الأمراض التربوية – النمطية: قالب واحد يناسب الجميع
جاء هذا المرض مع اختراع الآلات المبهرة لتصنيع المنتجات الضخمة، أيْ الثورة الصناعية. وكان ذلك بالفصل بين الرؤساء وعمال خط التجميع . إنَّ التركيز في عملية تدريس هؤلاء العمال تحوّل في وقتنا هذا إلى تدريب هؤلاء المواطنين ليصبحوا إما “منتجين” أو “مستهلكين” على كفاءة عالية، وحتى هذه الكلمات تجرّدهم من إنسانيتهم.
إنَّ هذا التخصص الذّي يتميز بخط التجميع أو خط الإنتاج، وينتج الفعالية الميكانيكية التي تعتمد على الآلات وتحدّ من التفكير البشري، أصبحت من الميِّزات التي تنال الكثير من التقدير في عصرنا، فكان من الطبيعي أنْ تتطور أنظمة التعليم بما يعكس هذه القيَم بالمقابل. وبالتالي لم تكن المدارس في نشأتها الأولى سوى تطبيقاً عملياً و”علمياً” واعياً لنموذج الإنتاج الصناعي على التعليم العام.
وكما أسلف الكثير من المؤرخين الاجتماعيين أنَّه عندما كان الحِرَفي يصمّم ويصنع المنتَج بيديه ويبيعه فإنَّ العمل كان ينال الكثير مِن الرضا، أما عندما أصبح العمل متخصصاً ومقسماً إلى مهمات متعلقة إلى درجة كبيرة بأشخاص معينين، جاءت النتيجة بعدم رضا الزبون، ونسبة كبيرة في تغيب العمّال عن العمل، وانطباعاً عاماً بين صفوف القوة العاملة بأنَّ قدراتهم محدودة. وذات الشيء حدث في المدارس حيث تحولت إلى سجون يقضي فيها المتعلمون “عقوبة” لعدد من السنين، ولا زالت العبارة التالية مطروقة إلى درجة كبيرة: “انتهت المدرسة أخيراً وأتت العطلة” وكأنه يقول “انتهت فترة العقوبة وخرجنا من السجن”.
ولمْ يكن بمحض الصدفة أنَّنا بتطبيق تقنيات الإدارة الصناعية في التعليم، حصلنا على النتيجة ذاتها، ففي عام 1923 قام مجلس البحث الوطني الأميركي بعقد مؤتمر اجتمعت فيه ثلاثة أطراف تتضمن ممثلين من الحكومة وقطاع الصناعة والتعليم، وذلك بغرض “وضع معايير لمقاييس التعليم” و”وضع معايير للأشخاص” هذه كانت الكلمات المستخدمة بالضبط. أين الإنسانية؟
وهكذا تم توزيع الأطفال على مجموعات حسب العمر, وتم تصميم المناهج وفقاً لكل فئة عمرية, أو “مرحلة من مراحل الإنتاج”. والتزم الجميع بالزمن الدقيق المحدد لكل من هذه المراحل. وأصبح المعلم عبارة عن مراقب في خط الإنتاج! وقد دام هذا النوع منَ الفكر في تدريس فن العمارة وطرائق التعليم لمدة خمسين عاماً، لذلك يُعتقد أنَّ هذا الموقف ساهم في العديد منْ عقبات التعلم. فإذا كُنت تحاول أنْ تدرّب الناس ليصبحوا على كفاءة “ميكانيكية” وكأنهم مسننات هامدة في عجلات المجتمع فإنَّك لَنْ تحتاج أو بالأحرى لن تجرؤ على توفير قدر كبير منَ الاستقلال في الفكر والإبداع.
وكنتيجة لذلك، أصبح من الطبيعي اتباع طريقة واحدة في التعليم تناسب الجميع، طريقة صارمة رسمية روتينية مقسمة بدقة ومجزأة صناعياً، وترتبط بأوقات محددة وترتبط بالصف أو بجهاز
خط التجميع: تجميع يقوم به العمال والآلات بحيث يمر الإنتاج المجمع بعملية تلو الأخرى إلى أن يصل إلى المرحلة النهائية التي يكون فيها مكتملاً
الكومبيوتر. بالتالي أصبحنا تحت رحمة المقاس الواحد الذي يُفترض بأنه يناسب الجميع! مما أدى إلى مصنع كبير يدخل إليه أطفالنا (وحتى الكبار منا) أشخاص أحياء طبيعيون متنوعون، ويتعرضون لعمليات واحدة لتكون النتيجة أشخاص نمطيون متشابهون أكثر، نمطية تبعدنا عن إنسانيتنا، وتحد من إبدعنا، نمطية تسبب الهدر الكبير في الجهد والمال، بل الهدر الأكبر في الموارد البشرية التي نحن بأمسِّ الحاجة لها.
الترياق
من السخرية أننا نتخلى عن أي خط إنتاج بسهولة عندما يفقد فعاليته، ونرفض بالوقت ذاته القيام بذلك في مدارسنا أو جامعاتنا أو في شركاتنا، يبدو أن إدماننا على المقاس الواحد قد وصل إلى أقصاه. إنَّ العبارة التي تصف المعلم بأنَّه مراقب عمال يشرف على منهج تعليمي موضوع بمقاييس معينة لابد أن تفجره كي يثور ويخرج من قالبه هو أولاً، وأن يبدأ يستشعر إنسانيته ثانياً ثم إبداعه وأن يتمتع بالحرية التي وهبه إياها الخالق عزَّ وجلَّ.
من المستحيل (إلى الآن) إيجاد طريقة واحدة تناسب الجميع، وبالتالي إذا أردنا إيصال التعليم للجميع فلابد من استبدال النمطية: نموذج المقاس الواحد بمائدة متنوعة الخيارات. وبدل التركيز على الطرق لنركز على النتائج المرجوة، ولنتبع ما يحقق النتائج وفقاً لنوعية المتعلمين والبيئة المحيطة، طالما أنها ليست الطريقة الحصرية. يمكن تقديم نفس المادة التعليمية بعدة طرق لتناسب أذواق وأنماط التعلم الممكنة: غرفة الصف، التعليم الذاتي، التعلم باستخدام الانترنت، الكوتشينغ، …الخ. لابد أن نتخلص من فكر “أو”، ونتحول إلى فكر “و”: فهذا من متطلبات التعلم السريع.
إنَّ المعلمين اليوم يميزون أنَّ الصف هو المكان الدافئ الذي يسوده الجو الإبداعي والمشاركة الشاملة والتنوع الذي يلبي كافة أنماط المتعلمين، وهذا الصف هو الذي يحقق أفضل تعليم يتذكره الطلاب جيداً.
بعد هذا العرض الموجز لما سميناه مجازاً “مرضاً تعليمياً تربوياً” يصبح واضحاً أن ما يعطي هذا المرض قوته هو تحوله إلى بديهيات في التعليم, واعتباره الشكل الذي كانت عليه الأمور وستستمر عليه. إننا بدون شك بحاجة إلى ثورة حقيقية للتخلص من هذه الأمراض التي حولت التعليم إلى عملية غير فعالة, وغير طبيعية كئيبة وصعبة، حولت المعلم إلى مركز العملية، وحولت المتعلم إلى مستهلك دون إبداع. وحولت بيئة التعليم إلى سجن مخيف ينتشر فيه الملل والكآبة والخوف، وحولتنا كبشر إلى معاقين تعليمياً.
إذا استطاع الطبيب تشخيص المرض وصل إلى نصف الحل وهان عليه وصف الدواء. وفي حال اهتمامك بالتعليم وتحسينه فلابد أن الكثير من الأمراض الواردة سابقاً وطرق علاجها أصبحت واضحة لديك، وعلينا الآن البحث عن آليات لتطبيق ذلك على أرض الواقع، وهذا ما ستجده في كتاب “التعلم الطبيعي- التعلم السريع”.