مهاراتٌ نفسية في آيات قرآنية
د. ياسر بكار
عندما نزلت كلمةُ (اقرأ) على النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- كانت تحملُ إشارةَ الانطلاق لعملية واسعة نحو تغيير النفس وإصلاحها، ومع تدبر آيات القرآن، سترى واضحاً كيف يغيرُ حياةَ المسلم ويطورُ شخصيتَه بما فيه من العبر والحكم العظيمة.
لقد عمل الإسلامُ منذ اليوم الأول على إصلاح النفوس، وجعله أساس كل صلاح وتغيير؛ كما ورد في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
وسبحانَ الله!.. ما أعظمَ كلامَه!.. فكلُّ متأمل في تاريخ تطور الحضارات ونمو المدنيات يجدُ أن العاملَ الأقوى في نشأتها كان معتمداً على الإنسان الصالح صاحبِ المبدأ والخلق والدين. وهذا هو هدف القرآن في تربية أفرادٍ صالحين أقوياء.
تأمل قولَ الله -عز وجل-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]
أي: لا يدفعنكم كرهُ شخص ما على ظلمِه أو الاعتداء على حقوقه. وهنا يقرُّ القرآنُ واحدة من المهارات النفسية الراقية، وهي القدرةُ على عزل المشاعر عن السلوك.. والحرص على منع تأثر سلوكنا بمشاعرنا. فلو كرهت شخصاً ما [مشاعر] يجب ألا يقودك ذلك إلى ظلمه في التعامل معه [سلوك]، بل أمر الشارعُ بالعدل معه، ووصف ذلك بوصف عظيم وهو التقوى.
دعني أضرب لك مثالاً:
تخيل أنك مديرُ قسم التوظيف في شركة لتسويق المنتجات الغذائية، ورغبةً منك في إحصان نفسك، تقدمتَ لخطبة فتاة من عائلة ما، وكانت الموافقة، وسارت الأمور على أفضل ما يرام، وقبل موعد الزواج بأسبوع وبعد أن جهزت كل ما يلزم لإتمام الزواج الميمون، يتصل بك والدُها ويخبرك بأنه صار لا يرغب في إتمام الزواج، والسبب غير واضح. أصبت بحزن وضيق شديد.
وبعد بضعة أشهر يطلب منك مديرُ الشركة أن توظف مديراً مالياً على مستوى عالٍ من المهارة حتى ينقذ الشركة من الأزمة التي تمر بها، وبالفعل أعلنت عن هذه الوظيفة، وتقدم الكثير من المرشحين، وبعد دراسة كل الطلبات وقع اختيارُك على أبرزهم ممن تعتقد أنه الأفضل لإنقاذ الشركة من أزمتها، وهنا كانت المفاجأة؛ فالشخص الذي تم اختياره للمنصب المرتقب هو أخُ تلك الفتاة التي خطبتها قبل بضعة أشهر، عندما تكتشف ذلك يغلي الدم في عروقك وتستعيد كل تلك الذكريات السيئة التي حدثت معك.
والآن أود منك أن تسأل نفسك بصدق: كيف ستتعامل مع هذا الموقف؟ هل ستستطيع التغلب على مشاعرك السلبية تجاه هذه العائلة، وما فعلته معك في سبيل تحقيق مصلحة الشركة. لقد طرحت هذا السؤال على العديد من المتدربين في دورات (الذكاء العاطفي) التي أقدمُها، وكان الرد السائد هو: (لا)، بل ذهب بعضُهم إلى القول: سأوظفه حتى أريه نجوم السماء في رابعة الظهيرة..!!
وهنا تأتي قيمةُ المهارة التي تعلمنا إياها الآيةُ القرآنية، التي تأمرُنا بأن نعزل مشاعرنا التي نحملها تجاه الأشخاص والأشياء عن أسلوب تعاملنا معهم، وتطلب منا أن نراقبَ تأثيرَ مشاعرنا السلبية على قراراتنا وسلوكنا، وهذا تماماً ما يأمرُ به الشارع في مواضعَ وأمثلة أخرى، فنحن نعلم أن القاضي مأمورٌ ألا يحكم بين الناس وهو غضبان كما ورد في الأحاديث الشريفة حتى لا يؤثرَ شعورُه بالغضب في حكمه بين الناس بالعدل. وهذا ما ينطبق على الكثير من المهن الأخرى؛ فالمدرس مثلاً مأمور بأن يعدل في تقدير درجات طلابه حتى لو كان غاضبًا من مديره أو من أي شخص آخر، وكم رأينا من المدرسين مَن يضع غضبه وحنقه من عمله في طلابه..!!
وهذا الأمرُ ينطبق أيضًا على طابع الإدارة المنتشر في عالمنا العربي الذي يتسم بـ(المزاجية)؛ فالمديرُ عندنا يعملُ حسب حالته النفسية.. ففي ساعات الرضا، تحل البركات والخيرات والنعم، أما لو عكّرت زوجتُه -لا قدر الله!- في المساء هذا المزاج، فسيدفعُ الموظفون ثمنَ ذلك في اليوم التالي غالياً.. إذ يعلو الصياحُ، وتكثر العقوبات، ويصبح رفض أي طلب هو الأساس. ولذا كان لزاما على الموظف -والحالة هذه- أن يتقن اختيارَ الوقت المناسب للمطالبة بحقوقه! فلا بد أن تسأل: (كيف مزاجُ المدير اليوم.. راضي.. ولا ما هو راضي.. يعني أقدم على إجازة اليوم أو أؤجلها ليوم غد!). إنه إخفاق نفسي كبير.
خـتاماً:
القدرةُ على مراقبة مشاعرنا السلبية وعزل تأثيرها على سلوكنا وقراراتنا هي مهارة ضرورية للنجاح.. أقول: هي مهارة، وهذا يعني أنها لا تنمو إلا مع الوقت والممارسة والتدريب وقبول الإخفاق مرات ومرات.