أبصرتها وهي تجري بعين باكية وصوت منتحب، تحاول اللحاق بأخواتها، وتتمسك بأطراف ثيابهم… تعثرت خطواتها… وتعفرت وجنتها في الرغام..مررت بها وهي منقبضة على نفسها تلم أطرافها…
أشفقت عليها ووقفت عند رأسها… حدثتها فأشاحت بوجهها عني، لم أكترث لصدودها!سألتها: علام هذا البكاء؟ ولم هذا النحيب؟قالت: لقد ساموني عذابًا وأهلكوني استعبادًا، لقد صرت أمثولة بين أياديهم وأضحوكة على ألسنتهم، تتداولني أحاديثهم.. ألم يجدوا غيري؟قلت: مهلاً يا عزيزتي، فلم أعرف قصدك ولم أفهم مغزاك، فابدئي الحكاية من البداية.قالت: إن قصتي طويلة وحكايتي أليمة، وأخالك وأنت منهم لا تفترون عن ذكري ولا تملون الحديث عني.قلت: هوني عليك، وهلم بالحكاية، فسأصخي بسمعي وأرقم بقلمي بثك، علهم يستعمون، وعن ذكرك يهجرون.قالت: هؤلاء ـ حملة الأقلام الحمراء ـ الذين يغدون إلى المدارس كل غداة، لا يكفون عن تردادي في كل لقاء… في كل مجلس… في كل محفل..(كنا) و(كنا)… يوم أن كنا طلابًا… كنا نخاف المدرس… كنا نحترم المدرس… كنا نهرب من المدرس… كنا.. كنا… وما دخلي أنا!قلت: بالله عليك اهدئي وبادليني الحوار والنقاش.قالت: لك ما تريد.. ولكن شريطة ألا تذكرني في حديثك، فقد سئمت حياتي، وخارت قواي وتردت صحتي.قلت: لك ذلك.. ولكن يا كنا أليس صحيحًا كلامهم وسليمًا منطقهم..؟ها هم تلاميذ اليوم لجرأتهم يكادون يخطفون العيون!إنهم يزاحموننا المناكب.. يقابلوننا في الأسواق.. ولم يكونوا كما كنا!قالت: لقد ذكرتني ومع ذلك سأغفر لك.. وأما سؤالك فأقول وماذا تطلب من ناشئتنا؟ هل تريدهم حمائم ونعامًا تفرق من صفير الصافر!يا أستاذي ألا تفخر بابنك حين يكون شجاعًا أدبيًا يبدي قوله ويعتز برأيه ويناضل دونه؟ ألم تسمع قول الغلام وهو يحاجج الفاروق (لم أجن جناية فأخافك، ولم يكن الطريق ضيقًا فأوسعها لك)؟ثم لم تضعون هالات الفخر والعظمة حول ذواتكم وكأن ما فعلتموه أنتم هو عين الصواب وكبد الحقيقة وكأنكم آيات زمانكم وفرائد عصركم وأوانكم؟ طامنوا قليلاً وتواضعوا كي لا تضرب رؤوسكم السقف!قلت: نريد طلابنا أن يكونوا كإخوانهم بالأمس.. في واقعهم.. في نظرتهم.. في حياتهم…قالت: يا أستاذي الفاضل إن تلاميذ اليوم هم أبناؤك وأبناء هذا وذاك.. يعيشون أيامهم الحاضرة ومن الحماقة أن يعيشوا غير أيامهم فلكل زمان دولة ورجال.قلت: إنهم (البلاي ستيشن) و(القود بوي) و(السيجا) التي لا تجدي نفعًا وتضيع أوقاتهم سدى.كتمت كنا ضحكتها وقالت بصوت هامس: وهل لعبة (أم أربع ) و (عظيم ساري) هي التي تشحذ الذهن وتذكي الفكر وتنمي العقل!قلت: يا كنا لقد درسنا برغبة وبرهبة.. لقد ضربنا وجلدنا ولم تتحطم نفسياتنا أو تتكسر! وكان آباؤنا يقولون: لكم اللحم ولنا العظم.قالت: دعني أسألك كما تسألني هل ترضى أن يأتي ابنك مشدوخ الرأس مفلوق الهامة محطم الأضلاع متورم اليدين! أم أن المسألة: أحرام على بلابله الدوح حلال على الطير من كل جنس.أظنكم لو كنتم مدرسي ذلك الزمن الغابر لا تكفون عن قولة كنا وكنا وكان آباؤنا!يا قوم كنا لا تعلقوا مآسي التعليم على اللحم والعظم والشحم ولا على «الفلكة» والعصا ولا حتى على البندقية والرشاش.. يا أصدقاء كنا اللدودين اتركوني وشأني وتفاعلوا مع دوركم المنشود ورسالتكم العظيمة.(أخذت أنفاس كنا تتعالى ودقات قلبها تتزايد).قلت لها: ولكن كنا نقرأ الروايات الطويلة والقصص المثيرة.. كنا نكتب الواجبات العديدة.. كنا نواصل الليل بالنهار في الجد والاجتهاد.. كنا نتابع المدرسين.. كنا…نظرت إليَّ كنا ثم شهقت وماتت!