إن الإحساس بالنفس شعور ينفرد به الإنسان وحده. فعندما نتحدث عن “النفس” فإنما نتكلم عن وعي منا بأننا موجودون الآن، وكنا كذلك في الماضي ومستمرون مستقبلاً. وهو أحساس كان في الماضي والحاضر وسيبقى ثابتاً وبصورته الكاملة. إنه تعريف يتضمّن مكوّنات أنفسنا من قبيل: أجزائها الواعية وغير الواعية من تركيبتها “Psyche”، وأبعادها الجسمانية والعقلية والعاطفية لشخصيتنا، بالإضافة إلى الجانب الأناني والعام من أنماط سلوكنا.
عندما نستعمل لفظ “النفس” فإننا نتحدّث عن كياننا الذي نحسّ به وكما يراه ويعيه الآخرون. هذا المفهوم عن النفس يحل معضلة الجسم والروح، ويسمح لنا أن ندرس النفس البشرية على أنها وحدة متكاملة متناسقة. فالأنا “Ego” هو الإحساس الواعي المعبِّر عن “النفس”، ويتحكم في تطورها عوامل مُوَرِّثة جينية وبيولوجية وأخرى سيكولوجية وروحانية.
دعونا الآن نلقي نظرة على “النفس” من زاوية أخرى أكثر تحديداً. إننا كبشر نملك جميعاً غرائز معينة نشترك فيها مع الحيوان، وهي غرائز ضرورية لبقائنا والحفاظ على استمرار بقاء الجنس البشري. نشعر بالجوع فنبحث عن الطعام، نتألم فندرك أن خللاً حصل فنبادر إلى علاجه. بإمكاننا أن نستشفّ الخطر فإما أن نواجهه أو نتهرّب منه طلباً للأمان، كما أن لدينا الدوافع الجنسية التي بها نميل إلى الجنس الآخر في الظروف الطبيعية وغالباً ما تكون النتيجة حصول الحَمل وبه يستمر بقاء الجنس البشري. إلى جانب هذا وذاك فإن لدينا غرائز تشدّنا إلى الغير في رباط محكم، فتربطنا بقوة مع طفلنا حديث الولادة وتدفعنا إلى العناية بصغارنا وحمايتهم ورعايتهم.
في هذا المستوى من غرائزنا نتساوى مع أرقى أنواع الحيوان، غير أن هناك فارقاً أساسياً يميّز الإنسان هنا؛ فالحيوان لا يتجاوز قوانينه الغرائزية بينما الإنسان له الخيار. فتجاوُبُنا لغرائزنا الأساسية؛ أكان ذلك في الجوع أو الألم أو التّصدّي أو الهروب أو في الجنس فنجده مختلفاً تماماً عن الحيوان. قد نقرر الصيام أو إتّباع نظام خاص في الطعام (الرِّجيم)، وقد يصوم أحدنا حتى الموت تعبيراً عن موقف معيّن وغالباً لتحقيق العدالة، وقد يأكل البعض منا حتى لو لم يكونوا جائعين، وآخرون لا يأكلون حتى لو جاعوا مع أن الطعام متوفّر أمامهم (كما في حالة القَهَم العُصابي) “Anorexia-nervosa”. وهناك من لا يشاركون الطعام مع الجياع حتى لو كان فائضاً عن حاجتهم. كل هذا أنماط من السلوك خاصة بالإنسان دون غيره من المخلوقات.
نرى الشيء نفسه عند الألم أيضاً. ويجب أن نبيّن هنا أن الألم ليس دليلاً على المرض في كل الأحيان. فالنموّ مثلاً قد يكون مصحوباً بالألم، أو يكون إحساسنا بالألم نتيجة مجهود رياضي عنيف، وكذلك الأمر مع المازوجيين “Masochistic” الذين يتعمّدون إيلام أنفسهم، والساديين “Sadistic” الذين يُؤْلمون الآخرين. من هذه الأمثلة يتّضح لنا أن تصرّف الإنسان تجاه الألم لا تتحكّم فيه القوانين الغرائزية البسيطة.
وظاهرة التصدّي أوالهروب “fight or flight” هي أيضاً تختلف أشكالها عند الإنسان. فهناك حالات كثيرة نُؤْثِرُ فيها مواجهة موقف خطير حتى لو علمنا بعجزنا عن حماية أنفسنا، وتلك كانت طريقة غاندي وأتباعه في مواجهة تهديدات القوات البريطانية في الهند. وفي جنوب أفريقيا يقوم الأطفال والشباب والكبار الفقراء منهم والعُزَّل بمواجهة قوات الأمن القوية المدجّجة بالسلاح وهم على علم تام بأن أجسامهم في خطر.
وعلى العكس من ذلك، من الناس مَنْ يهابون الأشياء ويخافونها مع أنها غير مؤذية لهم. فمنهم مِن يرهب المرتفعات أو يخاف من الكلاب أو النّحل أو الذباب، ومنهم من يرهب التجمّعات وآخرون يخافون أن يُتْرَكوا وحدَهم. إذاً هناك العديد من أنواع الرُّهاب (الفوبيا)، وهناك العديد من المصابين به في العالم.
أما عن الجنس فإن البشر أيضاً لا يستجيبون لقوانين غرائزهم الجنسية تماماً؛ فمنهم مَن يختار أن يبقى أعزباً، أو يفضّل العلاقة الجنسية دون إنجاب أطفال، وثمّة من يسلكون طريق “الاشتهاء المماثل” “Homosexuality”، وهناك من يجمع بين الجنس والعنف والموت. وبناءً عليه فإن السلوك الجنسي عند الإنسان معقّد جداً، وهناك صناعة ضخمة خاصة بالمواد الجنسية. وحتى لا أخرج عن الموضوع أكتفي بهذا القدْر.
وقد نتساءل لماذا كل هذا الإختلاف في تجاوب الإنسان لغرائزه الإساسية؟ فالإجابة طبعاً نجدها في الحقيقة بأن الإنسان يمتلك الوعي والإرادة. فنحن نمتلك أهليّة الإختيار، وخَياراتنا تلك لا تتأثر فقط بغرائزنا بل بوَعْيِنا ومشاعرنا ومعرفتنا أيضاً. ففي مرحلة طفولتنا ثم في بلوغنا اكتسبنا من الخبرات ما يساعدنا على تكوين نظرة شاملة وأحاسيس خاصة عن أنفسنا وعن عالمنا وعلاقتنا بهذا العالم. فوجهات نظر الناس عن هذا العالم مختلفة تماماً؛ فمنهم من يراه مكاناً يعُجُّ بالأخطار وآخرون يرونه آمناً. بعضهم يتجنّب الإختلاط بالناس وآخرون مندمجون معهم تماماً. هناك من يشعر أن العالم لا يفيده وآخرون يعتبرون العالم ميداناً للتحدّي والفُرص.
هذه الرّؤَى العامة وغيرها إنما تؤثّر تأثيراً كبيراً في أسلوب حياتنا وكيف نتفهّم أنفسنا ونحدّد علاقاتنا، وبها أيضاً نكتسب مشاعر خاصة تجاه “النفس” وتجاه العالم. فبينما نحن ننمو ونكبُر فإننا بذلك نرفع من قدراتنا بشكل هائل بحيث تتجاوز مستوى غرائزنا المكوِّنة لوجودنا ونبتعد عن جانبنا الحيواني إلى الجانب الإنساني ويشرع العقل في اكتساب المزيد من القوة وموهبة المبادرة، وهنا يتطوّر نوع من الصراع بين العقل والجسم وهو ما يقع في قلب مساعي الإنسان في حياته ويعدّ السبب في كثير من معاناته. من إفرازات هذا الصراع كان ظهور المدارس المادية وتطوّرها ومدارس علم النفس الفكري وأساليب الحياة المتضاربة في عالمنا المعاصر. وفي سبيل إدراك الأسباب الجذرية لهذه الحالات، وفي محاولة منا لإيجاد مدخل عام ومتكامل لفهم النفس البشرية، علينا أن نتفهم طبيعة أحاسيسنا وكيف تعمل. إنه أمر لا بدّ منه لأن عواطفنا تلعب دوراً هاماً في جميع أعمالنا ونشاطاتنا.
الغرض من الأحاسيس
نحن على دراية بأحاسيسنا وعواطفنا(23) لأننا جميعاً نمارسها ونختبرها. فعندما نتحدّث عن الأحاسيس فمن العادة أن نفكر بالسئّ منها والجيد؛ فالحزن والغضب والخوف والقلق نعتبرها أحاسيس سيئة، بينما نرى الغبطة والرأفة والإطمئنان جيدة، إلا أن هذا الوصف في حقيقة الأمر لا يساعدنا في فهم طبيعة أحاسيسنا ودورها في حياتنا. وعلى ذلك فإن التعرّف على تعريف للأحاسيس لا شك سيساعدنا، وحتى نصل إلى غايتنا هذه دعونا نلقي نظرة على بعض خصائص الأحاسيس ووظائفها.
نقول أولاً بأن الأحاسيس هي تجارب إنسانية واعية، فلا إحساس بدون وعي. فعندما نحس بشيء فذلك لأننا واعون بذلك الإحساس، وإذا كنا في غيبوبة أو تحت تأثير المخدّر العام سنفقد الإحساس لأننا فقدنا الوعي. فحتى تحسّ يلزمك أن تكون واعياً.
وثانياً، فإن تلك الأحاسيس نمارسها جسمانياً وعقلياً؛ فنحن لا ندرك إحساسنا بأسلوب ما فقط، بل ونمارس ذلك الإحساس جسمانياً. فمثلاً عندما نرتعب ندرك بأننا خائفون وفي الوقت نفسه نشعر بتغيير قد حصل في جسمنا؛ فتزداد نبضات القلب سرعةً وقد نبدو شاحبي اللون ونرتجف أحياناً، وقد يضطرنا الأمر إلى الهرب وعندها نمارس العديد من التغييرات الجسمانية والفسيولوجية. وبالإجمال فإن للأحاسيس غرضاً وعملاً للقيام به بشكل كامل. فهناك من الإحساس ما يخبرنا بالألم أو بالوهن، ومنها مَن يُنذِرنا بخطر يهددنا مثل أحاسيس الغضب والخوف والقلق. وهناك أحاسيس أخرى تخبرنا بأمور طيبة وإليها يُعْزَى إحساسنا بالسلامة والغبطة والإطمئنان.
ففي دراستنا للأحاسيس يتضح لنا شيئاً فشيئاً أنها في حقيقة الأمر تجارب إنسانية مركّبة. فالإنفعالات الإنسانية (الأحاسيس) إنما هي مركّبة لأنها تشكّل جسراً يوصِل بين غرائزنا وقوانا الذهنية. فالأحاسيس هي نتيجة التفاعل بين الجسم والعقل، وهي جانب للنفس لا غنى عنه ولها خصائص جسمانية وأخرى فوق الطبيعة وقوانينها “Metaphysical” وتؤثّر على الجسم والعقل معاً.
بعض هذه الأحاسيس في أصلها جسماني والآخر نفساني (سيكولوجي)، وهناك مجموعة ثالثة تجمع بين الإثنين. ومع ذلك فإن ما يجدر ذكره أن الأحاسيس الجسمانية في حياة الإنسان يمكن أن تصبح أحاسيس نفسية (سيكولوجية)، والأحاسيس النفسية يمكن أن تنحصر في الطابع الجسماني فقط. ومع أن هذا التصنيف غير صارم وجامد، إلا أنه يمكنه أن يكون عاملاً مساعداً في فهم جانب هام جداً من وجودنا.
إن أحاسيسنا البدائية مرتبطة بغرائزنا التي تختص بالحفاظ على أنفسنا متفادين الألم ومستمتِعين بالملذات. فلدينا الأحاسيس الخاصة بالجوع والخوف والألم والمتعة لتخلق عندنا الحوافز للبحث عن الطعام وعلاج للألم وتفادي المواجهة والتصدّي وتجنّب مواقع الخطر ثم في إرضاء أنفسنا. كل هذا بالطبع نابع من طبيعتنا التناسلية، فإذا ما انحصرت حياتنا في هذا المستوى من الأداء تحوّل وجودنا إلى وجود حيواني. إذ ليس مهمًّا لدينا أن تكون الحياة على هذه الدرجة من السهولة والراحة، وما يهمنا فيها أنها لا تحقق لنا تطلعاتنا الإنسانية الأساسية وما نصبو إليه فنظل نشعر بعدم الرضا والإشباع، وفي الحالات العادية المزدهرة سنبحث في النهاية عن مستوى أعلى لإشباع تطلعاتنا. ولا شك أن التحوّل من النمط الحيواني لحياتنا إنما يحتاج إل نضوج، والنضوج هنا مؤلم. فلا سبيل أمامنا سوى تحمّل المسؤولية وأن نجعل إرضاء أنفسنا وإشباع رغباتنا في المقام الثاني فنواجه تحدّيات الحياة أمامنا بشجاعة، ونضبط شهواتنا ونعمل على توجيه رغباتنا نحو إتجاهات جديدة.
إنها مهامّ صعبة ولكنها ميدان لممارسة عواطف وأحاسيس إنسانية خاصة وفريدة. فإذا ما واجهَتْ مساعينا في النموّ مشاكلُ وعقباتٌ تنتابنا في العادة مشاعر القلق والخوف والغضب وقد نُصاب بالإحباط والحزن فنشعر بالتعاسة مع أنفسنا والآخرين أو مع الآخرين فقط، وحتى قد نُصاب بالشك والإرتياب ممّن حولنا من الناس على أنهم ضدّنا. ولكن حالما نبدأ في النموّ والتطوّر فإن الأحاسيس السلبية تُستَبدَل في النهاية بأخرى من الطمأنينة واليقين فنغدو خلاّقين متحلّين بالثقة والشجاعة تغمرنا السعادة.
فإذا أردنا لأنفسنا أن نحقق هذا التحوّل علينا أن نقتلع أسباب سخطنا واستيائنا من جذورها. لقد شاعت في السنوات الحديثة فكرة تعلُّم الأساليب المؤدّية إلى التخلص من أحاسيسنا غير المرغوب فيها. فالكثير يحاولون مثلاً أن يتعلموا كيف يتغلّبون على الشّدّة والضيق “Stress”، فالضيق مِثْلُ جميع الأحاسيس له مكوّناته المتعلقة بالجسم، وعملية التغلّب عليه تلك ركّزت على تمارين مثل النشاط الرياضي والإرتجاع البيولوجي “Biofeed-back” والإسترخاء. فهي وسائل تساعدنا في تخلّص الجسم من الإحساس بالضيق، إلا أن تأثير هذه الوسائل مؤقت ما لم تُعالج فيها الأسباب السيكولوجية (النفسية) والروحية. من المهم جداً أن نعرف أولاً مسببات الضيق؛ فقد تكون راجعة إلى خلاف شخصي، أو إلى ما يُنذر بالخطر مثل المرض، أو إلى أزمة روحية مثل علمنا بأن شخصاً ما يعيش حياة لا معنى لها. لذلك فإن التركيز والإسترخاء وحدهما لا يكفيان، كما أن العقاقير المهدّئة “Tranquilizers” لن تستأصل أسباب الضيق جذرياً، ولن تجلب العقاقير المضادّة للإحباط وحدها سعادة دائمة. فهذه الحالات كلها لها أسبابها الجسمانية والنفسية بمثل ما لها من أسباب روحية أيضاً. ففي تعاملنا مع أحاسيسنا علينا أن نتأكّد أن جميع هذه الأسباب قد أُخِذت بعين الإعتبار، إذ في هذه العملية نرتقي درجة أعلى في المعرفة الذاتية التي تشمل النواحي الجسمانية والنفسية والروحية لحياتنا.
وخلاصة القول، فإن الجانب الأهم في تكوين الطبيعة الإنسانية هو جانبها الروحي، وكوجودات إنسانية فإننا نمتلك طاقات المعرفة والمحبة والإرادة وخاصيات أرواحنا التي تميّزنا عن الحيوان. ورغم التشابه بيننا وبين الحيوانات الراقية، فإن العقل البشري هو الوحيد الذي يتميّز بالقدرة على الإستجابة لمطالب النفس الخاصة. هذا التداخل المشترك بين الجسم والنفس هو إحساس الكينونة “Selfhood”، وأساس كونك فرداً مميّزاً. وفي عالم النفس فإن قوى العقل من قبيل الخيال والفكر والإدراك والقوة الحافظة تنسجم كلها مع حواسّنا الجسمانية: السمع والبصر والشمّ والذوق واللمس، وهنا تلعب الأحاسيس دورها الحاسم في التنسيق والتكامل بين غرائزنا وأفكارنا.
رأينا كيف أن النفس البشرية هي نتاجٌ متفرّدٌ لتداخُل وتفاعل الجسم والروح، إلا أنه بالرغم من هذا المبدأ البديهي، فإن هذا التكامل ليس منظومة مغلقة ومُقدّرة، فهو بكل بساطة يسمح للكائن البشري أن تكون نفساً إنسانية، أما كيف تكون عليه تلك النفس فإنه متروك لإختيارنا وهو خيار عادة ما يكون صعباً. (من كتاب-سيكولوجية الروحانية- د. حسين ب. دانش)