بسم الله الرحمن الرحيم
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
” اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفو عنا “
تجديد البعد العقلي
أ.د. عبدالكريم بكار
الحمد لله حمد الشاكرين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فإن الشخصية مركّب فذ من الجسد والروح والنفس والعقل ، ولها بعدٌ اجتماعي عظيم الأثر في وجودها . وإن كل نمو إيجابي في أي جانب من جوانبها ينعكس عليها جميعاً ، كما أن أي خلل يصيب أي جانب منها يعود بالضرر عليها جميعاً .
يستمد الاهتمام بالبعد العقلي نوعاً من التميز من خلال أن التفكير الجيد شرط لتنمية كل شيء في الحياة : التربية والاجتماع والاقتصاد والسياسة والعلاقات …
ويعد أي تطوير لأي جانب من جوانب الشخصية بالغ الأهمية ؛ حيث إن الرؤية الإسلامية تؤسس مقولة : ( الإنسان أولاً ) . أضف إلى هذا أن التقدم المادي والعضوي قد يكون محدداً بأسوار تجعل المضي فيه أمراً عسيراً أو مستحيلاً ، على حين أن أمداء النمو أمام البعد العقلي والروحي فسيحة جداً .
إن العقل البشري نعمة عظمى من الله جل وعلا وله قدرات هائلة ، هي أكثر مما يظن . ويمكن القول : إنه أشبه بعملاق نائم ! وقد دلّت الدراسات النفسية والتربوية ، وأبحاث الكيمياء والفيزياء والرياضيات أن ما تم استخدامه من إمكانات العقل لا يزيد على 1% من إمكاناته الحقيقية . الحاسب الآلي (كراي) حاسوب عملاق يزن سبعة أطنان ، فإذا عمل بطاقة 400 مليون معادلة في الثانية مدة مئة عام ، فإنه لن ينجز سوى ما يمكن للدماغ البشري أن ينجزه في دقيقة واحدة ] فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ [ [المؤمنون : 14] .
يمكن القول : إن لـ (العقل) شكلاً ومضموناً ؛ فشكله تلك القدرات والإمكانات التي زوّد الله تعالى بها أدمغتنا ، مثل القدرة على خزن المعلومات واسترجاعها ، ومثل القدرة على التخيل والتحليل والتركيب … وهذه متفاوتة بين الأشخاص متساوية على نطاق الأمم .
ومضمون العقل منه ما يعود إلى مجموعة المبادئ الفطرية العالمية التي لا تختلف بين شخص وآخر ، مثل إدراك عدم إمكانية اجتماع الضدين ، وإدراك أن الكل أكبر من الجزء ، وإدراك استحالة القيام بعمل خارج دائرتي الزمان والمكان .
ومنه ما يعود إلى شيء مكتسب مرتبط بالثقافة السائدة ، وهذا في الحقيقة يتشكل من مجموعة المفاهيم المترابطة والراسخة التي يحاول الناس من خلالها استيعاب الواقع الموضوعي وتنظيمه وتكييفه مع حاجاتهم … وهذا النوع من المضمون مطلّ بالضرورة على مبادئ التفكير الفطرية ومرتبط بها .
العقل من خلال شكله ومضمونه ينتج شيئاً نسميه : (العقلانية) . وبما أن (الثقافة) تختلف في مبادئها وقيمها وجمالياتها ورمزياتها بين أمة وأخرى ، فإن المتوقع من العقلانية أن تتسم بطابع النسبية ، بسبب الدور البالغ للثقافة في تكوينها . ولذا فليس ثمة عقلانية صافية أو محايدة أو مطلقة . ولعلنا نستشف هذا من النسق القرآني ؛ فهو إذا جمع بين الحكمة والتي هي مركّب من الذكاء والمعرفة والإرادة والكتاب في موطن واحد ، يقدّم الكتاب أولاً ، وكأنه يرمي إلى ضرورة تأطير (الحكمة) بالكتاب (الوحي) حتى تكتسب نوعاً من المرجعية ، وحتى تتخلص من النسبية التي تضفيها عليها الثقافة .
إن بُنانا الفكرية ليست معصومة من رياح التغيير العاتية ؛ فهي باعتبارٍ مّا انعكاس لما يجدّ من نظريات وآراء علمية واجتهادية مبثوثة في جميع مجالات الحياة ؛ ولذا فإن علينا أن نمتلك أعلى درجة من اليقظة والحذر حتى نصون عقولنا من البرمجات الثقافية والبيئية التي تحول دون استيعاب الواقع على النحو الصحيح ، ودون التطوير البعيد المدى الذي نحتاجه .
شروط للتجديد :
إن التجديد في أي جانب من جوانب الحياة ، يتضمن دائماً نوعاً من التخلي عن بعض المألوفات ، كما يرتب تكاليف جديدة ، ويتطلب ضبطاً أكثر للذات ، ولهذا كله كان شاقاً على النفس .
إن أول شرط من شروط التجديد : هو معرفة (الثوابت) على نحو جيد ، والتفريق بينها وبين (المتغيرات) وتتجلى الثوابت في الغاية الكبرى للوجود الإنساني ، وفي المبادئ والقيم العليا التي نؤمن بها ، إلى جانب الأحكام القطعية الواقعة
خارج نطاق الاجتهاد . إن التجديد المستمر كبير التكلفة ، ومفتاح معايشته هو أن يكون في داخل المرء (جوهر) يستعصي على التغيير ، ويمثل الفلك الذي تدور فيه جميع المتغيرات ، وتخدمه .
والشرط الثاني : هو امتلاك ما يكفي من الخيال والوعي للإحساس بالنهاية التي نرنو إليها .
والشرط الثالث للتجديد : أن يوقن المرء أن في إمكانه أن يغير عاداته الفكرية والنفسية والسلوكية ، وذلك يتوقف على القدرة على مجاهدة الأهواء والأوهام والكسل الذهني ، والإخلاد إلى المألوفات .
إن التجديد للبعد العقلي يتم بالتخلص من طرق التفكير الخاطئة ، وباكتشاف الإمكانات ، والآفاق التي تزيد في كفاءة تصوراتنا ، وتحسّن مستوى محاكمتنا العقلية ؛ ولعلي أسوق من ذلك ما يسمح به الوقت على النحو الآتي :
يدّعي معظم الناس أنهم قادرون على عزل أفكارهم عن مشاعرهم ، وأن بإمكانهم أن يحملوا مشاعر تعاطفية نحو أمر ما على الرغم من كونهم يحملون أفكاراً سيئة عنه . والحقيقة أن أفكارنا ومشاعرنا ، تتناوب التأثير والتأثر في معظم الوقت ، وهناك توافق بينها . والنجاح المتوالي يوجِدُ حالة نفسية تظلل جميع حياة الفرد ، وتجعله يعتقد أنه ناجح فعلاً . ويحدث العكس عندما تتوالى أحداث الإخفاق على الإنسان . في كلتا الحالتين تبدو الصورة التي نكونها عن أنفسنا كأنها الصورة الوحيدة الصحيحة ، ونتصرف بعد ذلك على هدي من معطياتها . والحقيقة أن الأمر ليس كذلك ؛ فحين يزور خمسة من الناس مكاناً لا يعرفونه من قبلُ ، فالمألوف أن تكون لهم حياله وجهات نظر متعددة ، وسيكون بعضها أكثر مطابقة للحقيقة من بعضها الآخر . كثير من الناجحين في وظائفهم أصيبوا بأمراض مزمنة كقرحة المعدة حرمتهم نعمة الاستمتاع بالحياة ، وكثير منهم خسروا أنفسهم ، بما أهملوه من شأن آخرتهم …. وبعض من أخفق في دراسته يملك إمكانية هائلة للنمو الحر والنجاح في ميدان تجاري أو وظيفي أو اجتماعي … ولذا فإن من الحيوي ألا نعتقد أن النجاح الذي حققناه في أي مجال هو الذروة التي لا ذروة بعدها ؛ فالمهم ليس الصعود إلى القمة ، وإنما كم يمكن البقاء عليها ، وألاّ يمكن أن نكون واهمين في تصورنا للقمة ، وأن تكون الحقيقة غير ذلك ؟
في المقابل حالات الانكسار والهزائم التي نمر بها لا تعني نهاية العالم ، بمقدار ما تعني أن علينا أن نفكر بطريقة جديدة ، وأن نبحث عن مجالات جديدة .
ولذا كان من الضروري أن يسأل الواحد منا نفسه : كيف أستطيع أن أفكر في هذا الأمر بطريقة أخرى ؟ وكيف يستطيع غيري أن ينظر إليه ؟ وما وجهات النظر الأخرى حياله ؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تشكل تمريناً عقلياً يحسن أن نجرّبه من وقت إلى آخر .
إن الذي يحول بيننا وبين رؤية الخيارات العديدة المغايرة لما نعتقده ونفضله هو ما استقر في نفوسنا من الانحياز إلى مشاعرنا ومألوفاتنا وطرق تفكيرنا ، وهذا الانحياز مصدر كبير من مصادر الحرمان من التجديد ، والحرمان من مشاركة غيرنا في رؤية الأشياء على نحو أكثر رحابة .
2- النظرة المتعمقة :
إن العقل الذي وهبه الله جل وعلا لنا يتمتع بقدرات هائلة كما ذكرنا لكنه يظل في النهاية محدوداً . وأكثر الأفكار التي نمتلكها هو وليد التجربة وثمرة المعاناة ، أي هو خبرة حياتية متولدة من اشتباك منظومات المعارف والرموز والمبادئ إلى جانب ألاعيب الهوى وأنماط السلطة وأشكال تحقيق المصلحة والاهتمام بالذات … ولذا فيجب ألا نعتبرها دائماً نهائية ، فصدق الأفكار يظل مرتهناً لما تسفر عنه نتائج إنزالها إلى الميدان العملي الذي كثيراً ما يفقدها تماسكها ويعيد إنتاجها من جديد على وجه الإثراء والتوسيع ، أو على وجه الانتهاك والتأويل . وهذا يعني أن علينا ألا ننتظر الفوز برؤية نهائية ، نسترشد بها في مواصلة البناء وتخطي العقبات ؛ فالأعمال العقلية المتزايدة ، لا تؤدي بالضرورة إلى تقدم عقلاني مطرد ؛ فالنكوص والتراجع من الأمور الواردة بكثرة في هذا الميدان ؛ بل إن للتقدم العقلي مفرزات جانبية شديدة الخطورة ، ولا سيما إذا ما تأتى للعقل أن يتحرر من القيود والقيم الأخلاقية ؛ ثم إن المسيرة الحضارية لا تمضي على هدي أفكار ومخططات يتخيلها مثقفون حالمون متفائلون بمستقبل البشرية على صعيد الفهم والعلم والحوار والرشد والنمو الصحيح ، وإحقاق الحق ، وتجسيد القيم النبيلة … فهناك أيضاً المصالح والأهواء والشهوات والقصور الذاتي والظروف المعاكسة … وكل ذلك يجعل من ميادين الحياة مصانع سيئة لإنتاج الأفكار وتطبيقها . وهذا يعني أن علينا حتى نستمر في التجديد العقلي أن نسعى دائماً إلى تفحّص برامجنا وقراءة أحوالنا ، وإقامة علاقات نقدية مع ذواتنا وإنتاجاتنا ؛ حيث النقص شيء ملازم لنا . وليس المطلوب أن تصبح المحاكمة العقلية لدينا كاملة ، وإنما مداومة فضح الممارسات الفكرية الخاطئة ، وكشف زغل أعمال العقل ؛ فالكمال في كل شأن ليس شيئاً نستحوذ عليه ، وإنما هو شيء نناهزه ، ونحاول الاقتراب منه . وما لم نتعامل مع منتجاتنا الفكرية والمعرفية ، ومع تجاربنا وأحداث العالم من حولنا على هذا النحو ، فإن كثيراً من مكتسباتنا الفكرية والنهضوية يمكن أن يتعرض للخطر ، أو يصبح موضع تساؤل .
3- التفكير المتوازن :
تجديد البعد العقلي يتطلب أن يدرب الواحد منا نفسه على التفكير المنهجي المتكامل الذي يستجيب لكل ما يطلبه النجاح في الوصول إلى نتائج جيدة ، وأحكام صائبة . وإذا أراد الواحد منا أن يفكر في موضوعٍ مّا فعليه أن يفعل الآتي :
أ- أن يجهز المعلومات التي تتعلق بموضوعه . ولا بد أن يكون على وعي بنوعية المعلومات المتاحة ؛ إذ إن هناك طبقتين من المعلومات : طبقة المعلومات الحيادية التي تمثل الحقائق الثابتة التي انقطع حولها النزاع ، وطبقة المعلومات المعتقَدة لبعض الأشخاص ، والتي هي أقرب إلى أن تكون رؤى شخصية لهم .
المعلومات الثابتة تمثل معطيات يجب احترامها خلال عملية التفكير . أما المعلومات الأخرى فتساعدنا على إضاءة القضية وتحسّن اختيارنا فيها .
ب- لدى كل واحد منا عواطف حول القضية موضع البحث ، ونحن نحاول عدم الاعتراف بها ، وأحياناً لا نكون على وعي بها ، ومن ثَمّ فإنها تؤثر في التفكير ، وتوجهه على نحو غير سويّ . المطلوب أن نُخرِج عواطفنا إيجابية كانت أم سلبية إلى منطقة الوعي ، ونعترف بها ، ثم نحاول إبعادها عن دائرة التفكير .
ج- لا بد أن نعطي وقتاً للتفكير الناقد الذي يركز على سلبيات القضية موضع النظر . والتفكير الناقد هو تفكير منطقي ، لكنه سلبي ، وهو كثيراً ما يكون مبنياً على حقائق وصادقاً ، وإن كان لا يشترط أن يكون منصفاً دائماً . وعلينا أن نتذكر أن التفكير هو على مستوى مّا تفكير بنائي ؛ حيث لا يستغني أي عمل جيد عن المراجعة وإعادة النظر ، وفي ذلك شكل من أشكال نموّه . وهذا لا يُنسينا أيضاً أن النقد شديد الإغراء ؛ حيث إنه يمنح صاحبه تفوقاً سريعاً على النظراء ، ولذا فينبغي الحذر من الانزلاق إليه بحيث نبدو أننا لا نحسن غيره . ولعل خير ضمانة لذلك هو أن يظل التفكير النقدي على علاقة جدلية بتفاعلات القضايا التي نوجهه إليها .
د- في مقابل التفكير الناقد ، هناك التفكير الإيجابي ، وهو التفكير الذي يركز على الإيجابيات ؛ ففي حالة التفكير في إقامة مشروع تجاري مثلاً يُبرز التفكير الإيجابي كلّ الأدلة والمعطيات التي تؤكد احتمالات الربح ويتم إسدال الستار على كل ما يشير إلى احتمالات الخسارة . تبرز قيمة التفكير الإيجابي حين يستطيع الكشف عن الإيجابيات الخفية للقضية . والحقيقة أن الناجحين ينتبهون دائماً إلى جوانب النفع الخفية ، وبذلك يسبقون غيرهم . إن من الثابت أنه لا يُغلق باب حتى يفتح باب آخر ، لكن قصورنا الثقافي والتربوي يجعلنا نُشغَل بالباب الذي أُغلق عن الباب الذي فُتح ! ومع هذا فلا بد من القول : إن الخط الفاصل بين التفكير الإيجابي والاندفاع المتفائل المتهور ، هو خط ضيق ، ولذا فإمكانات الخلط بينهما ستظل متوفرة دائماً .
هـ- لا بد بعد هذا أن نستخدم التفكير الإبداعي الذي يحاول أن يستخرج من معطيات ناقصة حلولاً جيدة ، أو رؤى ناضجة . ولا بد من القول : إن أكثر التفكير الذي نتشبع به في بيئاتنا الثقافية مهيّأ لمعالجة المعلومات ، مثل المنطق والإحصاء والرياضيات ، وتنسيق المعارف … أما التفكير الإبداعي ، فإنه يحاول إيجاد أشكال جديدة تضاف إلى ما لدينا من تراكيب ندرك من خلالها المحيط . التفكير المبدع يحتاج إلى الوقت ؛ والعجلة هي عدوه الأول . وقد تعودنا أن نقبل أو نتشبث بالحل الذي يظهر لنا لأول وهلة ؛ مع أن الثابت أننا حين نمعن التفكير فإن الأفكار الجيدة لا ترد إلى الذهن أولاً وإنما في آخر المطاف . والمطلوب هو أن نوفر الوقت لاستخراج أكبر قدر ممكن من الرؤى والحلول والاحتمالات ، ثم نعكف على اختيار الأكثر مناسبة لاحتياجاتنا وإمكاناتنا .
التفكير المعوجّ :
إننا حين نمارس التفكير في أي موضوع ، نستخدم في الحقيقة عدداً من العناصر البالغة التعقيد ، مثل مبادئنا العقلية ، وثقافتنا العامة ، وعاداتنا الفكرية والنفسية ، بالإضافة إلى المعلومات المتعلقة بالمسألة موضع التفكير ؛ ثم إننا لا نستخدم كل ذلك في فراغ ، فهناك دائماً ضغوط واعتبارات ظرفية واجتماعية ، تكتنف تفكيرنا في الأمور . وبما أن كل ما ذكرناه لا يكون في العادة كاملاً ولا نقياً ، فإن علينا ألا نتوقع أن يكون باستطاعتنا دائماً النجاح في الوصول إلى تصورات وأحكام راشدة . ولذا فإننا سنظل بحاجة إلى محاصرة أنماط التفكير الخاطئة على نحو ما يصنع الفلاح حين يزيل الأعشاب الضارة من أرضه قبل أن يلقي بذوره .
وفي اعتقادي أن الفائدة من تعلم طرق تفكير جديدة ، ستظل محدودة ما لم نتمكن من تعرية الممارسات التفكيرية الخاطئة والتضييق عليها إلى أبعد حد ممكن . وهي في الحقيقة أشكال وألوان ؛ ويمكن أن نسلط الضوء على بعضها على وجه السرعة .
1- المسلَّمات الثقافية :
نحن إذ نفكر ننطلق من مبادئ ومسلّمات ثقافية ، وتلك المسلّمات ، لا تؤمّن تسايل عمليات التفكير فحسب ، وإنما تريح العقل من عناء البحث والتمحيص أيضاً ، أي تؤمّن له نوعاً من العطالة والسكون ، ومن هنا تنبع جاذبيتها وخطورتها في آن واحد . لو فتشنا في عقولنا لعثرنا على مخزون ضخم من المسلّمات المتعلقة بالناس والأفكار والأحداث . وتصنيفاتُ الأمم والشعوب بعضها لبعض نموذج حي على ذلك : فالشعب الفلاني محتال ، والشعب الفلاني كسول ، والشعب الفلاني ماهر.. ووسائل الإعلام في الغرب (العقلاني) تقترب من أن تصم كل مسلم بالتطرف والإرهاب ؛ مهما تكن درجة التزامه . أما العرب في نظرها فهم شعوب مهووسة بالتبذير والجنس ، تتخبط في الجهل ، وتعشق الفوضى … وتلك الصور الذهنية ، تشكل مشاعر الناس ، وتوجه سلوكهم ، وتنظم ردود أفعالهم .
إنسان القرن الحادي والعشرين مع أنه يتحدث باستفاضة عن العولمة ، والقرية الكونية ، وتلاقح الثقافات إلا أنه غير قادر على الانعتاق من كثير من المسلّمات الثقافية المتخلّفة ، فهناك انجذاب شديد نحو الإقليمية والعنصرية والطائفية ، أي هناك انسحاب من عالمية الرؤية والثقافة والإحساس المشترك في الوقت الذي تتسع فيه عالمية التجارة ، ويتسايل انتقال المعلومات والأشياء !
2- إسقاط المعلومات غير الملائمة :
حين نكوّن اعتقاداً ما فإن القوى غير الواعية فينا تحشد على نحو غير مرئي كل الأدلة والبراهين التي تقوّيه ، وتجعله غير قابل للنقاش ؛ وحين تأتينا معلومات تناقض ما انتهينا إليه ، فإن أكثرنا يحاول الإفلات من التغييرات التي تقتضيها المعلومات الجديدة بأساليب شتى . وعلى سبيل المثال إذا بلغنا عن شخص نثق به ، ونحترمه احتراماً شديداً أنه كان في حياته عاقاً لوالديه ، فإننا عوضاً عن أن نحاول التحقق من تلك المعلومة والتغيير في نظرتنا عند ثبوتها ، فإننا نسلك مسالك عديدة حيالها ، كلها غير سويّ : فقد نقول : إن الذين رووا ذلك حاقدون عليه . وقد نقول : إن أبويه توفيا وهو صغير قبل أن يُكلّف . وقد نقول : إن أبويه كانا يعاملانه بقسوة ؛ فله نوع من العذر فيما فعله . وقد نقول : إن عقوقه لهما كان لمصلحتهما لأنهما لم يكونا على معرفة بها … وهكذا فإن المعلومة المناقضة لما نعرفه عن فلان تُعامَل بإهمال شديد ، ومن ثَمّ فإنه لا يتم تخزينها ، ويصبح الأمر كما لو أن العقل ليس فيه ( خانة ) مستعدة لقبول المعلومة المشوّشة . وهذه الحالة بعيدة الأثر في تشويه المركّب العقلي لكثير من الناس . وأعتقد أن كثيراً من بطء تقدمنا في فهم التاريخ يعود إلى هذه المسألة .
3- الضلال في تفسير الظواهر :
لو تساءلنا : هل الضلال الذي ينشأ من اختراع أمور لا أصل لها أعظم ، أو الضلال الذي ينشأ من تفسير أمور موجودة تفسيراً خاطئاً ؟
لكان الجواب من غير تردد : أن الضلال الذي يجتاح حياتنا الفكرية من وراء التفسيرات الخاطئة أعظم بكثير من الضلال الذي ينشأ من الكذب الصراح . نجد في خبراتنا اليومية من يقول : إن فلاناً متفوق ؛ لأن أباه لا يكلّفه أي شيء ، فهو متفرغ للدراسة . وفلان منحرف ؛ لأنه نشأ يتيماً ، فلم يتلق التربية المناسبة . والبلد الفلاني ثري ؛ لأن فيه أنهاراً غزيرة . والشعوب الإسلامية متخلفة ؛ لأنها تقع تحت ضغوط مؤامرة كبرى … ولو أجَلنا النظر في هذه التفسيرات لوجدنا أنها جميعاً محتملة ، وليست قطعية ، فهناك طلاب أثرياء ، ومفرّغون للدراسة ، ومع ذلك يرسبون . وهناك أعداد ضخمة من الأيتام ذوي السلوك الحسن والسيرة الحميدة ، وهناك وهناك …
إن تفسير الظواهر الكبرى بعامل واحد من أكثر الأخطاء الفكرية انتشاراً ، وهو الذي يقبع خلف عدد ، لا ينتهي من التصورات والأحكام العوجاء والظالمة .
4- تأثير الهالة :
قدرة الناس على مناقشة الأفكار ومعرفة مزايا الأشياء على نحو دقيق محدودة ، ولذا فإنهم يتشبثون بأي شيء يمكن أن يساعدهم على استيعاب ما يرغبون في استيعابه . وحين يتفوق إنسان في مجال ما فإنه يكوّن لنفسه (هالة) ويترك انطباعاً بالجدارة والثقة لدى الآخرين . وبتأثير تلك الهالة ينسى الناس جوهرية (الاختصاص) ويسألون المعجبين بهم عن أشياء ليس هناك أي دليل على تفوقهم في معرفتها . وصار من المألوف اليوم أن يُقبل الناس على استخدام نوع من الصابون أو العطر أو معجون الأسنان … لأن النجم الفلاني يستخدمه ، أو ظهر في إعلان عنه . وطالما سُئل رياضيون وفنانون عن قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية ، وطالما انفعل الناس بأجوبتهم أكثر من انفعالهم بأجوبة بعض المختصين !
وفي عصرنا الحاضر صار للحقيقة العلمية هالة كبيرة ؛ فنحن نحترمها أشد الاحترام ، ونحاول الاستفادة من مؤشراتها ، لكن كما أن من السهل على أي واحد أن يتاجر بعملة زائفة ، فمن السهل أيضاً أن يتاجر بعض الناس بالحقائق العلمية .
وقد وقع كثير من الناس ضحية لتناول أدوية وعقاقير تخلصهم من السمنة أو الصلع أو غير ذلك … حيث بُهروا بالشرح العلمي لميزاتها وخصائصها . هذا كله يدعونا إلى أن نتعلم المزيد عن كيفية ( تقويم المعلومات ) الواردة إلينا ، وأن نسأل أهل الذكر في كل علم وفن .
5- المبالغة :
نحن لا ندرك الأشياء بطريقة مباشرة ، وإنما عبر وسيط ثقافي وفكري ونفسي أيضاً ، مما يجعل رؤيتنا لها قابلة للكثير من الخصوصية ، ومن ثَمّ للكثير من الانحراف . المبالغة مرض واسع الانتشار ؛ والبنية التحتية له بنية فكرية شعورية ؛ فالإدراك القاصر ، وضعف المحاكمة العقلية ، مما يدفع إلى المبالغة على النحو الذي تدفع إليه المصالح والأهواء والأمراض النفسية ، والانطباعات الخاصة والخاطئة .
وللمبالغة تجليات كثيرة ، نستعرض بعضها من أجل تسليط الوعي عليها :
بعض الناس يميلون إلى تضخيم كل الأشياء ، وكأنها (مجموعة كوارث) فهم يتوقعون الأسوأ دائماً ، فأي ألم مفاجئ يصيب الواحد منهم ، هو دليل على وجود مرض خطير ، وأي خطأ يقع فيه يمكن أن يحرمه من وظيفته !
– هناك من يميل إلى (تعميم الافتراض) فلأن شيئاً ما قد وقع فهذا يعني أنه سيقع دائماً ؛ فإذا نسي موظف عنده تنفيذ أحد طلباته ، قال له : إنك تنسى دائماً ما أطلبه منك . وإذا تبين له أن إحدى الإذاعات كذبت في خبر من الأخبار ، حكم بأن تلك الإذاعة لا تصدق أبداً !
– تتجلى المبالغة في بعض الأحيان في صورة قراءة لما في عقول الآخرين ؛ حيث يعتقد بعض الناس أنه يملك شفافية خاصة لمعرفة ما يدور في أذهان العباد ، وما تنطوي عليه سرائرهم ، فإذا توجهت إليه شركة بسؤال ظنّ أنها سألته ؛ لأنها لم تعثر على شخص آخر بإمكانه أن يجيب عن أسئلتها . وإذا واجه مشكلة ، ولم يتدخل فيها أحد من أصدقائه ؛ فذاك ليس لأنهم يريدون المحافظة على خصوصيته ، وإنما بسبب إهمالهم له ، أو شماتتهم به ، وإذا نصحه شخص بنصيحة ، فذاك ليس بقصد إصلاحه ، وإنما بقصد تحطيمه أمام نفسه ، وهكذا …
– تترجم المبالغة في بعض الأحيان شكلاً من أشكال عدم الاتزان ؛ فترى بعض الأشخاص يتحولون من النقيض إلى نقيضه بسرعة البرق ؛ فبسبب كلمة أو حركة يمكن لأي شيء أن ينقلب رأساً على عقب . ويبدو أن هذا النوع من المبالغة ، هو في الأصل ظاهرة نسوية [1] ، لكن للرجال أيضاً نصيبهم منها ، وطالما سمعنا من يقول : إن كنت تستطيع أن تقول ذلك فهذا يعني أن علاقتنا لا تعني أي شيء . ومن يقول : خطأ واحد يفسد الأمر كله .
– كثيراً ما تتجلى المبالغة في ظاهرة الإسراف في المدح والذم ، وهذه الظاهرة عالمية ، لكن يمكن أن نقول هذه المرة : إنها ظاهرة عربية في المقام الأول ؛ فنحن من أكثر أمم الأرض تمادياً في المدح خاصة وقد تجاوزت المبالغة في المديح لدى بعض الناس مرحلة الكذب الصراح إلى مرحلة الكذب المركب والمعقد ، والذي يحتاج إلى منهاج خاص من أجل كشفه !
وأعتقد بعد هذا وذاك أن تحسن مستوى التفكير لدينا سيظل مرتبطاً بمدى ما يسود حياتنا من مناقشة ومصارحة ، وبمدى ما تحرزه الأمة من تقدم على الصعد الإنسانية المختلفة .
إن تجديد البعد العقلي ، يحتمل الكثير من الكلام ، لكن الوقت المتاح لا يسمح بأكثر مما قلناه ، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لما هو خير وأبقى .
________________________
(1) ورد في الحديث الشريف : (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ، ثم رأت منك شيئاً قالت : ما رأيت منك خيراً قط) .
سبحانك لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته