مهما حاز المرء من علم فمن دون تربية للنفس و تزكية لها لا يبقى لهذا العلم أثراً على نفسه أو غيره و إن بقي على الألسنة حروفاً و جملاً تتردد ، إن ظن بها أنه يعلو ، فإنما جبالٍ من الوهم يرتقيها و لكن رأسه على أسفل ! .
و العلم وقود التربية يؤمن لها ذلك الوهج المتلألئ لذاته المضيء لغيره و لمن حوله سبلاً قد مهدها لهم بجميل حرفه و عذب لفظه و رقي كلماته و سحر بيانه ، فمن ذاق الإبداع و تنعم حقاً في روضته يأبى عليه قلمه أن يخط و لو الذرة من حرف يجرح و لا يداوي …..
تتجافى كلماته عن مضاجع الأذى و النيل من الآخرين حيث السكنى في قلوب ما عرفت للجمال طريقاً و إلا فعلى من ادعى البينة .
الإبداع دوماً قرين التي أصلها ثابت لأِنه يصدر عن نفس كريمة تسخو و تنفق و لا تخشى من ذي العرش إقلالاً تعود بفضل الزاد لضمان الزيادة (لئن شكرتم لأزيدنكم) ، مهما حاولت المجتثات من فوق الأرض أن تتسلل إليها في لحظات عابرات ما يخلو منها حتى ذوي العقول و الألباب ، فإذا باليمين لا تطاوع و تشتد قبضة الأنامل ، ويتجمد المداد في القلم ، فكيمياء ذوبانه لا تعمل إلا في أجواء دافئة من الكرم والصفح و العفو وحسن الظن و التماس السبعين واحداً تلو الآخر ،
أما في أجواء الشح حيث الحالة النفسية الملازمة للبخل فإن تلك التفاعلات مهما اشتدت ، لا تظفر من هذا المداد بأي نتيجة .
من عرف الإبداع حقاً ، حروفه عنده كقطرات غيث تبقى نقية ما بقيت في سماء إبداعه ، فإذا ما لمس تهدد هذا النقاء إذا نزلت في أرض التعليقات ، فإنه يظن بها ،
يوقن أن التخاطب ليس هو الوسيلة الوحيدة للإرسال ، قد يكون الصمت أقوى و أكرم (فليقل خيراً أو ليصمت) ، و لكنه يحتاج إلى أجهزة استقبال في ذواتنا على درجة عالية من الإحساس و الفهم .
المبدع له من الحكمة في تعليقاته أوفر الحظ و النصيب ، فلا يصادم الآخرين في مشاعرهم مهما قويت عنده اللاقناعة و اشتدت ، فإذا ما سقطت الحروف منه سهواً لشدة غيرته على دينه و شغفه بحب أمته فمن المفترض أن يبدأ العد التصاعدي للسبعين ، لا أن يُقابل بألسنةٍ حداد تجعل الحليم حيراناً ، أكان ما كان إبداع أم خداع ؟
إذ كيف يحلق بك عالياً في سماءٍ ما ، ثم يهوي بك أخرى في مكان سحيق ، تارة يبهر ناظريك بألوان زهور تحيل الصحراء خضرة نضرة ، يتفنن في زراعتها و تنسيقها ، فإذا ما عَمِدَ إلى تقليم أشجار وارفة الظلال من بعض أوراق لم تأخذ حقها من الرعاية و السقيا فاصفرت و ذبلت ، و كفى بصاحبها نبلاً أن تعد له تلك الأوراق عداً ، و بدلاً من أن تتوجه أدوات البناء لنقد المقال ، إذا بالإبداع جثة هامدة تحت معاول هدم الذات. والأدب دوماً لقلم المبدع حبه كان لزاماً .
الحقيقة ، و إن خبا ضوُءها و هدأ بريقُها ، صنو الإبداع ، البحث عنها ، لا عن الزيف المبهرج الألوان ، مراد المبدع ، يجوب سماء هذا الكون تجذبه الفكرة فهي همه ، قد يبحث عن الشخص ، و الاسم عنده أداة تعريف .
فإذا ما وقع منه المدح أو التقويم لا الذم ، كان بحق و اعتدال دون إسراف و لا مخيلة ، لا يكسر به حاجزاً و لا يتعدى حدوداُ ، فينساب منه مهذباً راقياً فيطمأن إليه القلب و تسكن النفس ، فإذا العمل بلا فتور و الإخلاص بلا التفات و اليقين بلا تردد .
قد لمس بأب و حنكة مكامن الإبداع في عقل المتلقي و شعوره بفكرة يطرحها أو رأي يناقشه أو ثغرة يسدها أو رؤية يصحهها أو خطأ يصوبه أو صواباً فيتممه ،
فلا تعدم من العسل الشفاء فضلاً عن طيب المذاق .
المبدع و إن اختلف مع من حوله من السلف كانوا أم من الخلف ، شافعياً كان أم حنبلياً ..الخ ، الإبداع عنده هو الاقتداء بأولئك الأئمة بأدبهم و أخلاقهم عند اختلافهم ، و ليس بفقههم و إجماعهم فقط .
المبدع في كتاباته أو تعليقاته يكتب وفق خطة محكمة و أهداف محددة و فكرة يسعى جاهداً لإيصالها ، بينه و بين العشوائية و الارتجالية عداءٌ مستحكم لا يزول ،
يطيل الفكر فيما يرد إلى عقله ، و يقلب النظر دوماً فيما صاغه قلمه ، ما كان همه يوماً تسويد الصفحات و سيل المشاركات ، يملك الأوراق بالكيف و لا تملكه بالكم ، لا يكرر نفسه ، الحرف لديه أسير ، إما أن يطلقه بخبر يقين ، أو هو عنده مكرم المثوى عسى أن ينفعه يوماً ما .
المبدع جريئة معانيه ، حييةٌ متأنقةٌ ألفاظه ، مُطلقاً عنانها ، مانحاً كل قارئ حرية الفهم و الاستدراك ، فلا يشعر بالتضييق و الحصار .
المبدع كلما ازداد تألقاً ازداد حرصه ، و لا يأنف ، أن يأخذ من حين لآخر خطوة إلى الوراء حتى لا يحرق فكرته بسرعة عرضها و استهلاكها ، يقف و يراجع ماذا قدم و ماذا يؤخر .
المبدع حريص على كل ما من شأنه أن يمنحه التميز في خُلقه و طرحه و نقده و صمته ! هو في المائة الراحلة ، في حله و ترحاله يترك لك من الفعل و الأثر ما لا تجد له شبيهاً و لا مثيلاً .
المبدع يملك من المرونة ما يستوعب به الآخر ، مشاعره النفسية عند الاختلاف كما هي عند الاتفاق و إلا ما جدد و أبدع .
المبدع لا يتعمد الصدام مع المحيط الذي يحيا فيه و إن بدا للآخرين ذلك ، و لكنه يرفض التقليد و يحن دوماً إلى التجديد حيث يجد نفسه و قلمه ، حيث يضع لبنة في صرح البناء لمجد أمته ،
حيث يصنع الحياة .