لاسبيل الى جعل مستقبلك افضل من حاضرك إلا بشيئين: الأول – تخيل صورة ذهنية للمستقبل افضل من صورة الحاضر.
ثانياً: بذل الجهد واتخاذ الخطوات العملية التي تستطيع أن تحيل بها تلك الصورة الذهنية المتخيلة الى واقع متحقق.
ومعنى هذا في الواقع محاولة تحقيق شيئين اساسيين :الأول – النمو,والثاني – التقدم.
فالصورة الذهنية التي عليك أن تتخيلها يجب أن تكون مؤدية الى تحقيق النمو من جهة,والى تحقيق التقدم من جهة أخرى.ولعلنا نقرر بادىء ذي بدء أن النمو هو عملية داخلية شخصية,بينما التقدم هو عمليات موضوعية خارجية يمكن قياسها الى أشياء أو وقائع أو علاقات قائمة بالفعل في الواقع الخارجي الموضوعي.
على أننا لانجعل النمو والتقدم وجهين لحقيقة واحدة.ذلك أن النمو يمكن أن يحدث بغير ان يتحقق تقدم خارجي موضوعي.
فالنمو في ناحية مامن نواحي الشخصية يمكن أن يشكل معوقا للتقدم في إحدى النواحي الموضوعية الاجتماعية الخارجية.
خذ مثالا لذلك عاشق العلم أو الفلسفة,أو بتعبير ادق عاشق التفكير العلمي والتأمل الفلسفي.
إن مثل ذلك الشخص قد لايحقق تقدما اقتصاديا في حياته في خط متواز مع خط نموه في طريقة التفكير العلمي أو التأمل الفلسفي.
من ذلك مثلا عالم البيولوجيا بكلية الطب.إنه لايستطيع أن يتكسب من وراء علمه وان كان يشارك مشاركة جوهرية في اعداد الأطباء لممارسة مهنة الطب,فهو يرى تلاميذه يخرجون الى الحياة العملية ويحرزون تقدما اقتصاديا مرموقا,بينما يظل هو بعيدا عن الاضواء وبعيدا عن مجال الربح.
وكذا يقال عن عاشق التفكير الفلسفي,فالنمو في التفكير الفلسفي لايسير جنبا لجنب مع التقدم الاقتصادي ومع زيادة الدخل.
وهناك في الواقع مجالات جادة من العلوم لايحظى المتقن لها بالشهرة ولايحنى من وراء علمه ربحا وفيرا.
من ذلك قيام عالم في الحفريات بتأليف كتاب في علمه المتعلق ببقايا الكائنات الحية المتحجرة والمندثرة ثم قيام احد القصاصين بتأليف قصة اجتماعية مشفوعة بأحداث مثيرة من أي نوع.
إن كتاب عالم الحفريات بفرض أنه يجد له أحد الناشرين لينشره لايكاد يباع منه بضع نسخ تعد على أصايع اليد الواحدة كل عام بينما يمكن أن تطبع قصة القصاص عدة طبعات متتالية,كما يمكن ان يقيض لها النجاح بأن تمثل في السينما أو على المسرح.
فعلى الرغم من أن عالم الحفريات قد حقق نموا علميا ربما أكبر مما حققه القصاص,فإن التقدم الذي يحرزه في المجتمع تقدم محدود.
وإذا ما قسنا تقدم كل منهما فإننا نجد أن القصاص قد أحرز تقدما كبيرا في مجال الشهرة والكسب,بينما لم يحرز ذلك عالم الحفريات.
على أن الصورة المستقبلية التي يمكن أن ترسمها لنفسك في مخيلتك يجب أن تكون قائمة على أساس اختيار من جانبك فيما بين ترجيح كفة من الكفتين السابقتين :كفة النمو من جهة,وكفة التقدم من جهة أخرى.
وقد تكون الصورة المتخيلة عامدة الى تحقيق التوازن فيما بين هاتين الكفتين.
بيد أننا نعود فنؤكد صعوبة تحقيق معادلة بين حيازة النمو وبين حيازة الكسب أو الشهرة الاجتماعية.
أن الاستمرار في النمو الخبري يتعارض من قريب أو من بعيد مع ذيوع الصيت وزيادة الدخل.وقد ضربنا أمثلة كثيرة على ذلك.ذلك أن اغراءات الشهرة وزيادة الدخل قد تعملان في الغالب على عدم تكريس جل الوقت للتحصيل والانقطاع للتأمل أو بتعبير آخر لتحقيق قدر أكبر من النمو.
ولقد نبلور مانعنيه بطريقة اخرى بأن نقول إن عليك أن تحدد ماتريد أن يكون عليه مستقبلك.
فهل أنت تريد ان تكون اكثر ثراء وأكثر شهرة أم أنك تريد ان تكون اكثر علماً أو اكثر نموا في دخيلتك؟ فإذا كنت طالبا بكلية الحقوق مثلا,فإن عليك أن تقدم لنفسك هذا التساؤل: هل أريد أن أكون واحدا من مشاهير المحامين أمام المحاكم بحيث أحصل على دخل مالي مرموق,أم أريد أن أكون عالماً في الفقه أو في فلسفة القانون؟ إذا كانت إجابتك هي أنك تريد أن تصير واحداً من مشاهير المحامين,فإن ماتحدده من وسائل لبلوغ ذلك الهدف تختلف اختلافا بينا عن الوسائل التي يجب أن تستعين بها لبلوغ الهدف الثاني.
صحيح إن هناك قطاعا مشتركا بين دائرتين متداخلتين:
دائرة المحامي الشهير ودائرة الفقيه أو فيلسوف القانون.ولكن هناك من جهة أخرى ماتفترق فيه هاتان الدائرتان وتتباينان بازائه.
فانت لكي تصير محاميا شهيرا فإن عليك أن تكون على نحو ما عالما وفيلسوفا في القانون,ولكن علمك وفلسفتك في القانون تكون بقدر,ولاتكون ممتدة بنفس البعد الذي تمتد اليه معرفة الفقيه والفيلسوف القانوني.
ولعلنا نقول إن المحامي الشهير يجب ان يكون حائزا على صفات وعلى خبرات لاتتأتى للمحامي الشهير,فالمحامي الشهير يجب أن يكون خطيبا لوذعيا وأن يكون حصيفا في معاملة الزبائن,الى غير ذلك من صفات وخبرات ليس من الضروري أن يحوزها الفقيه الفيلسوف.
ومن جهة أخرى فإن الفقيه الفيلسوف يجب أن يكون متمكنا من أكثر من لغة أجنبية واحدة,بل يجب أن يكون متمكنا من بعض اللغات القديمة كاليونانية واللاتينية وأن يكون متمكنا من القانون المقارن وأن يكون عارفا بأصول القانون ومصادره وتطوره,وقد يقضي الليالي في تتبع أحد النصوص في الوثائق القديمة التي قد تمتد تاريخيا الى حكم بابل أو الى عهود الرومان أو حتى عند الفراعنة.
وعلى الفقيه الفيلسوف أن يكرس الوقت للعلم فيما لايدر عليه اي أرباح مالية,بل قد يكلفه ذلك تضحيات مادية.
لقد يعمد الفقيه الفيلسوف الى قضاء الوقت في دور الكتب أو قد يشد الرحال الى بلد كتركيا لكي يقوم هناك بدراسة بعض المخطوطات التي لهل صلة بمبحثه القانوني الفقهي.
وعليك بعد أن تحدد موقفك فيما يتعلق بقضية النمو والتقدم,وقد وقع اختيارك على كفة من هاتين الكفتين المتباينين أن تضع الخطة لتنفيذ صورتك الذهنية التي تخيلتها.
وعليك في هذه المرحلة الثانية أن تختار لتحقيق صورتك الذهنية المتخيلة الوسائل الكفيلة بالتحقيق وإحالة مافكرت فيه كصورة ذهنية الى حقيقة واقعية مطبقة على الواقع الحي ولقد يقع الخطأ في تخير الوسائل المناسبة لتحقيق الصورة الذهنية المتخيلة.
خذ مثالا لذلك بأن يهمل من يريد ان يكون محاميا مشهورا تدريب نفسه على النطق السليم أو على الخطابة اللوذعية,أو أن يهمل من يريد أن يكون فقيها أصول البحث العلمي أو دراسة اللغات الاجنبية أو اللغات القديمة المطلوبة للبحوث الفقهية والفلسفية.
ومن الخطأ الجسيم أن ننسى مايجب أن يكرسه المرء من وقت وجهد وتركيز ومواصلة لتحقيق صورته الذهنية,بل يجب في نفس الوقت تخصيص الجهد والوقت والمثابرة والمواصلة حتى يمكن جعل تلك الوسائل التي تم الوقوع عليها ناجعة وذات فاعلية وتأثير في إحالة الصورة الذهنية الى واقع حي.
وعليك أن تعلم انه ليس من شخص يستطيع أن يتجنب الخطأ تجنبا تاما لمجرد أنه حدد وقع على الوسائل المناسبة لتحقيق تلك الصورة,ولمجرد أنه بذل الجهد ووفر الوقت واستمر ودأب وواصل العمل.
إنه لابد أن يخطىء قليلا أو كثيرا.ومن هنا فلابد له أيضاً أن يعيد تقييم ماتم له إنجازه,ومقارنة ماتحقق بالفعل مما سبق تخيله.ثم مدارسة الوسائل التي تم الاستعانة بها من حيث صحتها من جهة,ومن حيث كفايتها من جهة أخرى.ثم هو اخيرا يقوم بمدارسة مدى كفاية الجهد المبذول والوقت المقضى والتواتر الحاصل.
وواضح أن هذه النظرة النقدية الى ماتم إنجازه مع الوقوف على المعوقات التي حالت دون بلوغ الهدف تكون مصحوبة ايضا بمراجعة وتصحيح ووضع خطة جديدة كتعديل للخطة القديمة.فلايكفى أن ينقد المرء نفسه أو أن يقف على نقاط الضعف,بل عليه بالاقبال بحزم وعزم على التصحيح والتقويم والتعديل.
وثمة مرحلة تقييمية أخرى يجب ان يمر بها المرء لكي يحدد مدى مااحرزه من تقدم.
وتلك المرحلة التقييمية تقع بعد تصحيح المسار وبعد بذل الجهد.
إنك تقوم في هذه المرحلة التقييمية بقياس مدى تقدمك الى ماسبق إحرازه في مرحلة سابقة.
فالتاجر مثلا يقيس ربح هذا العام قياسا الى ماحققه من ربح في العام الماضي.
ويستطيع الطبيب أو المحامي أن يقيس عدد الزبائن في نهاية هذا العام قياسا الى عدد زبائن العام الماضي.
ويستطيع كل شخص أن يحدد ملامح مستقبله وماسوف يحرزه من نجاح ونمو وتقدم في ضوء ماأحرزه بالفعل قياسا الى ماض قريب أو بعيد.فالحاضر قياساً الى الماضي شأنه شأن المستقبل قياساً الى الحاضر.