منزلة التوكل
من منازل إياك نعبد وإياك نستعين ( منزلة التوكل )
قال الله تعالى (( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين )) المائده 23
وقال (( وعلى الله فليتوكل المؤمنون )) إبراهيم 11
وقال (( ومن يتوكل على الله فهو حسبه )) الطلاق 3
وقال عن أوليائه (( ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير )) الممتحنة 4
وقال لرسوله (( قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا )) الملك 29
وقال لرسوله (( فتوكل على الله إنك على الحق المبين )) النمل 79
وقال له (( وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا )) النساء 81
وقال له (( وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده )) الفرقان 58
وقال له (( فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )) آل عمران 159
وقال عن أنبيائه ورسله (( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا )) إبراهيم 12
وقال عن أصحاب نبيه (( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل )) آل عمران 173
وقال (( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون )) الأنفال 2 والقرآن مملوء من ذلك .
وفي الصحيحين في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد حين قالوا له إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل آل عمران 173
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول (( اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون ))
وفي الترمذي عن عمر رضي الله عنه مرفوعا لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا
وفي السنن عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من قال يعني إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له هديت ووقيت وكفيت فيقول الشيطان لشيطان آخر كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي ))
التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة فإن الدين استعانة وعبادة فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل وكثرة حوائج العالمين وعموم التوكل ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار والفجار والطير والوحش والبهائم فأهل السموات والأرض المكلفون وغيرهم في مقام التوكل وإن تباين متعلق توكلهم فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في حصول ما عليه في الإيمان ونصرة دينه وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه وفي محابه وتنفيذ أوامره
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في استقامته في نفسه وحفظ حاله مع الله فارغا عن الناس ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله منه من رزق أو عافية أو نصر على عدو أو زوجة أو ولد ونحو ذلك
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالبا إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه بل قد يكون توكلهم أقوى من توكل كثير من أصحاب الطاعات ولهذا يلقون أنفسهم في المتالف والمهالك معتمدين على الله أن يسلمهم ويظفرهم بمطالبهم.
فأفضل التوكل التوكل في الواجب أعني واجب الحق وواجب الخلق وواجب النفس وأوسعه وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج فى مصلحة دينية أو في دفع مفسدة دينية وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ودفع فساد المفسدين في الأرض وهذا توكل ورثتهم ثم الناس بعد في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم فمن متوكل على الله في حصول الملك ومن متوكل في حصول رغيف ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله فإن كان محبوبا له مرضيا كانت له فيه العاقبة المحمودة وإن كان مسخوطا مبغوضا كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه وإن كان مباحا حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه إن لم يستعن به على طاعاته والله أعلم .
فلنذكر معنى التوكل ودرجاته وما قيل فيه :
قال الإمام أحمد التوكل عمل القلب ومعنى ذلك أنه عمل قلبي ليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح ولا هو من باب العلوم والإدراكات ومن الناس من يجعله من باب المعارف والعلوم فيقول هو علم القلب بكفاية الرب للعبد ومنهم من يفسره بالسكون وخمود حركة القلب فيقول التوكل هو انطراح القلب بين يدي الرب كانطراح الميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء وهو ترك الاختيار والاسترسال مع مجاري الأقدار قال سهل التوكل الاسترسال مع الله مع ما يريد .
ومنهم من يفسره بالرضى فيقول هو الرضى بالمقدور قال بشر الحافي يقول أحدهم توكلت على الله يكذب على الله لو توكل على الله رضي بما يفعل الله
وسئل يحيى بن معاذ متى يكون الرجل متوكلا فقال إذا رضي بالله وكيلا ومنهم من يفسره بالثقة بالله والطمأنينة إليه والسكون إليه
قال ابن عطاء التوكل أن لا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدة فاقتك إليها ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفك عليها .
قال ذو النون هو ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة وإنما يقوى العبد على التوكل إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه
وقال بعضهم التوكل التعلق بالله في كل حال وقيل التوكل أن ترد عليك موارد الفاقات فلا تسمو إلا إلى من إليه الكفايات
وقيل نفي الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك وقال ذو النون خلع الأرباب وقطع الأسباب يريد قطعها من تعلق القلب بها لا من ملابسة الجوارح لها
ومنهم من جعله مركبا من أمرين أو أمور فقال أبو سعيد الخراز التوكل اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب يريد حركة ذاته في الأسباب بالظاهر والباطن وسكون إلى المسبب وركون إليه ولا يضطرب قلبه معه ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصلة إلى رضاه
وقال أبو تراب النخشبي هو طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والطمأنينة إلى الكفاية فإن أعطى شكر وإن منع صبر فجعله مركبا من خمسة أمور القيام بحركات العبودية وتعلق القلب بتدبير الرب وسكونه إلى قضائه وقدره وطمأنينته وكفايته له وشكره إذا أعطى وصبره إذا منع .
قال أبو يعقوب النهرجوري التوكل على الله بكمال الحقيقة كما وقع لإبراهيم الخليل عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام أما إليك فلا لأنه غائب عن نفسه بالله فلم ير مع الله غير الله وأجمع القوم على أن التوكل لا ينافي القيام بالأسباب فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد
قال سهل بن عبدالله من طعن في الحركة فقد طعن في السنة ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان فالتوكل حال النبي والكسب سنته فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته وهذا معنى قول أبي سعيد هو اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب وقول سهل أبين وأرفع
وقيل التوكل قطع علائق القلب بغير الله
وسئل سهل عن التوكل فقال قلب عاش مع الله بلا علاقة
وقيل التوكل هجرالعلائق ومواصلة الحقائق
وقيل التوكل أن يستوي عندك الإكثار والإقلال وهذا من موجباته وآثاره لأنه حقيقته
وقيل هو ترك كل سبب يوصلك إلى مسبب حتى يكون الحق هو المتولي لذلك وهذا صحيح من وجه باطل من وجه فترك الأسباب المأمور بها قادح في التوكل وقد تولى الحق إيصال العبد بها وأما ترك الأسباب المباحة فإن تركها لما هو أرجح منها مصلحة فممدوح وإلا فهو مذموم وقيل هو إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية يريد استرسالها مع الأمر وبراءتها من حولها وقوتها وشهود ذلك بها بل بالرب وحده
ومنهم من قال التوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه
ومنهم من قال هو التفويض إليه في كل حال
ومنهم من جعل التوكل بداية والتسليم واسطة والتفويض نهاية
قال أبو علي الدقاق التوكل ثلاث درجات التوكل ثم التسليم ثم التفويض فالمتوكل يسكن إلى وعده وصاحب التسليم يكتفي بعلمه وصاحب التفويض يرضى بحكمه فالتوكل بداية والتسليم واسطة والتفويض نهاية فالتوكل صفة المؤمنين والتسليم صفة الأولياء والتفويض صفة الموحدين التوكل صفة العوام والتسليم صفة الخواص والتفويض صفة خاصة الخاصة التوكل صفة الأنبياء والتسليم صفة إبراهيم الخليل والتفويض صفة نبينا محمد وعليهم أجمعين هذا كله كلام الدقاق
ومعنى هذا التوكل اعتماد على الوكيل وقد يعتمد الرجل على وكيله مع نوع اقتراح عليه وإرادة وشائبة منازعة فإذا سلم إليه زال عنه ذلك ورضي بما يفعله وكيله وحال المفوض فوق هذا فإنه طالب مريد ممن فوض إليه ملتمس منه أن يتولى أموره فهو رضى واختيار وتسليم واعتماد فالتوكل يندرج في التسليم وهو والتسليم يندرجان في التفويض والله سبحانه وتعالى أعلم .
وحقيقة الأمر أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا بها وكل أشار إلى واحد من هذه الأمور أو اثنين أو أكثر :
فأول ذلك معرفة بالرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل قال شيخنا رضي الله عنه ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف ولا من القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يستقيم أيضا من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات .
المصدر : مدارج السالكين لابن القيم .