الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
تحدث الناس كثيرا عن قضية قصاص عجيبة، فقد أدى اختلاف على ريال واحد بين بائع ومشتر، إلى أن قام المشتري بضرب البائع بحديدة كانت بجواره.
فشج بها رأس البائع الذي بدأ ينزف دما حتى مات! وعندها حكمت المحكمة الشرعية بوجوب قتل القاتل جزاء فعله! ونفذ الحكم فيه!
والسبب ليس الريال كما يظن البعض! بل السبب داء خطير ومرض استشرى في بعض النفوس وأدى إلى خروجها عن طورها وتفكيرها وعقلها. إنه مرض أدى إلى القتل، وإلى طلاق الزوجات وفراق الأولاد، أدى إلى تنازع الأحبة وخلاف الإخوة والأقارب!
إنه داء ومرض الغضب!
دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أوصني ! قال : « لا تغضب » فردد مرارا قال : « لا تغضب » [رواه البخاري]
والغضب يحدث هيجانا حادا عند الإنسان ينتج عنه احمرار في الوجه، وخفقان في القلب، وزيادة في النبض، وتتابع في الأنفاس، إنه تحول عجيب يخرج الإنسان عن طوره فينقلب إلى شكل مخيف تأباه النفوس، وتكرهه القلوب!
ترى رجلا في المجلس متزنا عاقلا، ذا هندام يرتبه ويعتني به بين الحين والآخر، ثم إذا غضب تغير شكله، وانتفخت أوداجه وسقط ما على رأسه من اللباس، وأكثر من حركات اليدين، والضرب بالرجلين، وهكذا.. !
وأشمل وصف لحالة الغضب تلك، قول النبي صلى الله عليه وسلم : « …ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه… » [رواه أحمد]
والغضب- والعياذ بالله- مرتبط بالكبر والاستعلاء والظلم والتعدي، ولهذا كان طريقا مهلكة وأرضا موحشة! تأباه القلوب الكريمة، والعقول الكبيرة، والفطر السليمة.
وقد مدح الله تبارك وتعالى المؤمنين بصفات كثيرة منها قوله تعالى : { الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } [آل عمران:134]
فهذه ثلاث صفات عظيمة أولها: كظم الغيظ وإيقافه، والثانية: العفو والصفح مع المقدرة والتمكن، والثالثة وهي أعلاها مرتبة: الإحسان إلى الناس مقابل إساءتهم.
وقال صلى الله عليه وسلم خلافا لما تعارف عليه الناس اليوم : « ليس الشديد بالصرعة ، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب » [متفق عليه]
وقال صلى الله عليه وسلم : « إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله » [متفق عليه]
ومن أولى بالرفق من زوجك وأبنائك وإخوانك المسلمين؟!
والبعض اليوم يكون مستعدا لنتائج الغضب الوخيمة، فتراه يجعل بجواره في السيارة مثلا حديدة أو خشبة أعدها لهذه المواقف!.
العلاج ..
هذا الداء الخطير جعل له النبي صلى الله عليه وسلم دواء نافعا وعلاجا شافيا والمسلم مطالب بكسر حدة الغضب وإبعاده بهذه الأمور التي منها:
أولا : تتبع وصية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر، فقد جاءه رجل وقال: أوصني، قال صلى الله عليه وسلم : « لا تغضب » فردد مرارا وقال : « لا تغضب » [رواه البخاري]
وإيقاف الغضب ودواعيه قبل بدايته، خير من التمادي فيه ومحاولة إصلاح نتائجه الوخيمة.
ثانيا : معرفة فضل الله عز وجل لمن تجرع الغضب وكتمه: قال صلى الله عليه وسلم : « ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى » [رواه ابن ماجة]
ثالثا : معرفة أن الغضب من الشيطان، قال صلى الله عليه وسلم : « إن الغضب من الشيطان … » والشيطان يورد الإنسان موارد الهلاك.
رابعا : الطمع فيما أعد الله عز وجل لمن كتم غيظه، قال صلى الله عليه وسلم : « من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما يشاء » [رواه أبو داود]
خامسا : الالتزام بالهدي النبوي، ومن ذلك تغير الهيئة التي عليها الغضبان وليلصق بالأرض، فذلك أدعى لإذلال النفس وطرح الكبر، قال صلى الله عليه وسلم : « ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ، أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ، فمن أحس بشيء فليلصق بالأرض » [رواه أحمد]
سادسا : الوضوء، امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « إن الغضب من الشيطان، خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ » [رواه أبو داود]
سابعا : السكوت حال الغضب وحبس اللسان وإلجامه، قال صلى الله عليه وسلم : « علموا وبشروا ولا تعسروا، وإذا غضبت فاسكت، وإذا غضبت فاسكت، وإذا غضبت فاسكت » [رواه أحمد]
ثامنا : التعوذ من الشيطان الرجيم فهو رأس البلاء، قال تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } [الأعراف:200]
وعن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. » [رواه مسلم]
تاسعا : ذكر الله في كل موطن خاصة عند حالات الغضب: قال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [الأعراف: 201]
عاشرا : أنت في حالة كتم الغيظ في مراتب أعلى من غيرك، وقد مر حديث الشديد الذي يكتم الغضب وكذلك أمر الله تعالى : { خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين } [الأعراف:199]
وقوله تعالى : { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } [الشورى:43]
الحادي عشر : إنك في حالة الغضب قد تظلم وتتعدى فتأثم، قال صلى الله عليه وسلم : « كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه » [رواه مسلم]
الثاني عشر : التقرب إلى الله عز وجل بحسن الخلق مع المؤمنين والتجاوز عن مسيئتهم ، قال صلى الله عليه وسلم : « إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم » [رواه أبو داود]
وقال صلى الله عليه وسلم : « ألا أخبركم بمن يحرم على النار- أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل » [رواه الترمذي]
الثالث عشر : معرفة نتائج الغضب وعواقبه! وكيف أودى ريال بحياة رجلين، وكيف أدت كلمة في ساعة هيجان إلى فراق الزوجة، وحرمان الأبناء، وتضييع الحقوق، والاعتداء على الضعفاء والأخوان.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عينية بن حصن مثل ذلك، وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسم. فقال رجل: والله إن هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصرف (صبغ أحمر) ثم قال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، ثم قال: يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر، فقلت: لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا » [رواه البخاري]
أخي المسلم :
ما كان من قبل فهو من الغضب المذموم شرعا وعقلا، أما الغضب المحمود والمطلوب فهو ما كان لله وفي الله، إذا انتهكت محارم الله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضب وذلك كثير في حياته عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة رضي الله عنها : « ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى، فينتقم لله تعالى » [رواه مسلم]
جعلني الله وإياك ممن يغضب لحدود الله إذا انتهكت، وأنزل علينا السكينة في أمور الدنيا التي نغضب لها لأتفه الأسباب وأقل الأمور. اللهم أعطف بنا وجنبنا الغضب المذموم، اللهم إنا نسألك كلمة الحق في الغضب والرضا يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين