القرض
آثاره وأضراره وعلاج آفاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) – أي الدين – وقد جاء في الأثر: (الدين هم بالليل ومذلة بالنهار).
فدعني أخي الحبيب يا من ابتليت بالديون، أن أوجه لك خطابي هذا عسى أن ينفعك الله به قبل أن يأتي عليك يوم لا ينفع فيه الندم.
أثر الدين على الأسرة والفرد :
الفرد والأسرة هما العنصران الرئيسان في المجتمع المسلم، ولذلك نجد الكثير من الآيات والأحاديث والقواعد الشرعية العامة التي جاءت لحفظ هذين الكيانين.
فمن تدبر الآيات التي تدعو المسلم على المستوى الفردي للإيمان وصحة العقيدة والعدل والإحسان وإصلاح النفس وتقوى الله وغيرها من المفاهيم الدينية، لمس حرص وعناية الشارع الحكيم في بناء الشخصية المسلمة الصحيحة والسليمة عقدياً وفكرياً ونفسياً.
وكذلك على المستوى الجماعي: فالحقوق العامة كصلة الرحم وحق الجار على الجار، وحق المسلم على المسلم، وتعامل المسلم مع غيره من أهل الديانات المختلفة، وتعامله مع الحيوان والنبات والجماد.. وفق القواعد الشرعية الصحيحة، وكل هذه التشريعات الربانية جاءت لتحافظ على كيان الفرد والأسرة والمجتمع، وتنظم علاقة الإنسان بأخيه في المجتمعات كلها.
وهكذا نلمس وندرك حرص الإسلام على حفظ كيان المجتمع، بتنظيم علاقات الأفراد مع بعضهم البعض، نجد من الناحية الأخرى أن الإسلام حارب كل ما يعكر صفو هذه العلاقة.
ومن هذه الأمور التي تنخر هذا البنيان الاجتماعي المتين: القروض والديون بصورها المختلفة، فكم من أسر تهدمت وتشردت أسرياً واقتصادياً ونفسياً..
وذلك أن السجن هو في الغالب جزاء من لا يستطيع الوفاء بدينه، وكفى بذلك سبباً في ضياع الأسرة وتفكك أواصر العلاقات الأسرية بين الزوجين.
فغياب العائل والمربي والقدوة والركن الأساس في الأسرة هو شرخ كبير في هذا الكيان الاجتماعي المهم، فماذا ننتظر من الأبناء الذين ترعرعوا وشبوا في مثل هذا الظرف الأسري السيئ، وقد جاء في الحديث (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) حديث صحيح.
فانتبه يا أخي – رعاك الله – إلى فداحة الخطب، وسوء العاقبة، وضياع الأسرة بمخالفتك للشرع – حفظك الله من ذلك – وانتبه إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم محذراً ومنبهاً إلى خطورة آثار الدين وسؤال الناس، حيث قال فيما رواه عنه أنس بن مالك رضي الله عنه : (إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع) رواه أحمد.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) – أي الدين – فقال رجل: يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ من المغرم!! قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل إذا غرم كذب ووعد فأخلف).
يشير الحديث النبوي الشريف إلى العلل والأمراض النفسية التي قد تصيب المقترض من جراء خوفه من غرمائه، من حيث مطالبته بسداد دينه، (إذا غرم كذب ووعد فأخلف) فهذه التصرفات التي تصدر من المستدين غير طبيعية، وتكون غالباً من شعوره بالخوف والخجل من مواجهة الأشخاص؛ خوفاً من مطالبته برد الأموال التي استدانها، مما يسبب له مثل هذه الحالات، وبهذا يشير الأثر (الدين هم بالليل وذل بالنهار).
وطبعاً وكما هو معلوم، فإن هذه الأمراض النفسية تكون أثرها على المريض أشد من الأمراض العضوية.
فلماذا نستدين؟؟!
واعلم أن الأصل في الاستدانة هو الكراهة شرعاً لمن عرف عن نفسه عدم القدرة على الوفاء بالدين.
وللأسف فإن المشاهد في زماننا هو خلاف هذا الأصل، فالاستدانة أمست في مجتمعاتنا من طبيعة حياتنا، فقلما تجد من يعيش حياته بغير ديون، والمؤسف في الأمر أن الاستدانة تكون في الغالب لأمور ثانوية لا ضرورة لها، وفي كماليات يمكن للإنسان أن يستغني عنها ، ويعيش بدونها، ولا يجد أي حرج في ذلك، لكنه سفه العصر، والتي لا يقدر الفرد عاقبة فعله إلا متأخراً وبعد أن تضيق به الحال.
فلماذا نستدين؟؟!
الترهيب من الدين من كلام البشير النذير:-
صاحب الدين يوم القيامة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات وعليه دينار، أو درهم قضي من حسناته، ليس ثم دينار ولا درهم). رواه ابن ماجه بإسناد حسن.
وهذا في ظرف يكون العبد أحوج فيه ما يكون إلى الحسنات، فتدبر رعاك الله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضى عنه) رواه احمد والترمذي والحاكم وقال: صحيح.
هذه حال صاحب الدين فهو معلق في عرصات يوم القيامة حتى يقضى عنه دينه في يوم ليس فيه دينار ولا درهم وإنما السداد يكون بأنفس شيء في ذلك اليوم وهو الحسنات والسيئات، وإخوانه من المؤمنين يتنعمون في جنة عرضها السماوات والأرض.
الدين والشهيد في سبيل الله:
عن محمد بن عبد الله بن جحش رضي الله عنه، قال: كان رسول الله قاعداً حيث توضع الجنائز فرفع رأسه قبل السماء، ثم خفض بصره فوضع يده على جبهته، فقال: (سبحان الله، سبحان الله، ما أنزل من التشديد). قال فعرفنا وسكتنا حتى إذا كان الغد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: ما التشديد الذي نزل؟ قال: ( في الدين، والذي نفس محمد بيده لو قتل رجل في سبيل الله، ثم عاش، ثم قتل، ثم عاش، ثم قتل، وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى دينه) حديث حسن رواه النسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد واللفظ له.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين). رواه مسلم.
والحديثان الأخيران في الشهيد، ولا يخفى على مسلم ما للشهيد من أجر وكرامة عند الله، هذه حالة الشهيد الذي يشفع لسبعين شخصاً يوم يقوم الناس لرب العالمين، ومع هذا لم يعف من دين استدانه، فكيف بحال غير الشهيد؟!
طرق علاج هذه الآفة:
1- الصبر:
قال تعالى: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) “لقمان:17”.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). رواه مسلم.
2- القناعة:
قال تعالى: (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين)”الحجر:88″، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله قال (أبو معاوية) عليكم). متفق عليه.
3- عدم الإسراف:
قال تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) “الأعراف:31”.
4- الادخار:
قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام : (قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون).
وعن عبدالله بن سرجس المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة). رواه الترمذي وقال حسن غريب.
خاتمة:
هذه النقاط الأربع المذكورة آنفاً يمكن لكل مطلع على هذا الموضوع أن يرى قصوره في أي جانب من هذه الجوانب، ويحاول أن يستزيد من المعلومات والتجارب، التي تساعده في تغطية هذا القصور، فالمجال هنا ليس مجال توسع في السرد، ولكن خيطاً يبين لك أخي المسلم الخطوة الأولى على الطريق الصحيح.
وفي الختام نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، ونختم موضوعنا هذا بتوجيه من مشكاة النبوة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: يا أبا أمامة ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك؟ قال: قلت بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)، قال: ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني.
وصلى اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
———————————————————-
[1] مكتب البحوث والدراسات، “الدين… آثاره وأضراره وعلاج آفاته”، صندوق الزكاة، دولة قطر.