثل في تقديم الخزانة للعميل وتمكينه من إستعمالها بحرية، وبواجب المحافظة عليها وما تحتويه، وكفالة أن يتم الإنتفاع بها بأمان وسرية.
وواجب السرية هو إلتزام عام يطبع كل أعمال المصارف ولا يثير في هذه العملية صعوبات قانونية من نوع خاص، إذ يظل ما تحتويه الخزانة مجهولا حتى لدى المصرف ذاته فليس لديه ما يفشيه في هذا النطاق وإن كان يظل محتفظا بسرية أسماء أصحاب الخزائن، وبالتالي فإننا سنركز على بقية الإلتزامات.
1. الإلتزام بتقديم الخزانة وإفساح الحرية لإستعمالها.
يقتضي تنفيذ هذا الإلتزام أن يعين المصرف للعميل إحدى خزائنه ويسلمه مفتاحها ويمكّنه من حرية الدخول لإستعمالها، ولا يتخذ من الإجراءات ما يحول دون العميل وممارسة حقه إلا ما كان لازما لسلامة العملية.
ويشترط أن تكون الخزانة في حالة صالحة لتأدية الغرض الذي أعدت له وخالية من العيوب( ) وفي مكان يتمكن العميل فيه من إستعمالها بأمان وسرية.
وفيما يتعلق بمفاتيح الخزانة فإن العمل يجري على ان يكون لها مفتاحان يسلم أحدهما للعميل ويحتفظ المصرف بالآخر بحيث لا يتم فتح الخزانة إلا بالمفتاحين معا( )، أما إذا أصر العميل فيمكن أن يكون للخزانة مفتاح واحد( ).
والواقع أن لفظ مفتاح لا يقتصر على الأداة الحديدية المعروفة، بل مع التطورات التقنية التي حدثت يمكن ان يتعلق الأمر بمجموعة من الأرقام والرموز تفتح بها الخزانة أو بطاقة ممغنطة أو غير ذلك من الوسائل الحديثة.
ويمكن للعميل أن يدخل في أي وقت لإستعمال الخزانة مع مراعاة ساعات الدوام وما يجب إتخاذه من تدابير واحتياطات من قبل المصرف للتحقق من شخصية العميل( )، وقد يقدم المصرف نوعا من المساعدة للعميل بتكليف حارس لمساعدته وضمان أمنه وسرية الإستعمال( ).
وإستعمال الخزانة حق مقتصر على العميل ذاته أو من يوكله لهذا الغرض وفي هذه الحالة يتعين على المصرف ان يتحقق من شخصية الوكيل ويتأكد من مطابقة توقيعه للتوقيع المودع عنده( ) كما يجب على المصرف ان يتأكد من صلاحية التوكيل اذ ان مسؤوليته ستثور في الحالة التي يتمكن فيها من إستعمال الخزانة شخص سحب منه التوكيل( ).
ويلاحظ هنا أن الإعتبار الشخصي الذي يميز اعمال المصارف يظهر بدرجة ملحوظة ويزداد وضوحا في منع العميل من أن يؤجر الخزانة من الباطن( ) وقد منع المشرع المصري المصرف من أن يأذن لغير العميل أو وكيله الخاص في إستعمال الخزانة( ) وفيما يتعلق بالأشياء المودعة يستوي أن تكون مملوكة للعميل أو للغير، مادام هو الذي وضعها بمعرفته( )، وفي هذه الحالة لا يكون للغير حق في مواجهة المصرف إلا من خلال العميل المتعاقد وفقا للقواعد العامة.
وكما يكون المتعاقد مع المصرف شخصا واحدا يمكن ان يكون العقد بإسم عدة أشخاص، وهي الحالة التي تكون فيها الخزانة مشتركة، وهنا يسمح لكل شخص بفتح الخزانة وإستعمالها.
وقد نظم المشرع الليبي ذلك في المادة 229 في القانون التجاري حيث نص على انه إذا كانت الخزانة بإسم عدة أشخاص يسمح لكل منهم بفتحها على انفراد، ولم يرد نص مماثل في القانون المصري الذي ترك الأمر لما يجري عليه العمل.
وقد حرص المشرع الليبي في المادة 229 آنفة الذكر على تنظيم الحالة التي يتوفى فيها احد المشتركين في الخزانة وذلك بأن ألزم المصرف بعدم السماح بفتح الخزانة، في الحالة التي يعلم فيها بالوفاة، إلا بموافقة ذوي الشأن كلهم وهم باقي العملاء وورثه المتوفي أو بإتباع الطرق التي تعينها السلطات القضائية في هذا الشأن.
ويحأول البعض في فرنسا أن يميز بين الإستعمال المشترك للخزانة وبين الإستعمال التضامني لعدة أشخاص، ففي الحالة الأولى إذا ما توفى أحد العملاء يلتزم المصرف بعدم السماح بإستعمال الخزانة إلا بموافقة ذوي الشأن كلهم أو بإجراء قضائي؛ أما في الحالة الثانية فإن وفاة أحد المستعملين لا تؤثر على حرية الباقين في الإستعمال؛ وعادة ما يكون الإستعمال التضامني في الخزينة التي تستعمل من الزوجين( ).
ويبدو أن الإستعمال المشترك للخزانة بشكل عام قد يثير مشاكل في العمل أكثر من تلك التي يكون فيها مستعمل الخزانة شخصا واحد، ذلك أنه في نقص محتويات الخزانة أو سرقتها فإن السبيل ينفتح أمام المصرف للدفع بأن السرقة قد تمت من أحد المستعملين( )، وهو ما يجعل إثبات مسؤولية المصرف أكثر صعوبة في هذه الحالة بالنسبة للمتضرر.
2. الإلتزام بالمحافظة على الخزانة ومحتوياتها
رغم ما يعنيه تسليم مفتاح الخزانة للعميل من دلالة على انه يحوزها إلا ان الحيازة الفعلية في واقع الأمر تكون للمصرف( )، وهو هدف مقصود لذاته، إذ هو الذي دفع العميل للتعاقد وبعث فيه الشعور بالثقة والأمان، ولولا أن الخزانة في حيازة المصرف وحمايته لما كان من المتصور قيام هذه الخدمة أصلا.
وعلى هذا الأساس فإن إلتزامات المصرف لا تنتهي بتسليم المفتاح وتمكين العميل من إستعمال الخزانة، بل يتعين عليه أن يتخذ كل ما من شأنه أن يضمن سلامة الخزانة ويحافظ على محتوياتها طوال مدة العقد.
فالإلتزام بالحفظ إذن يظهر كإلتزام رئيسي في هذا العقد ليعطيه طابعا مختلفا ويطعن في كونه مجرد إيجار للخزانة.
ويقتضي هذا الإلتزام أن يقوم المصرف بحراسة الخزانة طوال الوقت، فهو بموجب هذا العقد يكون قد تعهد بحفظها وصون محتوياتها.
ولبلوغ هذه الغاية يجب التأكد من أن الخزانة في ذاتها خالية من العيوب، وأن تكون في مكان آمن وتحت المراقبة المستمرة، وأن يعد المكان بالشكل الذي يحفظها من الكوارث الطبيعية الممكن حدوثها كالفيضان أو الحريق( ) وأن تكون مزودة بوسائل الإنذار أو الوقاية التي تحميها من السرقة، وواجب الحفظ يقتضي من المصرف أن يتحقق من شخصية كل داخل لمكان الخزانة وأن ينظم دخول العميل للخزانة ويثبته في سجل عند كل زيارة( ).
ولا توجد حدود للإحتياطات والتدابير التي يمكن أن يأخذها المصرف لضمان تنفيذ هذا إالإلتزام بالشكل الذي لا يحول دون العميل وممارسة حقه على الخزانة( ).
وقد كان المشرع الليبي حريصا على النص على هذا الإلتزام في المادة 228 من القانون التجاري حيث أوجب على المصرف أن يقوم بحراسة الخزانة مما يعني أنه سيتحمل المسؤولية عن كل ضرر يحيق بها ومحتوياتها، والحراسة هنا لها مفهوم واسع يشمل الخزانة ومحتوياتها( )، ويعني أن هذا الواجب يدوم طوال مدة العقد، مهما كانت الظروف، إلا إذا تعلق الأمر بقوة قاهرة( ).
ويقع إلتزام المصرف بالمحافظة على الخزانة وحراستها حتى في مواجهة العميل ذاته إذ يمكن للمصرف أن يمنعه من وضع الأشياء الخطرة في الخزانة، عند علمه بذلك، وعادة ما يتم الاحتياط لذلك بالنص عليه عند إبرام العقد( ).
وقد حرص المشرع المصري في قانون التجارة على النص على أنه لا يجوز للمستأجر أن يضع في الخزانة أشياء تهدد سلامتها أو سلامة المكان الموجودة به( ).
وإذا كانت هذه أهم إلتزامات المصرف في مضمونها فإنها في طبيعتها لازالت تحتاج إلى بحث نرجئه إلى الفقرة الثانية لنهتم قبل ذلك ببيان حدود إلتزامات المصرف وخاصة فيما يتعلق بتمكين العميل من إستعمال الخزانة بحرية والإلتزام بعدم فتح الخزانة.
ثانيا حدود إلتزامات المصرف:
تمثل إلتزامات المصرف في وجهها الآخر حقوقا للعميل تمكنه من الإنتفاع بالخزانة وتضمن له سلامة محتوياتها، وليس للمصرف وفقا لذلك ان يمنع العميل من إستعمال الخزانة، أو ان يفرغ محتوياتها، إلا وفق إستثناءات محددة حرصت بعض التشريعات على إيرادها، كما هو الحال في القانون المصري الذي حسم الكثير من المشاكل الناشئة عن هذا العقد وخاصة فيما يتعلق بالحجز على الخزانة.
ويمثل الحجز حالة يضطر معها المصرف لمنع العميل من إستعمال الخزانة، كما قد تدفعه الضرورة أيضا إلى فتح الخزانة وافراغ محتوياتها لضمان سلامتها أو لإقتضاء حقوقه في الأجرة وقد يكون على المصرف كذلك أن يفشي ببعض المعلومات المتعلقة بالخزانة بناء على إجراءات قضائية نظمها المشرع بالخصوص.
وسنحأول الآن أن نتبين الحالات التي تتطلب من المصرف أن يخرق إلتزاماته في مواجهة العميل.
1. الإضطرار إلى فتح الخزانة.
قد يحدث أن يتهدد الخزانة ومحتوياتها أو المكان الموجودة به خطر فيتطلب الأمر مع تعذر نقلها، أن يضطر المصرف إلى فتحها وإفراغ محتوياتها.
ومثل هذا الإجراء الذي يمكن أن يقوم به المصرف لا ينظر له من زأوية خرقه لالتزامه بعدم فتح الخزانة ولكن من زأوية واجبة في حراسة الخزانة والحفاظ على محتوياتها، إذ هو يمثل في الواقع حرصا على تنفيذ الإلتزام بالحفظ.
والهدف من السماح بعدم فتح الخزانة من غير العميل هو المحافظة على المحتويات على سريتها وعندما لا يكون أمام المصرف خيار آخر لتحقيق ذلك إلا بفتح الخزانة وإفراغها فإن ذلك ضرورة يستلزمها تنفيذ اهم الواجبات الملقاة على عاتق المصرف.
ويبدو أن المصرف مطالب في مثل هذه الحالات بالتدخل وإلا قامت مسئوليته، شريطة أن يكون تدخله هذا محددا بحالة الضرورة لمنع وقوع الضرر وحتى في هذه الأحوال فإن بعض التشريعات قد حرصت على ضرورة إتباع إجراءات وتوافر شروط لابد من القيام بها.
ومن ذلك المشرع المصري الذي تصدى لتنظيم هذه الحالة في المادة 318/3 من قانون التجارة الجديد وفرق بين حالتين:
الحالة الأولى .. وهي التي يكون فيها الخطر حالا لا يحتمل القيام بأي إجراءات لإبلاغ العميل فيجوز للمصرف وعلى مسئوليته فتح الخزانة وإفراغها أو سحب الأشياء الخطرة منها دون إخطار العميل أو الحصول على إذن من القاضي.
أما الحالة الثانية .. فيشترط فيها تواجد خطر أيضا ولكن ظروف الحال تسمح بإخطار العميل بذلك فعندها يتعين على المصرف أن يقوم بذلك ويطلب من العميل بمعرفته إفراغ الخزانة، فإذا حضر العميل كان بها، وإذا لم يحضر جاز للمصرف أن يطلب من القاضي المختص إصدار امر على عريضة بالإذن له في فتح الخزانة وإفراغ محتوياتها أو سحب الأشياء الخطرة منها، وذلك بحضور من يعينه القاضي لذلك، ويتم تحرير محضر بالواقعة يشتمل على بيان محتويات الخزانة.
ويلاحظ هنا في الحالة الأولى أن المشرع قد ترك الأمر جوازيا للمصرف فله أن يقوم به أو ألا يقوم وهو في كلتا الحالتين سيتحمل مسؤولية الضرر سواء الناجم عن الفتح وإفراغ الخزانة أو عن تقاعس المصرف عن إنقاذ الخزانة.
فإذا ما قام بفتحها وإفراغ محتوياتها يتعين عليه أن يحصر المحتويات وينقلها إلى مكان آمن ويلاحظ أن نص المادة 318/3 لم يلزم المصرف بتحرير محضر حول الواقعة وحصر الموجودات، ونرى ان ذلك اجراء لازم يتعين على المصرف أن يقوم به لحماية نفسه من المساءلة.
اما إذا لم يقم بإنقاذ المحتويات مع وجود الخطر الحال وحدث ان ترتب على ذلك ضرر للمحتويات فإن المسؤولية كما سنرى ستقوم في حق المصرف، إذ يتعين عليه أن يثبت قيام قوة قاهرة حالت دون ودون تنفيذ إلتزامه بالحفظ.
كما ان من المشاكل المتوقع إثارتها عند قيام المسؤولية تقدير ما إذا كان الخطر حالا ووشيكا أو انه من نوع الخطر الذي يتحمل معه الأمر إخطار العميل أو اللجوء للقضاء للأمر بفتح الخزانة.
2. فتح الخزانة عند عدم دفع الأجرة
في الحالة التي لا يفي فيها مستعمل الخزانة بالأجرة المتفق عليها في مواعيدها يقوم للمصرف الحق في إنهاء العقد واسترداد الخزانة، وتضمن الموجودات مقدار الدين الذي للمصرف على العميل.
وقد عالج كل من المشرع الليبي والمصري هذه الحالة بأحكام لها نفس الغاية ولكنها تختلف في إجراءاتها، فقد ألزم المشرع الليبي في المادة 230 في القانون التجاري المصرف في حالة إنقضاء اجل العقد( ) ان ينذر العميل بذلك وبعد ستة أشهر من الإنذار جاز له ان يطلب من القاضي الجزائي الاذن في فتح الخزانة. ويجري الفتح بمساعدة محرر عقود يعين لمثل هذا الغرض مع إتخاذ الإجراءات التي يراها القاضي الجزائي ملائمة، كما يجوز للقاضي الجزائي أن يأمر بالمحافظة على الأشياء الموجودة في الخزانة كما يجوز له أن يأمر ببيع جزء منها بقدر ما يكفي لإستيفاء ما للمصرف من حقوق في الأجرة والمصاريف.
أما المشرع المصري فقد نص في المادة 319 من قانون التجارة الجديد على انه إذا لم تدفع الأجرة في مواعيد استحقاقها جاز للمصرف بعد ثلاثين يوما من إخطار العميل بالدفع أن يعتبر العقد منتهيا من تلقاء نفسه ويسترد المصرف الخزانة بعد إخطار العميل بالحضور لفتحها وافراغ محتوياتها.
وفي الحالة التي لا يحضر فيها العميل رغم إخطاره يجوز للمصرف أن يطلب من القاضي المختص اصدار امر على عريضة بالإذن له في فتح الخزانة وإفراغ محتوياتها بحضور من يعينه القاضي لذلك، ويحرر محضرا بالواقعة تذكر فيه محتويات الخزانة، وللقاضي أن يأمر بإيداع المحتويات عند المصرف أو عند أمين يعينه لذلك.
وقد أعطي المشرع المصري للمصرف حق حبس الخزانة وقرر له حق إمتياز على الثمن الناتج عن بيعها لإستيفاء الأجرة والمصاريف المستحقة له.
3. إعطاء المصرف معلومات حول الخزانة.
بموجب مبدأ السر المصرفي الذي يطبع كل أعمال المصارف فإنها تلتزم بعدم إعطاء أية بيانات أو افشاء اسرار لأي عميل لديها، وينسحب هذا الأمر على الخزائن ايضا، وقد أكدت ذلك المادة (1) من القانون رقم 205 لسنة 1990 في شأن سرية الحسابات( ) بالبنوك بمصر.
غير أن المادة الثالثة من نفس القانون المشار إليه قد أعطت للنائب العام أو لمن يفوضه من المحامين العامين الأول على الأقل سواء من تلقاء نفسه أو بناء على طلب جهة رسمية من أحد ذوي الشأن أن يطلب من محكمة استئناف القاهرة الأمر بالاطلاع أو الحصول على اية بيانات أو معلومات تتعلق بالحسابات أو الودائع أو الأمانات أو الخزائن وذلك في حالتين محددتين وهما:
1. إذا اقتضى ذلك كشف الحقيقة في جناية أو جنحة قامت الدلائل الجدية على وقوعها.
2. التقرير بما في الذمة بمناسبة حجز موقع لدى أحد البنوك الخاضعة لأحكام هذا القانون( ).
ومن الواضح أن هذه المادة تلزم المصرف بان يقدم المعلومات المطلوبة منه حول أصحاب الخزائن لديها، إلا أن ذلك لا يتم إلا وفق الإجراءات المرسومة وبتدخل الجهات القضائية المحددة في المادة.
4. الحجز على الخزانة.
يتعلق الحجز على الخزانة لدى المصرف بحقوق دائني العميل التي ضمنها لهم القانون، وهي واجبة الأعمال وفق ما تسمح به الأحكام القانونية المتعلقة بذلك.
والحجز على الخزائن جائز لأن في منعه إخلال بحقوق الدائنين المكفولة بالقانون وسبيل للإفلات من إجراءات التنفيذ المرسومة جبرا( ).
غير أن هناك جملة إعتبارات تحيط بالتنفيذ على الخزائن لها أثرها الكبير في تحديد نوع الحجز وفعاليته وذلك في غياب نصوص خاصة تنظم نصوص خاصة تنظم هذه المسألة في بعض التشريعات، وهو ما جعل الفقه يثري موضوع الحجز بآراءه المتنوعة والتي تنطلق من تكييف العقد.
ومن هذه الإعتبارات أن المصرف إنما يقدم الخزانة للعميل للإنتفاع بها دون أن يكون له علم بما تحتويه الخزانة أو يكون له حق فتحها أو السماح لغير العميل بإستعمالها.
كما ان المصرف يلتزم بمبدأ السر المصرفي الذي يشمل هذه العملية، ولا يمكن خرق هذا المبدأ إلا وفق الإستثناءات التي حددها المشرع وبالإجراءات الواجب اتباعها.
وعلى هذا الأساس فإن الفقه كان يعارض في الحجز على الخزانة بما للمدين لدى الغير لتعذر الإقرار بما في الذمة اللازمة لهذا الحجز.
أما فيما يخص الحجز التحفظي والحجز التنفيذي فإن السبيل مفتوح امامها وفق ما يقرره القانون إلا انها تختلف في مدى فائدتها بالنسبة للدائنين، فالحجز التحفظي هو الأجدى فيما يتعلق بالمحافظة على كمية وقيمة الموجودات بالخزانة.
إذ أن عدم حاجته إلى إخطار العميل لا يسمح له بالعلم المسبق بالحجز ولا يترك له فرصة لإفراغ محتويات الخزانة أو انقاصها.
أما الحجز التنفيذي وبما تحيط به من إجراءات وحاجته إلى إخطار العميل فإنه يترك لهذا الأجير فرصة تدبر أمره قبل توقيع الحجز مما يضر بحقوق الدائنين والذي يهمنا في الموضوع هو أن المصرف في أحوال الحجز سيكون ملزما بخرق التزامه العقدي بتمكين العميل من إستعمال الخزانة، ومرغما على منعه من فتحها.
والواقع أنه لا توجد أية عقبات قانونية امام توقيع اي نوع من انواع الحجز، ذلك ان ما في الخزانة هو جزء من ذمة العميل المالية التي تكون مشغولة بحقوق الدائنين وبالتالي فهي ضامنة لهذه الحقوق.
وأيا ما كان تكييف العقد فإنه إذا ما تم الحجز وفق الاجراءات التي حددها المشرع فليس للمصرف إلا أن يستجيب لذلك ويمنع العميل من إستعمال الخزانة.
أما فائدة الحجز بالنسبة للدائن أو امكانية قيامه بالصورة المطلوبة فتخضع لإعتبارات عملية اكثر منها قانونية( ).
وقد حسم المشرع المصري في قانون التجارة الجديد( ) هذا الأمر ولم يبقي من فائدة في الجدل حول تكييف عقد الخزائن بأن أقر في المادة 321/1 جواز توقيع الحجز التحفظي أو الحجز التنفيذي على الخزانة.
وقرر في الفقرة الثانية من نفس المادة بان الحجز يوقع بتبليغ المصرف مضمون السند الذي يتم الحجز بموجبه، مع تكليفه بالتقرير عما إذا كان يؤجر خزانة للمحجوز عليه. وألزم المصرف بمجرد تسليمه التبليغ أن يخطر صاحب الخزانة فورا بتوقيع الحجز وأن يمنعه من إستعمالها.
مسؤولية المصرف:
تقوم مسؤولية المصرف في الحالة التي يحدث فيها ضرر يلحق بمحتويات الخزانة أو عندما يخل المصرف بأحد إلتزاماته المترتبة على العقد.
وقد تنوعت إتجاهات الفقه والقضاء في تحديد مضمون هذه المسؤولية وحدودها، وهو تنوع يعكس حول تكييف عقد الخزائن والآثار المترتبة على كل تكييف.
ولقد أشرنا في بداية هذا البحث إلى تعداد الآراء التي قيلت في تكييف هذا العقد( )، وفيما يبدو أن موضوع التكييف يفقد أهميته مع التدخلات التشريعية التي تنأولت هذا العقد وحسمت الكثير من مشاكله.
والواقع أننا في الحالة التي يتدخل فيها المشرع وينظم هذا العقد فإنا لانرى فائدة من محأولة جره إلى عقد آخر ذلك أنه بإستقلال أحكامه لايبدو عمليا الإصرار على تقريبه إلى عقد مسمى آخر.
والأمر يمكن حسمه بالقول أنه أصبح عقدا مستقلا يحظى بعناية المشرع، وبالتالي فإنه يستمد أحكامه وطبيعته الخاصة من النصوص التي تنظمه وبالكيفية التي رآها المشرع، وكأي عقد آخر يخضع في أحكامه العامة للقواعد التي تحكم العقود بشكل عام.
وحتى لو استعمل فيه المشرع لفظا ينطبق على عقد آخر كما هو الحال في القانون المصري وبعض القوانين الأخرى التي أطلقت عليه عقد إيجار، فإن ذلك لا يجعله من قبيل عقد الإيجار العادي للأشياء، وله أحكامه الخاصة به( ).
وفيما يخص موضوع مسؤولية المصرف الناشئة عن هذا العقد، فإنها بلاشك تنطلق من تحديد طبيعة التزام المصرف في العقد، ولبيان ذلك يجب التركيز على مجموع الأحكام الخاصة التي أوردها المشرع وعلى الظروف التي تحيط بهذه المعاملة والإطار الذي تقوم فيه.
وفي الحالة التي لا تكون فيها النصوص صريحة بالشكل الذي يفصح بوضوح عن طبيعة الإلتزام فإن الاجتهاد يجب أن ينصب على ما قصده المشرع وعلى الغاية التي يستهدفها من خلال وضعه للنصوص الخاصة بالعقد، وليس من محأولة تقريبه إلى عقد الإيجار تارة أو إلى عقد الوديعة تارة أخرى.
إن عقد استغلال الخزائن يأتي في إطار العمليات المصرفية وهذه بدورها تقوم على إعتبارات معروفة بدأت تعطي الملامح الرئيسية لفرع قانوني بدأت تتوافر له عناصر الإستقلال وهو القانون المصرفي.
فهذا القانون وإن كان ينظم أعمالا بطبيعتها تجارية إلا أنها تشتمل على خصوصية مستمدة من الطبيعة الخاصة للعمل المصرفي الذي نظم فيه المشرع مسائل عديدة وترك غيرها لما يجري عليه العمل وترسخه الأعراف والعادات( ).
ويجب الإعتراف أنه حتى مع وجود النصوص القانونية لازالت هناك حاجة لتحديد طبيعة إلتزام المصرف الناشىء، عن الإلتزام بالحفظ وصون محتويات، وهذه لا يمكن الوصول لها بشكل سليم إلا من خلال النصوص الخاصة بالعقد ومن خلال الإطار الذي تقوم فيه هذه العملية.
وبخصوص بقية التزامات المصرف كالإلتزام بتمكين العميل من إستعمال الخزانة فهو العقد ذاته وهو بالوضوح والتحديد الذي يقيم مسؤولية المصرف في كل مرة يتم الإخلال به، كما ان الإلتزام بالسرية هو واجب عام يطبع كل أعمال المصارف ولا يمكن إلا وفق الإستثناءات التي حددها المشرع.
وعلى هذا الأساس سنركز البحث حول مسؤولية المصرف في هذه الفقرة على استكناه طبيعة التزامه بالحفظ وما ينجر على ذلك من آثار وسنخصص البند أولا لبيان مضمون مسؤولية المصرف من خلال معرفة هل التزامه بالحفظ التزام بتحقيق نتيجة أم التزام ببدل عناية وما يمكن ان يترتب على ذلك من آثار ثم في البند الثاني نحأول معرفة حدود هذه المسؤولية.
أولا مضمون مسؤولية المصرف:
إذا انطلقنا في بيان طبيعة التزام المصرف من بعض التشريعات القائمة، فإننا نجد نصوصها تختلف في تحديد هذا المعنى، فالقانون التجاري الليبي في المادة 228 ينص على انه “يتحمل المصرف المسؤولية قبل العميل عن صلاح محال الخزائن الخاصة للغرض الذي أعدت من أجله وعن حراستها وكذلك خلو الخزائن من العيوب، بإستثناء حالة الحادث الطارىء”.
وهذا النص يقيم مسؤولية المصرف عن كل ضرر متصور بشكل لا فكاك منه إلا في حالة القوة القاهرة أو الحادث الطارىء كما وصفها مما يجعل التزام المصرف بالحفظ التزاما بتحقيق نتيجة.
فبمجرد حدوث ضرر ناتج عن عدم صلاحية مكان الخزانة أو عن عيب فيها أو تقصير في حراستها فإن المصرف يعتبر مسؤولا عن ذلك بقوة القانون بإستثناء القوة القاهرة، وفي مثل هذه الحالة لا يفيده أن يثبت أنه قد قام بما يلزم للمحافظة على الخزانة أو لم يقصر في حراستها.
ومثل هذا النص يقطع طريق الجدل في تحديد طبيعة الإلتزام ولا يجعل من فائدة بعد ذلك في تكييف العقد سوى أنه عقد خصه المشرع بأحكام خاصة، كما أنه سيلقي بظلاله على شروط العقد وبنوده حيث لا تكون للمصرف إمكانية إيراد شرط الإعفاء من المسؤولية الذي تتيحه القواعد العامة في حالات أخرى.
أما قانون التجارة المصري الجديد فإنه تضمن نصا في المادة 318/1 فينص:
“1- على البنك إتخاذ التدابير اللازمة لضمان سلامة الخزينة” وهو ما يشير إلى ان واجب المصرف يتمثل في بذل جهوده للقيام بكل ما من شأنه أن يحافظ على الخزانة ومحتوياتها مما يعني أن إلتزامه بالمحافظة هو التزام ببذل عناية وهو يبرأ من المسؤولية إذا أثبت أنه قد اتخذ التدابير الواجب إتخاذها للحفاظ على الخزانة ومحتوياتها.
والفرق واضح بين الإلتزام بتحقيق نتيجة والإلتزام ببذل عناية، إذ سيكون ركن الخطأ في المسؤولية مفترضا في جانب المصرف في الأول بينما هو واجب الإثبات في الثاني كما سنرى، وبالتالي فإن مسؤولية المصرف أشد في الإلتزام بتحقيق نتيجة وسبل التخلص منها لاتكون إلا بإثبات وجود قوة قاهرة بينما هي في الإلتزام ببذل عناية أخف وقد تتعدد أمامه سبل التخلص من المسؤولية.
وبغض النظر عن موقف كل من التشريعين المذكورين فإننا نميل إلى اعتبار إلتزام المصرف في مثل هذه المعاملة هو إلتزام بتحقيق نتيجة( ).
فعمليات الخزائن الخاصة هي من عمليات المصارف التي تختص بالقيام بها ويفترض أنه المكان الاكثر أمناً من غيره، كما ان دافع طلب الأمان من جانب العميل والإستعداد اللازم من جانب المصرف يجعل تصور تنفيذها مؤكدا إلا ما قد يكون طارئا وخارجا عن التوقعات.
والشخص الذي يتوجه بطلب هذه الخدمة من المصرف ليس في ذهنه ما في ذهن المستأجر العادي للأشياء بل هو ينشد نتيجة يريد تحقيقها وهي وضع بعض مقتنياته في المكان الذي لا تطالها فيه سرقته ولا يمسها ضرر من أي نوع، فهو لا يعول على انه قد يحصل فقط على سعة للإنتفاع بها بل دافعه الأساسي هو ما يتوقع أن يقوم به المصرف من مراقبة دائمة وحفظ مؤكد للخزانة ومحتوياتها.
وحتى لو أطلق على هذه العملية في بعض التشريعات إيجار فإن إلتزام المصرف، كما لاحظنا لا يقف عند تمكين العميل من استغلال الخزانة والاستفادة منها، بل إلى جانب ذلك يقع على عاتقه التزام آخر ليس تبعيا ولا إضافيا، بل هو رئيسي وهو الإلتزام بحراسة الخزانة ومحتوياتها( ).
ولقد كان المشرع الليبي صريحا في النص على إلزام المصرف بحراسة الخزانة في المادة 228 من القانون التجاري كإلتزام رئيسي على المصرف وأقام مسؤوليته على الإخلال به إلا في حالة القوة القاهرة، ومما يجعلنا نسير في هذا الاتجاه ما يجب أن تأخذ به المصارف من شدة في أعمالها إذ أنها تؤديها كمحترف ومتخصص لا ينتظر منها فقط ما ينتظر من غيرها( )، ولا يكتفي من يتوجه لطلب خدمتها بمجرد بذل العناية بل ان ما يطلبه هو تحقيق النتيجة.
فموضوع هذا العقد وهدفه لا يتحدد بإستغلال الخزانة ووضع الأشياء فيها بمجرد أن المصرف سببذل عنايته في حفظها بل يتحدد بأن هذه المحتويات قد وضعت في المكان المضمون الذي يبعدها عن أي خطر( ).
ومن أهم الآثار المترتبة على القول بأن إلتزام المصرف هو إلتزام بتحقيق نتيجة تكون على صعيد الإثبات، فالدائن في الإلتزام بتحقيق نتيجة يكفيه اثبات عدم تحقيقها.
وهو ما يؤدي إلى القول بأن عدم التنفيذ كان من فعل المدين ويكون ركن الخطأ في المسؤولية مفترضا في جانبه ولا يحتاج إلى اثبات( ).
وفي هذه الحالة لايكون أمام المدين بالإلتزام للتخلص من المسؤولية إلا اثبات وجود القوة القاهرة التي حالت دونه ودون تنفيذ التزامه.
أما في الإلتزام ببذل عناية فإن ركن الخطأ في المسؤولية غير مفترض، وهو واجب الإثبات، والدائن في الإلتزام مطالب بإثباته إذ عليه أن يقيم الدليل على أن المدين لم يقم بالعناية اللازمة التي يتطلبها تنفيذ الإلتزام وتكون امام هذا المدين فرصة أوسع لدفع المسؤولية بإثبات أنه قد قام بما يتطلبه منه العقد من اهتمام وعناية لتنفيذ الإلتزام( ).
وفي عقد الخزائن الخاصة يكون قدر الحماية للدائن في الإلتزام بتحقيق نتيجة أكبر منه في الإلتزام يبدل عناية، وهو ما يجعلنا نرجح الأول على الثاني لاختلاف مركز المتعاقدين، فالمصرف بما يتوفر له من امكانيات وأدوات وعاملين لا يتسأوى مع العميل الذي استأمن المصرف على مقتنياته، وبموجب الثقة في المصرف قام بوضع هذه الأشياء في حمايته بحيث لا يمكنه بعد ذلك أن يطالب بها أحدا غير المصرف.
كما أن القدرة الإدارية والقانونية للمصرف هي في وضع أقوى مما يجعل من غير العادل أن نضع المصرف والعميل في كفتين متقابلين لحسم مسألة الإثبات في ركن الخطأ، وفيما يخص توزيع الإلتزامات فإن وجود الأشياء في خزانة المصرف لا يسمح بتحميل العميل اي عبء لحراستها أو تقاسمه معه بحيث يتحمل بعض وزر فقدها، فالعبء الأكبر يجب ان يكون على عاتق الأقوى وهو ما يتحقق يجعل التزام المصرف بتحقيق نتيجة.
هذا فيما يخص إثبات الخطأ في ركن المسؤولية اما ما يتعلق بركن الضرر فإن إثباته يقع على عاتق العميل في عقد الخزائن الخاصة( ).
وتكتسي عملية الإثبات هذه صعوبة كبيرة بالنسبة للعميل خاصة في الحالة التي يكون فيها الضرر بنقص محتويات الخزانة كالسرقة( ). أو هلاك الموجودات كليا، إذ سيتعين على المضرور أن يثبت حالة الموجودات وقت السرقة أو الهلاك.
ومكمن الصعوبة يتمثل في تحديد مقدار الضرر عند قيام مسؤولية المصرف، ذلك ان إستعمال الخزانة مقتصر على العميل وهو الذي يعلم بالأشياء الموجودة فيها وقيمتها وأنه يتمتع في إستعمالها بما يعطيه له السر المصرفي من ميزات، وبإعتبار أن المسؤولية عقدية فإن مقدار التعويض يتحدد بالضرر الحاصل.
وتبعا لذلك سيكون على العميل أن يقدم الدليل الكافي على كل ما يدعيه( ) ذلك أن الفقه، تؤيده بعض احكام القضاء، لا يعتبر كافيا ما يدلي به العميل وحده عن قيمة الموجودات،
وحتى لو تم العثور على السارق في حالة السرقة فإن إعترافه ليس له إلا قيمة نسبية( ). ويرى الفقه أن العميل يمكنه أن يستعمل كافة طرق الإثبات( ) ذلك أن الأمر يتعلق بإثبات واقعة( ). وفي الحالة التي يستحيل فيها تقدير قيمة الأشياء بأية طريقة يمكن للقاضي أن يوجه للمدعي اليمين المتممة، غير أن ذلك مشروط بوجود بداية دليل، أي ألا تكون الدعوى خالية من اي دليل( ).
وحتى في هذه الحالة فإن الأمر لا يخلو من صعوبة، إذ أن شروط توجيه اليمين قد لا تتوفر مع تطلب وجود بداية دليل مما يتعذر على العميل( ).
وتوجد إشكالية أكبر تجعل من تحديد قيمة الضرر أكثر صعوبة وهي التي تقوم في الحالة التي تكون فيها الخزانة مشتركة وتستعمل من عدة أشخاص ففي حالة السرقة مثلا بإمكان المصرف أن يتمسك بأن السرقة قد تمت من أحد مستعملي الخزانة( ).
والواقع أن الميزة التي يحظى بها مستعمل الخزانة – فردا كان أو مجموعة – في الإستقلال بإستعمال الخزانة بحرية وسرية يقابلها عيب لا يظهر إلا عند الحاجة لتقدير قيمة ما تحتويه الخزانة في حالة قيام المسؤولية، ولا يبدو أن هناك حل لهذه المشكلة، إذ أن أي محأولة لإعداد دليل مسبق بالمحتويات تكون له حجية سينتقص بدون شك من الميزات التي يعطيها هذا العقد للعميل.
ونخلص للقول بأن مسؤولية المصرف النابعة من إخلاله بإلتزامه بالحفظ في عقد الخزائن تنبني على خطأ مفترض في جانبه عند وقوع الضرر تبعا لإعتبار أن التزامه بالمحافظة والأمان هو التزام بتحقيق نتيجة، غير انه يقع على العميل المتضرر أن يثبت قيمة الضرر الذي لا يكون سهلا في كل الأحوال. أمام هذا التشديد في مسؤولية المصرف( ) بوصفه محترفا يلتزم بواجبات خاصة تفرضها أصول مهنته فإن عادة ما يحرص على تضمين عقد الخزائن بعض الشروط التي يمكن أن تستبعد مسؤوليته أو تخفيفيها عند قيامها بالنظر إلى أن الفكاك من هذه المسؤولية لا يكون إلا في حالة القوة القاهرة فإلى أي مدى يمكنه ذلك؟
ثانيا حدود مسؤولية المصرف:
إذا ما توافرت أركان مسؤولية المصرف فإن سبيله الوحيد لدفعها هو محأولة قطع علاقة السببية بين خطأه المفترض والضرر الحاصل وذلك بنسبة الضرر إلى سبب اجنبي وهو القوة القاهرة بالتحديد وهو ما يجعلنا نبحث في بند أول دفع المسؤولية لنركز في البند الثاني عما يمكن أن يحتاط له المصرف عند إنعقاد العقد ويضعه من شروط لاستبعاد المسؤولية أو تحديدها.
1. دفع المسؤولية
بحسب القواعد العامة في المسؤولية في الإلتزام بتحقيق نتيجة لا يمكن دفع المسؤولية إلا بإثبات توافر السبب الأجنبي، ويتم التركيز في هذا الخصوص على القوة القاهرة وهو ما طبقه المشرع الليبي كما رأينا في المادة 228 من القانون التجاري بصدد تنظيمه لخزائن المصرف، غير أنه يمكن الأخذ بعين الإعتبار خطأ العميل الذي يتسبب بفعله في إحداث الضرر بمحتويات الخزانة.
وفيما يتعلق بالقوة القاهرة فهي حدث فجائي غير متوقع ولا يمكن دفعه، فإذا كان هو سبب الضرر فإن علاقة السببية تنقطع بين الخطأ والضرر وبالتالي تنعدم المسؤولية في هذه الحالة( ).
ويحاول بعض الفقه والقضاء أن يضيق من مفهوم القوة القاهرة( ) في حالة مسؤولية المصرف عن الخزائن بحيث لا يجعلها تتسع للكثير من الفروض، وسبب ذلك أن تنفيذ المصرف لإلتزاماته يقاس وفق معايير عالية ومتشددة بوصفه مشروعا محترفا ومتخصصا في تنفيذ هذه العمليات، ولهذا يفترض فيه أن يراعى كافة الفروض والاحتمالات التي تقع، ويضع كل التدابير والاحتياطات للحيلولة دون وقوع الضرر.
وعلى هذا الأساس فإن الحريق لا يمثل دائما قوة قاهرة وحادثا فجائيا يمنع مسؤولية المصرف إلا إذا كان يستحيل دفعه بكافة الوسائل الموجودة( ).
كما أن القضاء الفرنسي قد حكم بأن الفيضان الذي يغمر مكان الخزانة بالمياه ويؤدي إلى تلف محتوياتها لا يعد قوة قاهرة إلا إذا كان بالشدة التي لم تمر بالذاكرة من قبل( ). وحتى الحرب لا يعتبرها البعض من قبيل القوة القاهرة إذا تم إثبات أن المصرف كان بإمكانه أن يتفادى الضرر المترتب على ظروف الحرب( ).
أما فيما يتعلق بالسرقة فإن على المصرف أن يضع الاحتياطات التقنية اللازمة لمنعها وهي لا تعد من قبيل القوة القاهرة.
وهذا المفهوم الضيق للقوة القاهرة يجعل من مسؤولية البنك تنعقد في أغلب الحالات لتغطي معظم صور الضرر وأشكال حدوثه حتى يكاد التزام المصرف ينقلب إلى التزام بالضمان.
وحتى لا يصبح التزام المصرف التزاما بالضمان فإن البعض يحأول أن يخفف من شدة المسؤولية وضيق سبل دفعها بالنسبة للمصرف بالقول أن إلتزام هذا الأخير بالتعويض قد لا يشمل كل الضرر الحاصل، وخاصة في بعض الحالات الاستثنائية للسرقة التي تتم بطرق غير مسبوقة أو حالات النهب والفوضى الناجمة عن حرب( ).
وهذا يعني أن تلك الحالات تبقى خارج إطار القوة القاهرة ولا يمكن دفع المسؤولية عنها إلا أن الأمر يتعلق بمراعاة بعض الجوانب الاستثنائية فيها لتخفيض التعويض الذي يكون المصرف ملزما بدفعه مع قيام مسؤوليته.
وفيما يتعلق بخطأ العميل الذي قد يجب مسؤولية المصرف فمن المتصور حدوثه في الضرر الذي يلحق الخزانة ومحتوياتها والناجم عن وضع العميل اشياء خطرة فيها أو قابلة للاشتعال أو افساد ما معها من محتويات.
والواقع أن المصارف عادة ما تحتاط لمثل هذه الأحوال، إذ تحرص في عقود الخزائن التي تبرمها أن تشترط على العميل عدم القيام بذلك، كما أن المشرع في بعض القوانين يحظر على العميل أن يضع في الخزانة اشياء تهدد سلامتها أو سلامة المكان الذي توجد به وهو ما فعله المشرع المصري في المادة 318/2 من قانون التجارة الجديدة( ).
وفي هذه الحالة وعند حدوث الضرر فإن المصرف لا يتحمل أية مسؤولية بل يمكن أن تقوم مسؤولية العميل إذا ما حدث ضرر للخزانة أو المكان، فهو في هذه الحالة قد أخل بإلتزام عقدي وبواجب يفرضه عليه القانون.
وقد يكون الضرر ناتجا عن وضع العميل داخل الخزانة محتويات لا تتحمل بطبيعتها الرطوبة أو ظروف التخزين داخل الخزانة فهنا لا يتحمل المصرف أية مسؤولية. إلا إذا تعلق الأمر بعدم صلاحية الخزانة فعندها يصبح المصرف مسئولا عن ذلك.
والمشرع الليبي احتاط لهذا الأمر بأن نص في المادة 228 من القانون التجاري على ان يكون المصرف مسئولا عن عدم صلاحية الخزائن لتأدية الغرض الذي اعدت من اجله.
2. الإعفاء من المسؤولية وتحديدها.
الاصل في القواعد العامة أنه يجوز للمتعاقدين الإتفاق على الإعفاء من المسؤولية ما لم تكن ناتجة عن غش أو خطأ جسيم( ) غير أن هذا الشرط إذا ما ورد في عقد الخزائن المصرفية فإنه سيتناقض تناقضا واضحا مع موضوع العقد.
وبناء على ذلك فإن هذا الشرط يعد باطلا لأنه ينفي العقد ويتعارض معه( ) فالإلتزام بالحفظ هو الهدف الأساسي من هذا العقد وبالتالي لا يمكن إعفاء المصرف من تنفيذ التزامه، وبدون الإلتزام بالحفظ يصير العقد بدون معنى( ) ومما يجعل هذا الشرط غير ممكن في عقد الخزائن المصرفية في ليبيا ان المشرع في المادة 228 من القانون التجاري قد ألزم المصرف بحراسة الخزانة وبالتالي لا يمكنه التحلل من هذا الإلتزام القانوني بإشتراط مخالف في العقد.
والواقع أنه حتى دون وجود هذا النص فإن هذا الشرط يعتبر ملغيا وإن أدرج في العقد لأنه يتعارض مع القواعد العامة المعروفة في احكام الإلتزامات.
غير أن ما يمكن للمصرف أن يقوم به والحال انه مسئول في معظم حالات الضرر هو أن يحأول تحديد مسؤوليته والتخفيف من آثارها.
وعلى هذا الأساس يكون العقد هو الميدان الذي يحأول أن يحتاط فيه المصرف للأمر وذلك بإيراد بعض الشروط التي من شأنها أن تحد من مسؤوليته أو تخففها ما دام لا يستطيع استبعادها كليا( ).
ومن بين وسائل تحديد المسؤولية أو تخفيفها والتي أبرزها العمل في بعض الدول أن يتعهد المصرف في العقد بأن ببذل ما في وسعه من حذر وعناية للمحافظة على الخزانة ومحتوياتها، وهذا يعني فيما يعنيه أن يتحول إلتزام المصرف بتحقيق نتيجة إلى التزام ببذل عناية.
وهذا الشرط قد يمثل مساسا بحقوق العميل التي كفلها القانون وذلك في ظل التشريعات التي تؤيد أن يكون التزام المصرف التزاما بتحقيق نتيجة، ويمكن ان يوصم بعدم المشروعية لأنه ينتقص من الحقوق التي كفلها القانون في بعض التشريعات للعميل كما أن غالبية الفقه والقضاء تؤيد اليوم أن يكون التزام المصرف هو بتحقيق نتيجة. واعتبار التزام المصرف ببذل عناية سيقلل من درجة الحماية للطرف الضعيف في العقد وهو العميل إذ سيجعل الخطأ واجب الإثبات بعد أن كان مفترضا وسيتحمل العميل عبء ذلك الإثبات.
ويحأول بعض الفقه أن يقلل من خطورة هذا الشرط بالقول انه لا يتعلق بالتحرر من الإلتزامات أو الإعفاء من المسؤولية ولكنه يخص الإتفاق على عبء الإثبات فقط( ).
أما الوسيلة الثانية في تحديد مسؤولية المصرف فتتم عن طريق تحديد رقم معين يمثل حدا أقصى للمبلغ الذي يلتزم به المصرف في حالة انعقاد مسؤوليته ومثل هذا الشرط يجد أساسه في القواعد العامة في تنفيذ الإلتزام في القانون المدني حيث يجوز للمتعاقدين أن يحددا مقدما قيمة التعويض بالنص عليها في العقد أو في إتفاق لاحق( ). وبناء على ذلك فإنه في الحالة التي يجأوز فيها الضرر قيمة التعويض المحدد فإن المتضرر لا يستطيع أن يطالب بأكثر من هذه القيمة إلا في حالة الضرر، إذ بإمكانه أن يحتاط للأمر ولا يضع في الخزانة ما تفوق قيمته الحد الأقصى للتعويض.
وهذه الفرضية الأخيرة تجعل هذه الوسيلة في تحديد المسؤولية قريبة من الوسيلة الثالثة في تحديد المسؤولية والتي تتمثل في الإتفاق على منع العميل من أن يودع في الخزانة محتويات تزيد قيمتها على مبلغ معين يحدد سلفا في العقد.
وفي الحالة التي تفوق فيها قيمة الموجودات المبلغ المتفق عليه فإن العميل في حالة إنعقاد مسؤولية المصرف لا يستطيع مطالبته بالتعويض عن القيمة الزائدة عن المبلغ المحدد ولكن يمكنه إذا رأى ذلك مهما أن يؤمن على هذه القيمة الزائدة لدى إحدى شركات التأمين. ولا توجد أمام هذه الوسيلة الأخيرة أية موانع قانونية فهي ألصق بالإجراءات التنظيمية للعملية التي يمكن الإتفاق عليها مسبقا وليس فيها إخلال بحقوق الطرفين إذ يكون كل منهما على بينة من امره.
خاتمة
نرى أن عملية الخزائن المصرفية تثير جدلا فقهيا قد يجعل من أهميتها النظرية تفوق أهميتها العملية، وهي وفق الإعتبارات التي تتقاطع عندها تجعلنا لا نرى فيها مجرد عقد إيجار ولا يصدق عليها عقد الوديعة كما لايتوافر فيها شرط عقد الحراسة.
وعندما يعاملها المشرع بأحكام خاصة فهذا دليل على أنها تأبى الدخول في الصيغ المعروفة، وعندها لا تبقي من فائدة في تقريبها لهذا النظام أو ذاك والأدعى هو أن تأخذ إستقلالها وتنفرد بنظامها.
وفي كل الأحوال فهي تضيف إلى العمليات المصرفية تنوعا آخر يصطبغ بالطابع المصرفي ويؤكد الإتجاه الذي يرى أن عمليات المصارف قد لا تنفع معها دائما الصيغ المعروفة في النظام التقليدي للمعاملات.