أ.د. ناصر أحمد سنه / كاتب وأكاديمي من مصر
ينتهي امتحان ويأتي آخر..امتحانات شهرية، ونصف سنوية ونهائية، وتنعقد في منازلنا \”المعسكرات المغلقة\”، وتكثر \”المراسيم\” التي تحدد \”المحظورات والممنوعات\”، فتوتر الأعصاب، وتكثر المشاجرات، وتُستدَعي عبرات، وتسال دموع، ويرتفع الضغط، ويزداد القلق لدي الجميع .. الأبناء والأباء والأمهات (لعل العبء الأكبر والمسؤوليات الجسام تقع علي عاتقهن). ثم تأتي الإجازة الصيفية فتهدأ فيها النفوس قليلاً ريثما تستعد لعام دراسي جديد. فكيف نتخلص من هذا القلق أيام الامتحانات، ونحافظ علي\”الأمن النفسي الأسري\”؟. وكيف نُخطط ـ \”استراتيجيا\” ًـ لتفوق أبناءنا دراسياً؟.
القلق والتوتر من المشاعر الإنسانية الفطرية التي تحمي وتحفظ علي النفوس أمنها في مواجهة ما قد يعترضها من المخاوف وأسبابها. بيد أن هذه المشاعر ينبغي أن تكون معتدلة، بلا تفريط ولا إفراط، يشل علينا تفكيرنا، ويعيق إدارة أمور حياتنا، فنحقق فيها ما نصبو إليه من آمال كتفوق أولادنا، واكتمال نموهم المعرفي والنفسي والاجتماعي، وتحقيق ذواتهم، وعلو كعبهم، وإرتفاع درجاتهم.
لذا فليكن الاهتمام ـ منذ بداية العام الدراسي الجديد ـ بنمط حياتنا ليصبح نمطاً معتدلا ومتوازنا، وبخاصة الاهتمام الكافي بتغذية سليمة وصحية ومتكاملة للأبناء، لينمو بنيانهم الجسماني سليماً معافاً.. فـ\”العقل السليم في الجسم السليم\”. مع عدم إهمال وجبة الإفطار قبل ذهابهم للمدرسة، وحاجتهم لساعات نوم كافية (لا تقل عن 8 ساعات يومياً). وخلال يومهم ليس ثمة إفراط في المنبهات كالقهوة والشاي والكاكاو والشوكولاته، لما تحويه من مادة \”الكافيين\” التي عند الإفراط في تناولها يحدث التعود عليها، ومن ثم التوتر والصداع والقلق والإرهاق، فيتأثر الإنجاز الدراسي والتحصيل العلمي.
ومن المعلوم أن للتعلم والتذكر خطوات منها: استقبال واستيعاب المعلومات، وتخزينها وتبويبها وتراكمها وتحليلها بالذاكرة، ومن ثم استدعائها وقت الحاجة/ الامتحانات. وينبغي ربط تلك العلمية بغايات وطموحات وأهداف واضحة في التفوق والإنجاز، ومداومة تذكرها.
وللاستذكار أنواع: استذكار ناقص لم يستكمل أصولَه، فإذا اختُبِر الطالبُ بعده مباشرة فقد يعجز عن استرجاع المعلومات. وآخر مناسب يمكن للطالب بعده أن يسترجع المعلومات استرجاعاً صحيحاً. وثالث كافي وتستمر حتى بعد استرجاع المادة، وهذه أبعد غوراً، وأصلب عُوداً، وأقلُّ تأثُّراً بعوامل النسيان.
إن النسيان، والشرود، والمَلل.. مشكلاتٌ تعُيق عملية الإستذكار الصحيحة، وتتسبب في تدني التحصيل والفهم. فالنسيان هو فقدانٌ طبيعيٌّ، جزئيٌّ أو كليٌّ، مؤقتٌ أو دائمٌ، لما اكتسبناه من ذكريات ومهارات حركية. وهو أنواع: نسيان طبيعي، وشخصي (كربط عملية استذكار بعض المواد بأحداث سلبية مؤلمة, فيجب استيضاح الأمر وفك عملية \”الإشتراط\” تلك للقضاء عليها)، وآخر مرضي (ناتج عن صدمة دماغية أو انفعالية.
كما أن أسبابه متعددة منها: مرور الزمن، فالأيام الأول عقب عملية الأستيعاب تكون فيها درجة التذكر عالية، ثم يقل تدريجياُ مع مرور الوقت. لذا ينبغي مراجعة الموضوع بعد قراءته مباشرة، وتدور هذه المراجعة حول: استعراض أهم النقط أو الأفكار الأساسية، وملاحظة الترتيب والترابط المنطقي بين الأفكار، ومراجعة الموضوع بعد الاستيقاظ من النوم، أو قبل البدء بالمذاكرة الجديدة، وفي أحايينٍ متقاربة، ومناقشة المعلومات مع النفس أو مع الغير مناقشةً علميةً نقديةً. كما ينبغي استخدام/ استحضار المعلومات المكتسبة باستمرار؛ لترسِّيخها في الذهن، وجعلها مستعصيةً على النسيان. مع عمل ملخصات للمادة الدراسية حتى تسهل عملية المراجعة تلك. ولعل العادات والمهارات الحركية والاتجاهات والمبادئ والأفكار أعصى على النسيان من المحفوظات اللفظية.
لاشك يتوقف مدى ما يستوعبه المرء على طريقة تعلمه. فعندما تُقدم المعلومات (الدراسية) بطرقة مُـحببة ومُبهرة وشائقة، وضمن دوائر اهتمام أبناءنا الحقيقة أو حتى المُستحدثة، يسهل استقبالها واستيعابها، ولا تكثر الشكوى من سرعة نسيانها وضعف تذكرها، وعدم القدرة علي استرجاعها، أو استرجاعها مبتورة غير مترابطة. فينبغي الرفق وتشجيع الأولاد ليذاكروا دروسهم بطرائق مُحببة لديهم، دون إجبار أو قسر، فالقلق يبدأ عندما ينسي أبناءنا ما يحبونه، وليس ما يفعلونه عن غير حب أو اهتمام أو شغف.
ينبغي إشاعة الحوار الأسري ومداومته، ومناقشة ماقد يعترض السبيل الدراسي المدرسي/ أو الجامعي، وبذل الجهد لتذليلها، مع التوجيه الهادئ. إن التشارك في الوعي بأحوال الدراسة والأصدقاء له كبير الأثر في التفوق الدراسي لأبنائنا.
يحسن متابعته الأولاد في علومهم، ومساعدتهم في التخطيط لأعداد جداول استذكارهم، حيث تتنوع المواد التي يتم تناولها في اليوم الواحد. وعليهم التحرك لأخذ راحة بين كل فترة استذكار وأخري، وتأدية بعض الأعمال الأخري لمدة قصيرة، ومن ثم العودة وشحذ الأهتمام للمذاكرة في مادة أخرى.
يأتي تحديد ما سيتم استذكاره، ثم قراءته قراءة سريعة للإلمام الكلي، وتحديد الأفكار الرئيسية والفرعية وكتابتها، ووضع خطوط تحت التعريفات والمصطلحات والكلمات المهمة \” Key words”، ثم التركيز والقراءة الجيدة للموضوع وللأفكار بنوعيها، وإعادة القراءة للفقرات الصعبة. ثم اختبار الاستيعاب والفهم والتلخيص بالأسلوب الخاص والجداول والرسومات الإيضاحية، ووضع الأسئلة عن كل فقرة والإجابة عنها، ومن ثم تكرار الاسترجاع لها. وينبغي استخدام أكثر من حاسة من حواس الطالب في المذاكرة والاستيعاب، فالقراءة بالعين، بينما اليد تكتب وتخطط بألوان متعددة، ويأتي الترديد باللسان لتسمع الإذن، وليعي العقل.
لا ننسي العطف والتشجيع المتواصل، لكن دون تدليل. فلا ينبغي للأمهات أن تجلسن إلي جانب أبنائهن في كل صغيرة وكبيرة من دروسهم، ويقمن بعمل الفروض الدراسية نيابة عنهم، فذلك يؤثر سلباً علي ثقتهم بأنفسهم، وعلي تحصيلهم العلمي.
وينبغي علي الأبناء (وبمساعدة الآباء) البعد عن المشتتات أو التفكير في المشكلات العائلية والعاطفية والاجتماعية، وفي المستقبل واحتمالات النجاح والرسوب، وأحلام اليقظة مما يُعد شروداً (يكثر في الشهور الأخيرة التي تسبق الامتحانات؛ وهناك علاقة ارتباطية موجبة بين القلق والشرود). لكن كيف يتجنب الطلابُ الشرود الذي يحيل تفكيرهم من الموضوع الأساس الهامِّ الذي يتم الاستغراق فيه إلى موضوع آخر جانبي أقل أهمية فيضيع وقتهم؟. ينبغي علي الوالدين توفير جو أسري هادئ خال مما قد يشوش علي الأبناء استذكارهم. الجِدُّ والاجتهاد واختيار المواد الدراسية التي تساعد في التركيز، وإتباع الطرقً المناسبةً في استذكار كل مادة على حسب طبيعتها، واستصحاب نشاطٌ ما يتم القيام به (كوضع خطوط تحت الأفكار الرئيسة، أو تلخيص بعض الأفكار بلغتك الخاصة، أو كتابة القانون أو القاعدة التي يراد حفظها مرة أو مرتين، أو تدوين بعض الملاحظات في الهوامش)، والفصِلَ بين المادة ومن يقوم عليها من أشخاص قد لا يروقون للطلاب. وعدم الانشغال- خاصة في مرحلة المراهقة – بأمور أخرى، كالتفكير في الجنس الآخر مثلاً..
كما يجب محاربة الملل والرتابة والتكرار والتنميط، وكل المسببات الجسمانية التي قد تعيق التركيز والحيوية لدي أبناءنا الطلاب. فينبغي تقوية الدافع، ووضوح الهدف، والثقة بالنفس، والصبر والمثابرة، واتباع أساليب المذاكرة الصحيحة، والقراءة عن فهم، والتنويع في المذاكرة؛ لتنشيط الذهن، ومراجعة الدروس مع الزملاء، والراحة بعد كل وقت مذاكرة، وتغيير مكان المذاكرة بين وقت وآخر، ومراعاة ملائمة مكان الاستذكار ومناسبته من حيث الإضاءة والتهوية الجيدة، وتوفير الوسائل المريحة والمساعدة علي حسن الدرس (لكن الاستذكار في السرير لا شك يجلب النوم)، ومتابعة الترفيه عن النفس.
إن الاهتمام بالرياضة والتريض أمر هام وضروري، ولا يعيق الدرس إذا ما تم خلال وقت معين ومنتظم. لكن إهمال الهوايات والرياضات (بزعم كثرة الدروس) قد يؤثر علي الصحة البدنية والنفسية لأبنائنا فنكسب شهادات لهم، ولكن نخسر نموهم المتكامل والمتوازن، فطاقات البدن والنفس ينبغي إشباعها بالحاجات الضرورية والمفيدة والمتنوعة.. استرواحا واستيعاباً وتصريفاً لطاقات أطفالنا ومراهقينا سواء بسواء.
ومما له كبير الأثر في نجاح طلابنا بث الثقة وروح المنافسة مع ذواتهم، فيبذلون المزيد من الجهد، مع عدم التراخي أو التواني، والنقد البناء وتقويم ما قد يعترض مسيرة العام الدراسي. ويبقي عدم الخوف أو القلق من الامتحانات، إذ ليست هي نهاية المطاف. كما أنها ليست المقياس النهائي والجازم عن مدي قدرات ومهارات وذكاء وتفوق وإبداع أبناءنا في حياتهم العملية ومستقبلهم المنتظر.
إن تقويم أطفالنا وأبناءنا وفقا للعلامات التي يحصلون عليها في شهاداتهم، أو وفق ترتيبهم في الفصل، كثيرا ما يثير حفيظة وقلق الآباء والأمهات، فيشعرونهم بالذنب عندما تقل علامات اولادهم:\”أننا نضحي ونبذل من أجلكم الكثير والكثير، ومع ذلك فلان قد حصل علي علامات أكبر، فهو أفضل منكم وسيتفوق عليكم.. وأنتم فاشلون عاجزون/ أغبياء\”. إن هذا النهج ـ المقارنة والنعوت السلبية مع الآخرين دون تتبع ومعالجة أسباب الإخفاق ـ مُحبط ومعيق، بل ومُدمر، ومُكرس للفشل؟. كما قد \”يعتاده\” الأولاد في تقويم زملائهم وأفراد المجتمع وفق درجاتهم فقط، فيغيب البعد الإنساني فقيمة المرء ليست في حصوله علي \”وثيقة/ رخصة/ شهادة علمية\” فقط، ولكن في شخصيته السوية نفسيا واجتماعيا وإنسانياً, وإحساسه بذاته وبالآخرين. ولماذا لا نري أولياء الأمور يحثون اولادهم: \”لمَ لم تساعدوا زملائكم عل فهم واستيعاب الدروس التي غابوا عنها لمرضهم أو لظروفهم الخاصة؟، أذهبوا وكونوا في حاجتهم يكن الله في حاجتكم\”.
إن رسالتنا نحو أولادنا ليست منةً نشعرهم بالذنب إن لم يلبوا ما نريده/ نأمله منهم. كما إن بث الحب لهم ينبغي ألا يكون مشروطاً:\”ذاكر/ ذاكري كي نحبك، إذا لم تنجحوا فلن نحبكم\”. ولكن يمكن القول: \”أنتم أولادنا.. نحبكم دوما وبإمكانكم بذل المزيد من الجهود لتحققوا ما تحلمون ونحلم به لكم\”. إن بذل الحب يعطي \”الأمان النفسي\” لأولادنا، و\”الاستقرار\” لأسرنا، ويبقي طريق العلم هو الموصل للسعادة الكبرى: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: \”مَا مِنْ رَجُلٍ يَسْلُكُ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا إِلَّا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقَ الْجَنَّةِ وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ\”(سنن أبى داود، برقم:3158).