أزعم أن حجم المبالغة في حياتنا يفوق ما نتوقّع ، سواء فيما يصدر عنّا أو ما نتلقاه من رسائل لفظية أو غير لفظية ، مكتوبة أو شفهية ، صريحة أو رمزيّة . لكن الأمر يحتاج إلى توقّف وتدقيق ومراجعة ؛ لنكتشف مقدار هذه المبالغة بأنواعها ، ومن ثم لنتبيّن آثارها في تفكيرنا ، وفي تعاملنا مع الأشخاص والأفكار والأشياء . وهذا ما سأحاول أن أشير إليه ، ولو بوميض ضوء سريع ، لا يفي الموضوع حقه ، وإنما يُلمحُ ويومىء ، بقدر ما تتيحه مساحة المقال .
• ما هي المبالغة … ؟؟
المبالغة ليست كالافتراء ، فهي لا تستند إلى وقائع غير موجودة ، وإنما تعتمد على وقائع وأحداث ومعلومات صادقة وقائمة من حيث المبدأ والأصل ، إلا أن الذي يرويها أو يصفها أو يعبّر عنها يَعمَدُ إلى التحوير في تفاصيلها ، أو التغيير في معطياتها وملامحها ، سواء بالإضافة أو الحذف أو التعديل ، وغالباً ما يلجأ في ذلك إلى التهويل ، وإضافة المؤثرات وأساليب التشويق، التي تجعل الحديث أكثر إلفاتاً وجذباً وإثارة ، سعياً نحو التأثير في المتلقي ، تأثيراً يتناسب مع دوافع وأهداف المُرسِل (المتحدث أو الكاتب مثلاً) ، وقد لا تعدو تلك الدوافع أن تكون أحياناً نفسية بحتة ، أو يكون الهدف منها مجرد محاولة إثبات رأي أو فكرة . إلا أن مآرب المبالغة وبواعثها قد تكون أعمق من ذلك وأبعد ، حين ترمي لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية أو مالية ، ومن ذلك المبالغة التي تدخل في صميم الشائعات غالباً، والمبالغات التي تلجأ إليها وسائل الإعلام أحياناً ، أو التي تتضمنها بعض الخطابات والكتابات، إضافة إلى ما تتضمنه وسائل الترويج والدعايات ، ناهيك عن المبالغات التي تسود في مجال العلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل ، والتي تهدف عادة إلى التقليل من شأن الآخرين ، وتشويه سمعتهم وإيذائهم ، تحقيقاً لمآرب نفسية ، أو مصالح مادية .
• المبالغة المقبولة …
رغم ما تقدم فإن المبالغة ضمن حدود معينة تعدُّ مقبولة وطبيعية ومبررة ، وذلك حين تكون أداة من أدوات بعض أنواع الفنون والآداب ، فالمبالغة مثلاً جزء أساسي من (البيان) بما فيه من تشبيه ومجاز وكناية . وهي (أي المبالغة) عنصر يعتمد عليه الكاريكاتير ، والدراما ، وكذلك النكتة (بالنظر إليها كنوع من الأدب الشعبي) ، ومما يبرر للفن (ومنه الأدب) اعتماده في كثير من الأحيان على المبالغة ، أنه يعبّر عن مشاعر ، يحتاج توضيحها ونقلها إلى المتلقي إلى صور تحمل بطبيعتها مثل هذه المبالغة .
• المبالغة في أحاديثنا اليومية ..
تظهر المبالغات في لغتنا العامية واضحة ، فقد تسأل شخصاً عن الطقس في الخارج مثلاً ، ويكون يومها حارّاً ، فيجيبك : (الطقس نار) ، وربما تسأل مُتعَباً عن أحواله ، فيرد عليك : (ميّت من التعب) ، وتسأل شخصاً مالاًّ ضجراً عن أموره ، فيقول : (طالعه روحي) ، ويمكننا بطبيعة الحال أن نأتي بعشرات الأمثلة على مثل هذه المبالغات . وهي في الحقيقة مبالغات لا يقصد بها الكذب ، ولا تُسبب لَبساً لدى من يسمعها ، حيث يفهم منها قصد المتحدث فوراً ، فكأنها عبارات جاءت على الحقيقة وليس على المجاز . لكن ما يُخشى منه هو أن تؤثر مثل هذه التعابير القائمة على المبالغة في تفكيرنا وعاداتنا اللغوية ، وفي سمة الخطاب الذي نستخدمه ، فتصبح (أي المبالغة) وكأنها جزء عادي ومباح من أقوالنا لا حرج فيه .
ولكي أوضح الفكرة الأخيرة ، أقول إن اعتيادنا على اللغة التي تستخدم المبالغة فيما لا يضرُّ ، قد يؤدي إلى فقداننا الإحساس بقيمة (الصدق) وقيمة (الدقّة) ، مما يُؤدي إلى المبالغة التي تضرّ ، وإلى المبالغة فيما يجب تحري الصدق والدقة فيه . فقد أصبح عادياً لدينا أن نستخدم مثلاً عبارة (خمس دقائق) للتعبير عن أي وقت نريد أن نوحي بأنه قصير . فربما تكون على موعد مع شخص ، فيسألكَ : متى تصل ؟ فتجيب تلقائياً : (خلال خمس دقائق) ، بينما يكون قَطْعُ المسافة إليه مما يستغرق عشرين دقيقة مثلاً ، وهذه مبالغة في التقليل تتعلق بالوقت وبالتعامل ، وبالتالي فإن لها آثارها السلبية . أضف لما تقدم أننا قد اعتدنا استخدام المبالغة في الجزم ، فنحن نستخدم في أحاديثنا وكتاباتنا عادة عبارات مثل (ومن المعروف)، (لا شك) ، (لا يختلف اثنان على) مع أنه ليس في الدنيا حقائق معروفة للجميع ، أو ليس فيها شك لدى أحد ، أو لا يمكن أن يختلف عليها شخصان ، وهذا النمط من المبالغة يؤثر مباشرة في تفكيرنا ، لأنه يصور الأمور لنا بأنها جازمة لا تقبل إعادة التفكير أو المناقشة .
• المبالغة عند رواية القصص …
وربما أصبح عادياً لدينا أن تكون رواية القصص في الأحاديث والمجالس مُفعمة بالمبالغة ، فنستمعُ إليها ونتفاعل ونضحك أو نحزن ، ونحن نعرف في قرارة نفوسنا أن الألفاظ والعبارات والصور المستخدمة فضفاضة واسعة ، وأكبر بكثير من الوقائع والحقائق. وهذه مبالغات تقبل بها الثقافة السائدة ، وتساعد عليها لغتنا ، بما فيها من إمكانية لاستخدام صيغ التفخيم والتضخيم ، واستخدام أدوات البيان . إضافة إلى ما في التراث من مبالغات تتجاوز المعقول في الفخر بالقوم والفخر بالذات والمديح ، بل وفي الهجاء كذلك ، وكل ذلك يؤدي إلى رسوخ نهج المبالغة ، وظهورها فيما يجب تحري الدقة فيه ، كما في مجال الدراسات والأبحاث والعلوم والتاريخ والنقد والمخاطبات المتعلقة بالعمل والتي يعتبر دخول المبالغة إلى أيٍّ منها مشكلة حقيقية .
إبراهيم كشت