اقرأ بعنايه مع كوب قهوه اوشاي.!
لقد شغل هذا السؤال الفلاسفة من قديم الزمان، ثم عاد يشغل العلماء اليوم كما كان يشغل الفلاسفة من قبل.
كان الرأي الغالب في القديم أن النفس هي الجوهر الحق، أو على الأقل الجوهر الأسمى. وأن الجسم مجرد مظهر، أو ((محل)) تحل فيه النفس. أو على أكثر تقدير هو الجوهر الأدنى.
ثم ظل محور الثقل ينتقل رويداً رويداً حتى أوشكت المدرسة التجريبية في علم النفس أن تقول ـ أو لعلها قالت بالفعل ـ إن الجسم هو الأصل. هو الحقيقة. هو منبع كل ألوان النشاط الحيوي من فكر وحس وإدراك وتذكر وانفعال وتصرف. وإن ما نسميه ((النفس)) ليس إلا انعكاساً للنشاط الجثماني. وجاء علماء الغدد ليؤكدوا هذه ((الحقيقة!)) حين قالوا إن الغدد هي التي تتصرف في كل نشاط الإنسان، وهي موطن غرائزه وميوله ونزعاته.
هل صحيح أن النفس هي مجرد الإطار الخارجي الذي تنعكس فيه كيميائيات الجسم وكهرباؤه. وأنها ليست جوهراً مستقلاً كما كان يتصور القدماء، فضلاً عن أن تكون هو الجوهر الأسمى؟ وهل كل هذه المشاعر النبيلة التي يشيد بها الأخلاقيون والفلاسفة وتدعو إليها الأديان وتسجلها قصص البطولة .. هل هي كلها مجرد إفرازات كيميائية، عضوية وغير عضوية، تفرزها أجهزة الجسم المتعددة، أو مجرد نشاط كهربي في نسيج الجسم؟
إن الخلاف بين النظرتين ليس مسألة هينة. إنه خلاف في تقويم الحياة كلها. خلاف في تقويم ((الإنسان)). هل نعامله على أنه نفس أم على أنه جسم؟ هل نعطيه دروساً في الأخلاق تدريبات على الفضيلة أم نعطيه حقناً كيميائية؟! فإذا كان الإنسان غدداً وإفرازات كيميائية ونشاطاً كهربياً فما معنى العقائد؟ وما قيمة المثل؟ وما دلالة الأفكار؟ ولماذا نتعب أنفسنا في ذلك كله؟ لماذا نعني أنفسنا ((بالقيم))؟ لماذا لا نترك هذا الحيوان الإنساني يتصرف كما توحى إليه غدده وإفرازاته، أو كما خلقته ((الطبيعة))؟
من البديهيات المعروفة أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا غذاء. وأن نشاطه الجسدي والفكري والنفسي كله متوقف على كمية من الغذاء يتناولها بين الحين والين. ولكن مَن يقول إن قصيدة الشعر التي أكتبها أو اللوحة التي أرسمها أو الفكرة التي ابتدعها أو النشوة النفسية التي أحس بها هي المعادل الرياضي لهذا الغذاء بحيث أستطيع أن أكتب هذه المعادلة:
س فيتامينات + ص بروتينات + ع نشويات + و ماء
= قصيدة في وصف الربيع!!
أو = عقيدة
أو = نظرية هندسية!
ولماذا لا تنشأ القصيدة أو العقيدة أو النظرية الهندسية في جسم الحيوان الذي يشارك الإنسان في تناول هذه الفيتامينات والبروتينات والنشويات والماء؟
بل لندع الحيوان جانباً. فقد تكون كيميائياته ناقصة! لماذا لم يبتدع الناس جميعاً نظرية كنظرية النسبية التي ابتدعها إينشتين، أو أدباً كأدب شكبير ودستويفسكي، أو جهازاً لاسلكياً كماركوني أو قنبلة ذرية كالعلماء الألمان الذين ((سرقهم)) الحلفاء في نهاية الحرب وجندوهم لتفجير الذرة؟
إن هؤلاء جميعاً يأكلون نفس الفيتامينات والبروتينات والنشويات والماء .. ولم يثبت العلم التجريبي أن مخ هؤلاء العباقرة يحوي مادة أخرى غير ما في أمخاخ الآخرين.
وهل لو أخذنا الإفرازات الكيميائية المتمثلة في جسد الشاعر وقت ((إفرازه)) قصيدته ثم حقنا بها ذلك الجلف الغليظ الحس، أو حتى ذلك الفتى المرهف الحس الذي لا دراية له بنظم الشعر … هل تكون نتيجة الحقنة أن يمسك بالقلم ويكتب لنا نفس الأبيات التي كتبها الشاعر؟!
لم يقل ذلك أحد من السادة العلماء.
كل ما قالوه أن حقنة من الإفرازات الداخلية في جسم مُتعَب، تشيع التعب المفاجئ في الجسم النشيط حين يحقن بها، لأنها مجموعة من السموم التي تؤثر في الخلايا والأنسجة فتحيل نشاطها إلى خمول. وقالوا إن حقنة من جسم كلب على وشك الموت لأنه حرم من النوم عدة أيام، قتلت كلباً سليماً معافى كان يأخذ نصيبه الطبيعي من النوم والغذاء والرياضة.
نعم، كل ذلك مفهوم. إنه ((جسم)) يتأثر بإفرازات جسم مماثل. ولكنا لم نجد بعد أن الحقن بالإفرازات الجسمية ينشئ أفكاراً وفنوناً وعقائد تشابه مثيلاتها عند صاحب الإفرازات!
ثم إن هذه هي نصف الحقيقة. فلماذا يحتفل بها العلماء كل هذا الاحتفال ويهملون النصف الباقي؟
لقد جعلوا كل همهم دراسة تأثير الجسم في النفس. فلماذا لا يدرسون كذلك تأثير النفس في الجسم؟
إنني أكون متعباً، متضايقاً، مهموماً، آيساً من الحياة .. بمعنى أن إفرازاتي الداخلية من الغدد والأجهزة الأخرى قد رسمت لنفسي هذا الإحساس، ووجهتها ـ بغير إرادتها ـ هذه الوجهة … ثم أرى فلاناً من الناس أحبه فتنطلق أساريري وآنس إليه وأنسى نظرتي القاتمة إلى الحياة .. بمعنى أن إفرازاتي الداخلية من الغدد والأجهزة الأخرى قد تغيرت مناسيبها وأنواعها، فرسمت لنفسي هذا الاتجاه الجديد. فماذا حدث يا ترى؟ هل مجرد الانعكاس الضوئي لصورة هذا الشخص على شبكية العين هي التي تحرك هذه الإفرازات، بحيث لو نقلت هذه الإفرازات إلى المعمل، وعكست عليها صورة الصديق تنقلب ـ كيميائياً ـ إلى إفرازات فرحة مستبشرة؟!
أوَليست هذه ((عملية نفسية)) تؤثر في نشاط الجسم، وتعدل إفرازاته وكيميائياته؟
وأكون متعباً .. بمعنى أن إفرازات التعب قد سممت خلايا جسمي وأنسجته. فأعجز عن الاستمرار في العمل، وأحس بحاجة ملحة إلى الراحة. ثم فجأة يخطر في بالي خاطر .. إن المصلحة العليا، إن العقيدة التي أعتنقها، إن حبي لفلان من الناس، إن رغبتي في زيادة الكسب، إن رغبتي في التفوق على فلان .. تعطيني عزيمة جديدة، فأندفع في العمل بروح ماضية، وأحس أن التعب قد زال، وأنني أستطيع أن أعمل عدداً آخر من الساعات .. فما الذي حدث؟ من أين جاءت الإفرازات الجديدة التي عدلت الإفرازات الأولى وعادلت ما فيها من سموم؟!
أوَليست هذه دوافع نفسية تؤثر في نشاط الجسم وتغير إفرازاته وكيميائياته؟
وطاقة الجسم البشري محدودة. محدودة بالحساب المادي لقوة أنسجته واحتمال خلاياه فكيف حدثت على مدار التاريخ تلك المعجزات من احتمال بعض الأفراد من ذوي العقائد ألواناً من التعذيب لا يتصورها العقل، ثم ظلوا أحياء، وظلوا محافظين على قواهم العقلية، وظلوا مستبشرين للحياة واثقين بالله، وبعض هذا التعذيب يقتل آخرين، وبعضه يفسد قواهم العقلية، وبعضه يورث الهم والحزن ويشيع اليأس من الحياة؟
هناك إذن علاقة متبادلة بين النفس والجسم. فما هي يا ترى هذه العلاقة؟
في الأمومة والأبوة إن إحساس الأم بطفلها هو أنه جزء منها. من صميم كيانها، تحس وجودها في وجوده، ويتحقق كيانها بتحققه. إن هذا الإحساس النفسي مواز للحقيقة الجسمية وهي نشوء الطفل في داخل جسم الأم واتحاد كيانهما الجسمي فترة من الزمن يتغذيان من غذاء واحداً ومن ((كيان)) واحد.
وإن إحساس الأب بطفله مختلف. فهو يحس أنه جزء منه، ولكنه جزء موجود خارج كيانه، والعلاقة بينهما هي مودة الألفة والصداقة أكثر مما هي وحدانية الكيان. وإن هذا الإحساس مواز للحقيقة الجسمية وهي أن ((المادة)) التي يشارك بها الأب في تكوين الطفل، مادة تندفع إلى الخارج ولا تبقى داخل الجسم كما يحدث في حالة الأم.
لست أقصد أن الاتجاه النفسي ينشأ من الحالة الجسمية ولكني فقط ألحظ التوازي في الاتجاه.
وقلت إن الجسم في سبيل الحصول على الرشاقة يحتمل كثيراً من الجهد ويحتاج إلى كثير من التدريبات لا يصل إلى الرشاقة بدونها، ولكنه بعد ذلك ينعم بهذه الرشاقة ويحس بالخفة والانطلاق. وكذلك النفس تحتاج إلى تدريبات وجهد، وامتناع عن بعض الرغبات لتصل إلى الرشاقة النفسية، ولكنها بعد ذلك تنعم بهذه الرشاقة وتحس بالخفة والانطلاق.
العضلات الجسمية تتضخم وتقوى بالتدريب المستمر والاستخدام الطويل، وتذبل وتضوي بالإهمال حتى لتكاد تعجز عن وظفتها. والخصائص النفسية كذلك لابد من استخدامها وتدريبها لتقوى. وإذا أهملتها ذوت وضعفت حتى كأنها غير موجودة. ومن هنا يعجز العبد عن التصرف الحر، لا لأن كيانه النفسي مختلف في أصله عن كيان الحر، ولكن لأنه لا يستخدم أجهزة التصرف. وهذا ما يلجأ إليه الاستعمار في استعباد الشعوب نفسياً إذ يسلبون الشعوب حرية التصرف فتستعبد على مر الأيام.
والكيمياء الجاهزة يحتاج إليها الجسم أحياناً في صورة فيتامينات. ولكنها لا تؤدي مهمة الغذاء الطبيعي كاملة، إذ أن الجسم يستفيد أكثر من الغذاء الذي يهضمه ويمثله ويختار منه ما يريده ويطرد فضلانه: أي يتفاعل معه تفاعلاً إيجابياً في كل مرحلة من المراحل. والنفس كذل. قد تحتاج أحياناً إلى أفكار جاهزة ومشاعر جاهزة أو لكنها لا تستطيع أن تعيش عليها، ولابد أن تذوي وتضعف إن لم تقم بالتفاعل الإيجابي مع الأفكار. لهذا يقف النمو النفسي للشعوب الجماعية، ذوات الحكومات الدكتاتورية التي تلقنها أفكاراً جاهزة ومشاعر جاهزة تنتجها معامل الدولة كما يحدث في الشيوعية.
وغير ذلك كثير.
كلها أمثلة تشير إلى وجود تواز بين كثير من التصرفات النفسية والتصرفات الجسمية في الإنسان.