"شوبنهاور" الذي خاصمته الشهرة
أسوأ ما يمكن أن يفعله شخص معنيّ بمواجهة الجماهير أن يضع صوب عينيه الشهرة والأضواء.
أن يطلبها، ويسعى إليها، ويركض في إثرها.
فيؤلف كتاباً من أجل الشهرة، ويلقي كلمة أمام الجماهير من أجل الظهور، ويتصدر المحافل من أجل الأضواء وفلاشات الكاميرات.
إنه بهذا يكتب شهادة وفاته، ويوقعها بدم بارد..!
أما العظماء؛ فليس هذا أبداً سبيلهم؛ العظيم إذ يتصدر المجلس فإنما يتصدره بحثاً عن مقارعة العقول، وغزوها بالحق والجمال والخير.
وعندما يحني ظهره على الورق تكون غايته إجلاء ما أُشكل على العقل، وتبيان ما التبس على الفهم.
لا يبحث عن الأضواء؛ وإنما هي التي تبحث عنه!!
هل تظن أن الأديب الروسي تولستوي كان يشغل باله كثيراً عما سيقوله الناس وهو يكتب رائعته "الحرب والسلام"؟!
أو اهتم المبدع جمال حمدان عما يمكن أن يقوله معجبوه عندما يقرءون "شخصية مصر"، أو توقف الأستاذ عبد الوهاب المسيري كي يسأل نفسه عن ردود أفعال الناس على موسوعة "الصهيونية"؟
لا أظن.. فهؤلاء العظام يتحركون وفق الرسالة التي يتبنونها، يتفاعلون حسبما توجههم همومهم العامة، وضمائرهم.
يلقي الواحد منهم الكلمة؛ فتطير من أقصى الأرض إلى أقصاها، ويجلس الجموع ليفسروا لماذا قيلت، وكيف قيلت، وما المغزى من ورائها!.
ولذلك هم أحياء في عقولنا، حتى وإن اختلفنا معهم، أو عارضنا بعض آرائهم؛ فهم -شئنا أم أبينا- حاضرون بقوة رغم انقضاء آجالهم.
والفرق بين طالب الشهرة، وطالب المجد أن طالب الشهرة معه ترمومتر يقيس له مستوى الثناء الذي قيل في حقه؛ بينما طالب المجد لا يهمه مدح الناس له؛ فهو عارف لنفسه، واقف على حقيقتها، لا يغلبه جهل الناس به لعلمه بحقيقته.
إنه يعشق عمله ويخلص له لذا يكون دائماً أقرب للنجاح والرفعة؛ بينما من ينكب على عمل بغية تصفيق وثناء فما أقربه من الزلل والسقوط.
الشهرة ليس لها أمان؛ فهي -كما شبهها أحد الفلاسفة- كالنحلة، تعطينا شهداً مصفى جميل المذاق، ولها أيضاً لدغ يدمي؛ بيد أن أهم صفاتها أنها تملك جناحين؛ فما أسهل أن تطير بعيداً عنك، فتجد نفسك طي النسيان بعدما كان اسمك بين النجوم أو ربما أبعد.
يا أصدقائي.. كلنا يشتهي التصفيق، إنها نزعة إنسانية، تروي لدينا عطشاً طبيعياً إلى إثبات الوجود؛ لكن ما أريد إخبارك به كي تنتبه إليه، ألا تبحث عن التصفيق، لا تنتظره، سيأتي إن عاجلاً أو آجلاً، فقط اهتم بعملك، جوِّده، أعطه من وجدانك وروحك، حتى لا تتوقف وتمل وتيأس إذا لم تجد مَرَدّ إنجازك في الحال.
كلنا يسمع عن الفيلسوف الألماني "شوبنهاور"، هذا الرجل أمضى حياته بين أطنان الكتب، ما بين البحث والتأليف، وإلقاء الدروس، وتعليم الناس، والمدهش أنه طوال حياته كان مغموراً لا يعرفه أحد؛ خاصمته الشهرة حتى بلغ عامه السبعين؛ فإذا باسمه يطوق الآفاق، وينهال عليه التمجيد والتكريم والثناء، الجميع يتحدث عن شوبنهاور، الكل يقرأ لشوبنهاور، الصحف تكتب عنه، النقاد يمجدون في فكره وعلمه.
حينها قال الرجل وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة: "بعد أن عشت عمري كله وحيداً، منسياً بين الناس، جاءوا فجأة ليودعوني إلى قبري بالطبول"!!!.
لو كان هذا الرجل يهتم بأمر الشهرة ما صبر حتى بلغ هذا العمر وهو يؤلف ويكتب ويخرج النظريات، دون أن يسمع عنه أحد.
مثال آخر..
الرسام العالمي "فان جوخ" هل تعلم أنه عاش حياة فقيرة تعيسة، لا يعرفه فيها أحد!!.
من المذهل أن آخر ما نطق به هذا الرجل وهو يموت أن قال لشقيقه في شفقة: "لو أنك فقط استرددت حتى ثمن أدوات الرسم التي اشتريتها لي؟!!".
وكان أخوه يعُوله، ويشتري له ما يريد من الأدوات كي يرسم، وكان يعرض لوحاته في الأسواق، لكنها لم تكن تُباع بثمن يسد الجوع!.
فلماذا لم يتوقف فان جوخ عن العمل والإبداع، ما دامت الشهرة تخاصمه؛ لأنه لم يضعْها نصب عينه وهو يعمل ويبدع ويتألق.
صديقي.. آمل أن تعي مرادي، وهو أن الشهرة ليست شراً خالصاً؛ لكنها إذا كانت هدفاً في حد ذاتها وغاية كانت هي الشر بعينه.
لن تسمح لك بالعمل أو الإنتاج أو الإبداع، وستصاب سريعاً بالإحباط والتذمر كلما تأخر عنك ثناء أو مديح