هل ترى نفسك أصلياً وأصيلاً، أم تشعر بأنك نسخة مكَرَّرة تم تصنيعها وتَرْقيعها وتلوينها من قبل الآخرين؟ هل تعيش حياتك بشروطك وفكرك وطبقاً لنظريتك وإرادتك، أم تُغيِّر موجاتك وتردُّداتك وإيقاعات حياتك طبقاً لما يُطلب منك أو يُمْلى عليك؟ هل تصنع المستقبل وتغيِّر الواقع، أم تخضع للظروف وتقع ضحية لمقتضيات الأمر الواقع؟
يمكنك الآن أن تُفرِّق بين معنى أن تكون ناجحاً، وبين أن تكون أصيلاً ومؤثراً ومُغيراً ونبيلاً. الأصليون ليسوا فقط أولئك “الاستثنائيين” الذين صنعهم ووجَّههم الآخرون، بل هم ذوو فكر وسلوك وأسلوب مختلف في إدارة أنفسهم وتغيير عالمهم. هم يطرحون أفكاراً وحلولاً مختلفة، وإن لم تكن جديدة، ويعرفون أن أفكارهم وحلولهم يجب أن تكون دائماً أفضل من حلول الآخرين. حتى الذين علموهم ودربوهم لا يستطيعون أن يجاروهم أو ينافسوهم.
في كتابه “الاستثنائيون” يتحدث “مالكولم جلادويل” عن أولئك الذين تفرَّدوا ونجحوا بسبب العمل الشاق والجهد الجهيد والتدريب لعشرة آلاف ساعة وأكثر. يرى “جلادويل” أن هؤلاء الناجحين كانوا محظوظين من حيث زمان ومكان ولادتهم وبيئة نشأتهم. أما “آدم جرانت” في كتابه “الأصليون” فيؤكد أن معادلة الأصالة والتأثير وصنع المستقبل وتغيير العالم لا تكمن فقط في المخاطرة والذكاء وبذل الجهد، فالأصليون بسيطون وطبيعيون، وشروط “الأصالة” أسهل من شروط التميز الاستثنائي. المبتكرون والمغامرون يأتون بأفكار غير مسبوقة، أما الأصليون فيدرسون أفكار ومشروعات الآخرين، ويستشعرون أيها أفضل وأكثر قابلية للنجاح، فيديرون حياتهم ومشروعاتهم بطرق مختلفة لم ينتبه إليه المُدرَّبون على الإدارة والابتكار. يعتمد الناجحون على البيانات والمعلومات والتحليل والمقارنات والتوجيه والتدريب على أيدي خبراء ومستشارين. أما الأصليون، فيعتمدون على حدسهم وحِسِّهم الداخلي، وعلى مواطن قوتهم التي تُكوِّنها مواهبُهم وذكاءاتُهم، فمشاعرهم ورؤاهم وبصيرتهم هي مرجعهم، وليس ما سمعوه وقرؤوه ورأوه وأتقنوه. هم يتعلمون ويقرؤون ويسترشدون، ثم يسيرون في طريقهم ويفعلون ما لم يتوقعه أحد. حتى عندما يَسألون ويُجيبون، فإن أسئلتهم وإجاباتهم تكون دائماً غير متوقعة.
لتوضيح الفرق بين الناجحين والأصليين، سأحاول تبسيط الفكرة من خلال نظريتي الخاصة في تنمية وتطوير الذات. الناجحون يبذلون جهوداً فائقة ويستنزفون موارد كثيرة لكي ينجحوا. الأصليون يحققون النجاح ببساطة وبأقل الموارد، ويفاجئون كل من حولهم بنجاحهم إلا أنفسهم. وطبقاً لنظرية “التمتين” التي ترتكز على الأصالة الطبيعية والثقة الداخلية، فإن الأصليين لا يحتاجون إلى تحفيز دائم، فهم يرون طريق النجاح بأنفسهم، ثم يتخذونه، وإن لم يجدوه فإنهم يشقونه ويرسمونه طبقاً لمواصفاتهم الخاصة، ويحفِّزون في طريقهم كل من ينهج نهجهم ويسير وراءهم أو يعمل معهم، ولهذا أرى أن التحفيز لا يجدي نفعاً، لأن مفعوله دائماً قصير؛ فكل الذين يحتاجون تحفيزاً دائماً، هم أقل الناس استحقاقاً واستجابةً له، فهم يستنزفون مواردنا النفسية وجهودنا التطويرية، وتبقى نتائجهم في حدود الضعيف أو المتوسط أو الجيد على أقصى تقدير.
عندما نحاول تحفيز غير الأصليين، أي المتشابهين والعاديين، فإننا نحاول أن نقنعهم ببناء وتبنِّي سلوك إيجابي وتوجُّه ذهني قوي، ونحن بهذا نؤكد لهم أنهم لا يثقون في أنفسهم، لأنهم يعانون من السلبية التي عليهم أن يتخلصوا منها أولاً كشرط مبدئي للنجاح. أما الأصليون فلا يصطنعون الثقة بالنفس، ولا يستدعون توجهات إيجابية خارجية أو متَخيَّلة، لأنهم لا يشعرون بالضعف، ولا يعرفون، أو هم لا يأبهون إن كانت لديهم هواجس أو أفكار سلبية أصلاً. هم يثقون أنهم أقوياء، وأن مواطن قوتهم تؤهلهم لتحقيق طموحاتهم، من دون الاستناد إلى أفكار وتوجيهات وأساليب وتقنيات يتعلمونها من الآخرين.
لكي تكون أصلياً وأصيلاً، تجنَّب الأفكار والهواجس السلبية عن ذاتك وقدراتك، ولن تحتاج إلى جرعات من التحفيز والحَقْن بمضادات الضعف والتردد والخوف من الإقدام ومقارعة الطموحات الكبرى. فإن كنت قد تشَرَّبت بالكثير من توجيهات وتعليمات الآخرين، عليك الآن أن تمسح كل الانتفاخات والنتوءات والتوجيهات التحفيزية الخارجية، وتعيد تشغيل طاقاتك الإيجابية الداخلية الكامنة، ومواطن قوتك الأصلية الفطرية الخفية، وتبدأ صفحة جديدة بيضاء، ترسم عليها صورتك، وتضع عليها بصمتك، وتؤطرها برؤيتك، وتنشرها وتسوقها وتطلقها لكي يراها العالم أجمع، ومن دون أن تستأذن أحداً.