العولمة، والعالمية، والحداثة
قبل أن نبدأ بالكلام عن هذا الموضوع لا بد من إثارة الأسئلة التالية:
هل هناك فرق بين المفاهيم الثلاثة ؟هل هناك علاقة ترابطية بين كل من المفاهيم السابقة ؟
هل الحضارة ، وما فيها من علوم جديدة ، تحمل نفس المفاهيم ؟ أو أنها خرافة ؟
هل الديانات السماوية عالمية ، أم ماذا ؟
ونبدأ في الحداثة : فالحداثة مفهوم فكري يراد له أن يكون عالميا، أي أن تتم عولمته، أي رفع مستوى الفكر في كل المواضيع العلمية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية والدينية ، لتتماشى وروح العصر الحديث. فالطلاق مثلا ، يمكن أن يتم بالخلع بغير ما تعارف عليه أبائنا وأجدادنا وديننا، والنتيجة هو انهيار الأسر وضياع الأولاد . واستعمال الكومبيوتر بكل برامجه، ومكوناته، للصغار والكبار هو نوع من الحداثة ، والحداثة المتقدمة جدا، واستعمالها في غير أصولها معناه الانحراف وفساد فئة الشباب، وبالتالي انهيار المجتمع . كما أن الحداثة تدعو بإلحاح شديد إلى ركوب قطار العولمة و الانخراط فيه “تأثيرا” وتأثرا . الحداثة إذن مفهوم قياسي بين الماضي بكل معتقداته وبين الحاضر وكل صرعاتة .ولكن السؤال الذي يفرض نفسه الآن، ما هي ضوابط الحداثة ؟ فإذا ما تلازمت الحداثة مع الضوابط العلمية ، والقانونية ، والأخلاقية ، والدينية ، فسوف تنقلب الأمور إلى فوضى وعدم التزام ، وبالتالي الكارثة المحققة . لا احد يعترض على التقدم العلمي سواء في العلوم النظرية أو التطبيقية ، ولكن الاعتراض يقوم في محددات الاستعمال، فلا فرق بين أن أضع بين يدي طفل شاشات أزرار تشغيل محطة الكهرباء آو مفاتيح الصواريخ، وان أضع بين يديه شاشات الكومبيوتر والنت ، واتركه يمارس هواياته على هذه الشاشات العلاقة والمتقدمة جدا. النتيجة معروفة مسبقا وهي الدمار الكامل ليس فقط لعائلة الطفل وإنما للدولة التي ينتمي إليها الطفل . ولكن لماذا ؟ لان الضوابط غير موجودة ، الضابط الأخلاقي نابع من الاعتقاد ، والاعتقاد نابع من الديانات، والسؤال الآن ؟ هل هناك حدود للضوابط الأخلاقية ، نعم هناك حدود إذا كانت ممارسات الأفراد تربت وتقدمت بنفس سرعة التقدم العلمي والتكنولوجي، وإلا الكارثة المادية ، والأخلاقية ، وفساد المجتمع بكل مكوناته. فالحداثة إذا لم يكن لها حدود ومسيطر عليها بجيش قوي ومؤمن فسوف يتم اختراقها وتقع الكارثة، وهنا نتفق والرأي القائل بان الحداثة والعولمة هي نوع من السيطرة على العقول الطاهرة والبريئة بقصد تحقيق أغراض شيطانية كما يصفها بعض المفكرين .
و العولمة :هي الأخرى ظاهرة يراد منها الترويج للحداثة، و من هنا تحدد العلاقة الترابطية بينهما. و تسويق الحداثة كفكر يعتبرمن آخر صيحات “الموضة الفكرية” ، فهي إذن ، إجراء تمهيدي يرمي تحقيق التبعية الفكرية و المركزية الغربية لكل المحدثات ،و من ثم التبعية الاقتصادية المادية. و هذا ما نقرأه بالضبط في “المادية التاريخية” لكارل ماركس و ينص عليه هو في تفسيره للتاريخ،إنه يرى أن كل شيء يباع و يشترى، و ما من شيء إلا ويباع ويشترى . فالتحلي بالفضيلة معناه القديم بناء الفرد والدولة الفاضلة ، وبمعناه الجديد هو ركوب القطار الغربي وديمقراطيته في تفسير الأمور(أي الشيطنة ). إن العولمة ظاهرة ضاربة في القدم،و يمكن أن نذهب بها إلى حد أبعد، فنقول بتزامن ظهور العولمة مع بروز التكتلات البشرية في فجر التاريخ، لذا لا يمكن لنا أن نجازف في تقييم ظاهرة العولمة هكذا بإطلاقية و اختزالية، أو ليست الفتوحات الإسلامية شكل من أشكال العولمة الفكرية؟ و هل “العولمة الإسلامية” في عصرها الذهبي كالعولمة الحداثية الآن؟ إن ما ينبغي تقييمه إذن هو ما يراد شوملته و عولمته. ورجوعا إلى تصور ابن خلدون لمفهوم الدولة “إن الدولة في التصور الخلدوني التاريخي القائم على معيار “طبائع العمران” -بأسلوب معاصر- هي “الامتداد ألزماني لحكم عصبية ما”،فهو يشبهها بكائن حي يولد ثم ينمو و يكبر بحسب قوة العصبية و تلاحمها التي تمكنها من إخضاع العصبيات الأخرى،ثم تذبل و تهرم عندما يتفنن أهلها في حياة الترف و البذخ أو ما يسمى في اصطلاح صاحب المقدمة ب “الحضارة” . السؤال الذي يطفو فوق السطح هو : إلى ما آل مصير البشرية بتغييب العقل الديني كموجه و مؤطر لهذه العلوم و آثارها؟ لعل الجواب يحسم فيه مجرد إلقاء نظرة خاطفة على مجريات واقعنا، و سنعي حاجتنا إلى القيم التي يشكل لها الدين معينا لا ينضب،و سنعلم يقينا بأن من يعتقد في امتلاك العلم الجاف لعصا سحرية تمكن من حل كل مشاكلنا ، حالم رومانسي أبعد ما يكون عن الواقعية، وعندئذ لنتحدث مع المفكر الإسلامي المصري محمد قطب عن “خرافة العلم”،يقول :” إن ما يقرب من نصف سكان الكرة الأرضية يعبدون خرافة أخرى –في مقابل خرافة الوثنية- لا تقل انحرافاً بالناس عن الحق، ولا إفساداً لضمائرهم ومشاعرهم وعلاقات بعضهم ببعض، بل ربما كانت أكثر انحرافاً وأشد خطراً: تلك الخرافة هي العلم!!”،و يضيف قائلا ” العلم أداة جبارة من أدوات المعرفة، وقد خطا بالبشرية كلها خطوات واسعة في سبيل التقدم والرقي، ولكن إيمان الغرب به على أنه الإله الأوحد، وإغلاق كل منافذ المعرفة سواه، قد ضلل البشرية عن مقصدها، وضيق آفاقها وحصر مجالها في الميدان الذي يستطيع العلم التجريبي أن يعمل فيه، وهو ميدان الحواس. ومهما يكن من سعة هذا الميدان فهو ضيق بالنسبة لطاقات البشرية؛ ومهما يكن من رفعته فهو أدنى مما يستطيع الإنسان أن يرتفع إليه، حين يرتفع بفكره وروحه جميعاً، فيتصل بحقيقة الإلوهية ويقيس من نور المعرفة الحقة ببصره وبصيرته في آن واحد، وذلك فضلاً عن الخرافة التي تخيل للمؤمنين بها أن العلم يستطيع أن يصل بهم إلى كل أسرار الكون والحياة، والتي تخيل لهم أن ما يثبته العلم هو وحده الحق، وأن ما لا يستطيع إثباته هو الخرافة!”
وخلاصة البحث أن مصطلح العولمة منشأه غربي، وطبيعته غربية، والقصد منه تعميم فكره، وثقافته، ومنتجاته على العالم، فهي ليست نتيجة تفاعلات حضارات غربية وشرقية، قد انصهرت في بوتقة واحدة ؛ بل هي سيطرة قطب واحد على العالم ينشر فكره ،وثقافته مستخدمة قوة الرأسمالي الغربي لخدمة مصالحه. فهو من مورثات الصليبية . فروح الاستيلاء على العالم هي أساسه ولكن بطريقة نموذجيه يرضى بها المستعمر ويهلل لها ؛ بل ويتخذ هذه الصليبية الغربية المتلفعة بلباس العولمة مطلب للتقدم . يقول “بات روبرتسون:” لم يعد النظام العالمي الجديد مجرد نظرية ، لقد أصبح وكأنه إنجيل.” . فصحيح إن لا احد في الغرب أو الشرق قال سراحه إن (العولمة ) بمضمونها هذا ومعناها ذاك , أول نوع من الحتميات التاريخية ترتقي إلى مراتب المذاهب أو العقائد أو الايدولوجيا ,التي حفل بها التاريخ الإنساني ,إلا إن أنصار,” العولمة “لا تفوتهم فرصة إلا ويؤكدون من خلالها إن (العولمة ) هي المستقبل ولا مستقبل بغيرها . وتخوفنا من العولمة ، والحضارة ، والحداثة هو : تحويلها إلى النظام الغربي الرأسمالي أو ما يطلق علية ألان ” الأمركة ” وبالتالي تهديد الحدود الوطنية والقوميات، وجعله عالمياً دون سيادة، كما تجعل العالم سوق مفتوحة , وحرية انتقال الأموال والثقافات والاتصالات والتكنولوجيا دون قيود، وتحول العالم إلى قرية صغيرة . وهذا ما تسعى إلية الدول المتبنية للعولمة وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لأنها الأكثر استفادة من ذلك . ولكون العولمة ليست اقتصادية فقط فإن ذلك يزيد التخوف من تبعاتها لان هذا سيؤدي إلى التأثير في سياسات وكيانات دول قائمة وكذلك حضارات وثقافات ممتدة عبر التاريخ وبذلك تتاح الفرصة للقوي للاستفادة أكثر، فالعولمة مثلاً تؤثر على اقتصاديات الدول العربية لطبعها ( نامية من العالم الثالث ) , ويؤثر عليها ثقافياً وحضارياً وتهدد هويتنا الثقافية والحضارية والفكرية المستمدة من الدين الإسلامي ، وكذلك تؤثر على الكيانات السياسية المختلفة بإزالة بعضها ودعم البعض الأخر وإيجاد أنظمة سياسية لم تكن موجودة سابقاً لخدمة الدول الأقوى وذات التأثير، وما الثورات العربية (الربيع العربي الحالي ) إلا امتداد فكري لمفهوم أمريكا ومن حالفها برسم الشرق الأوسط الجديد المتحالف مع الغرب وحلفائه .
العالمية :
فهي انفتاح على العالم ، واحتكاك بالثقافات العالمية مع الاحتفاظ بخصوصية الأمة وفكرها وثقافتها وقيمها ومبادئها . فالعالمية إثراء للفكر وتبادل للمعرفة مع الاعتراف المتبادل بالآخر دون فقدان الهوية الذاتية . وخاصية العالمية هي من خصائص الدين الإسلامي ، فهو دين يخاطب جميع البشر ، دين عالمي يصلح في كل زمان ومكان ، فهو لا يعرف الإقليمية أو القومية أو الجنس. جاء لجميع الفئات والطبقات ، فلا تحده الحدود . ولهذا تجد الخطاب القرآني موجه للناس جميعا وليس لفئة خاصة فكم آية في القرآن تقول ” يا أيها الناس” فمن ذلك قوله تعالى :” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ” وقوله تعالى :”يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ” وقوله تعالى :” يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ” إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها لفظة الناس وقد تجاوزت المائتين آية ؛ بل إن الأنبياء السابقين عليهم صلوات الله وسلامه تنسب أقومهم إليهم ” قوم نوح ” ” قوم صالح ” وهكذا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يرد الخطاب القرآني بنسبة قومه إليه صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على عالمية رسالته صلى الله عليه وسلم فهو عالمي بطبعه، ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ” . ومن أسباب تخلفنا عن الركب الحضاري هو إقصاء الإسلام عن عالميته ، وعدم زجه في كثير من حقول الحياة بزعم المحافظة على قداسته وطهوريته، وهذا نوع من الصد والهجران للدين ، وعدم فهم لطبيعة هذا الدين والذي من طبيعته وكينونته التفاعل مع قضايا الناس والاندماج معهم في جميع شؤون الحياة ، وإيجاد الحلول لكل قضاياهم وهذا من كمال هذا الدين وإعجازه . فهو دين تفاعلي حضاري منذ نشأته . فمنذ فجر الرسالة النبوية نزل قوله تعالى :” ألم ، غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ” فيذكر الخطاب القرآني الكريم المتغيرات العالمية ، لإدراك أبعاد التوازنات بين القوتين العظميين في ذلك الزمان ، وذلك ” أن المسلم يحمل رسالة عالمية ، ومن يحمل رسالة عالمية عليه أن يدرك الوقائع والأوضاع العالمية كلها وخاصة طبيعة وعلاقات القوى الكبرى المؤثرة في هذه الأوضاع . وهناك فرق بين عالمية الإسلام ، وعولمة الغرب، فعالمية الغرب تقوم على النزاعات والصراعات( قانون السمك)أما عالمية الإسلام فتقوم على التآلف والانفتاح والمشاركة