وما الحياة الدنيا الا ما الغرور
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
إنها خمس أوامر ونواهٍ من الله عز وجل:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} القصص: 77،
وهي المسألة العقائدية التي لا تنفصل عند المؤمن ما بين الدنيا والآخرة , وأن طلب الدنيا أن كان للدنيا فهو البوار والخسران والحسرة الدائمة على ما فات أو على ما يمكن الوصول إليه أو على ما غفل عن الوصول إليه أو على ما لا يمكن الوصول إليه أو على ما لا يمكن إبقاؤه والمحافظة عليه وهذه دائرةالقلق المتجدد ما بين غم وهم أو ما بين حسرة وحسرة يعيشها من كانت الدنيا همه, فكلما تقدم به العمر فقد من نفسه أمور ومتع….. وإذا حصل على شيء فقد شيء مقابله , فهذا حاله ما بين قلق وحسرة وندم.
لقد كانت العقيدة الإسلامية هي الجسر الواصل ما بين قبل الخلق إلى الدنيا وما بين الدنيا إلى الآخرة, وهذا هو الربط العقائدي عند المسلم كونه يعيش الدنيا طلباً للآخرة وعيشه في هذه الدنيا في كل حركة وسكنة وفق أوامر الله ونواهيه….ومن هنا بدأ الخطاب للمسلمين {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} وكان الفهم أن من أعطاه الله القوة واجب عليه أن يجعل من قوته قارب نجاةٍ له لا أن يكون وبالاً عليه
فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
قالالحياة الدنيا الغرورأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)
فهذه الدار الفانية سميت بالدنيا لدنوها أو لقلة متاعها وبقول الإمام النووي لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق الغريب في غير وطنه
وفي هذا المعنى وصيته صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها
( إذا أرادت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب و وإياك ومجالسة الأغنياء, ولا تستخلفي ثوباً حتى ترقعيه ) رواه الترمذي والحاكم والبيهقي
ويقول عروة معلقاً على هذا : فما كانت عائشة تستجد ثوباً حتى ترقع ثوبها وتنسكه, ولقد جاءها يوماً من معاوية ثمانون ألفاً فما أمسى عندهم درهم, فقالت لها جاريتها فهلا اشتريت لنا منه لحماً بدرهم ؟؟ فقالت لو ذكرتيني لفعلت.
إن نظرة الإسلام إلى المال لا يخرج عن إطار كونه وسيلة لإشباع الحاجات فمن إطار الأحكام الشرعية ولا يتعداها مطلقاً ينتفع به المسلم الانتفاع الشرعي افناء أو إجارة أو تملكاً أو إعارة , ولا ينظر إلى المال على أنه غاية ولا يطلب المال لذاته وإنما يطلب المال ضمن إطار كونه وسيلة تشبع الحاجات لا كونه غاية من الغايات
وصدق الله العظيم {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}آل عمران: 14
فهـذه وغيرهـا مـن المتـع يجـري عليها وعليـنا الفناء شئنا أم أبينا {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }الكهف: 46
لقد وصف لنا ربنا عز وجل الحياة وصورها بما نعقل ونرى فقال{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}الحديد: 20
وروى أحمد عن الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ( يا ضحاك ما طعامك..؟؟ قال يا رسول الله اللحم واللبن قال( ثم يصير إلى ماذا)؟؟ قال إلى ما علمت قال(فإن الله تعالى ضرب ما يخرج ابن آدم مثلاً للدنيا) وصدق الله العظيم {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى}النساء: 77
إن النهي عن حب الدنيا والتعلق بها وكأنها هي الباقية الخالدة لكون هذا الحب وهذا التعلق يشغل الإنسان عن أمور الآخرة وما هو مقدم عليه
وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم
( من أحب دنياه أخر بآخرته, ومن أحب آخرته أخرّ بدنياه, فآثروا ما يبقى على ما يفنى) رواه أحمد والبزار وابن حيان والحاكم وغيره
فكان المطلوب أن يأخذ الإنسان من هذه الحياة الدنيا ما يكفيه عن الطريق التي يمنها الشرع دون طمع ودون تعلق وحرص حتى لا يكون لها مكان في قلبه , ونسأله أن تكون الدنيا في أيدينا ولا تكون في قلوبنا فقد روى الطبراني بإسناد حسن أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال في هذا المعنى ( من اشرب حب الدنيا التاط منها بثلاث: شقاء لا ينفذ عناه, وحرص لا يبلغ غناه وأمل لا يبلغ منتهاه فالدنيا طالبة ومطلوبة, فمن طلب الدنيا طلبته الآخرة حتى يدركه الموت فيأخذه ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه) التاط: التصق وتعلق وروى الحاكم
وقال صحيح الإسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال::
( إن الله ليُحمي عبده المؤمن الدنيا وهو يحبه كما تُحمون مريضكم الطعام والشراب)
وروى الطبراني في الأوسط أن رجلاً قال له: يا رسول الله… ما يكفيني من الدنيا…؟؟ فقال له(ما سد جوعتك, ووارى عورتك وإن كان لك بيت يظلك فذاك, وإن كانت لك دابة فبخٍ )وبخ كلمة تقال عند المدح والرضا وصدق الشاعر حين قال:
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق
والليالي متجر الإنسان والأيام سوق
إن العقيـدة لا تحتاج إلى عناءٍ بل هي ميسورة ومبسطة فالبعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير وصدق الله العظيم {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ }الغاشية: 17 فهذه المخلوقات أوجدها خالقها من عدم, ولكن الالتزام بأمر الله ونهيه هو الصعب حين تتزاحم الدنيا بكل ما فيها من زينة وإغراء تغوي الإنسـان وتغـريه وهـذا ما حصل حين تـزاحمت الدنيـا بزينتهـا في أعين البعض فمن رأوا قـارون في قوله تعالى {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }القصص: 79
فإن الهيئة التي بدت لهم حين خرج قارون عليهم إنما هي هيئة نعمة فقالوا إنه لذو حظ عظيم, وكانت نظرتهم للدنيا ولم تكن نظرتهم للدنيا عبر عقيدتهم فكان حكمهم على واقع شاهدوه ولم يكن حكمهم بناء على عقيدتهم واختلف الأمر كل الاختلاف حين خسف الله به وبداره الأرض فاختلف حكمهم حين اختلفت الصورة وصدق الله العظيم {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }القصص: 82 ، لقد أدركوا أمراً كانوا يعلمونه سابقاً ولكنهم لم يدركوه, وهذا الإدراك المتأخر ظاهر في قولهم {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ}القصص: 82 ،كما قال الخليلي وسيبويه والكسائي ويونس أن القوم تنبَّهوا ونُبِّهوا فقال(وي) والمتندم من العرب يقول في خلال تندمه(وي) فهم قد استوعبوا ما حدث بعد أن رأو {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} القصص: 81 وهذا من احسان الله عز وجل على عباده حين يمهلهم ولا يعجل العذاب بل باب التوبة لا يغلق حتى يغرغر العبد
فكان جملة القول في قوله تعالى {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}القصص: 77 ،في كل أمر من أمور حياتك ولا تجعل النعمة التي أنعمها الله عليك سبباً لبغيك وتجاوزك وخروجك عن أمر الله ونهيه, وأحسن في القول والفعل قولاً وفعلاً يعكس ما آمنت به واعتقدته.