يوم أن كنت مغرورا
يوم أن كنت ……. مغرورا في بحث شيق أجرته إحدى الجامعات الأمريكية أكّدت فيه أن ما يخيف الناس حقا ليس الموت أو الأماكن المرتفعة أو الصدمات العاطفية؛ وإنما هو مواجهة الجمهور!!
وأكّد البحث على أن معظم البشر يكاد يغرق في “شبر ماء” إذا ما وجد نفسه فجأة في مواجهة بشر كثيرين، ويرى أن الأعين التي تنظر إليه هي أقرب للسهام وتكاد تخترق داخله، وتكشف كم هو مُرتبك، وخائف، ومتوتر.
إن مواجهة الجماهير مهارة تنمّى بالتعلم والممارسة، ربما تكون للسمات الشخصية أو “الكاريزما” دور مهم في قدرة صاحبها على امتلاك الأفئدة والآذان، لكن التجربة تثبت أن معظم البشر قادرون على مواجهة الجماهير والتأثير فيهم إذ ما تمّ تدريبهم على ذلك، وإعطاؤهم الفرصة للوقوف على المنصة، حتى مع الارتباك الذي قد يصيبهم في بادئ الأمر، فإن التجربة كفيلة بجعل هذا الموقف “المخيف” متعة كبيرة.
السيناتور ألبرت جي بفريدج -السياسي البارز وعضو مجلس الشيوخ الأمريكي- له كتاب بعنوان “فن الخطابة”، يؤكّد فيه بعض الملاحظات الجيدة للشخص الذي يودّ أن يكون خطيبا لامعا، وأولاها أن يكون سيدا لموضوعه؛ بمعنى أن يمتلك زمام القضية الذي يودّ الحديث عنها؛ من حيث المعلومات، وترتيبها، ودقتها، وبكون ما يقوله حقيقة فعلا وليس افتراضات أو وجهات نظر، يسبق كل هذا -حسب رؤية الكاتب وليم ماكولاف في كتابه “فن التحدث والإقناع”- أن يكون المرء متحمسا للموضوع الذي يودّ الحديث عنه، حار النبرة، وأن يكون حديثه نابعا عن قناعة، فهذا مما يُضفي صدقا على الكلمات يُسهل إلى حد كبير جدا من دخولها للقلب.
وفي الحقيقة فإن تجربتي الشخصية أثبتت أن هناك أمرا أخطر بكثير من كل هذا، فما زلت أذكر قبل سنوات وأثناء كتابة كتابي الأول “إلى حبيبين” أني أعطيت إحدى مخطوطاته الأولى لمديرة إحدى الجمعيات الخيرية؛ كي تُقيّم ما فيه، وهي الناقدة والأديبة التي توسمت في ملاحظاتها الفائدة المرجوّة، فما إن قرأت الكتاب حتى تحمست لما فيه من معلومات، وظهر حماسها في نبرتها وهي تدعوني للجمعية مساء في الأسبوع المقبل لمناقشة الكتاب، وعندما دنا الموعد حملت أوراقي وذهبت إليها لأفاجأ بلوحة كبيرة في مدخل الحي والشارع والجمعية ترحب بالكاتب “المتميز”، الذي جاء ليلقي ندوته “الشيقة” “إلى حبيبين” على الجمهور، لم أعِ الأمر، لكنني أيقنت أن هناك سوء فهم إن لم تكن مزحة في الأمر، لم أسترح أبدا للابتسامة التي قابلتني بها أستاذتي الفاضلة ولا ترحيبها المبالغ فيه، قبل أن تُلقي على مسامعي بالصاعقة وهي تؤكّد أن القاعة التي تسع لـ800 شخص قد امتلأت على آخرها، عبثا حاولت أن أؤكّد لها أنني لم أعد العدّة، لكنها أكّدت وبإصرار على أن كلامها كان واضحا بأننا سنناقش الكتاب، وبأن “أننا” هذه تعني أعضاء ومحبي وجيران وأصدقاء الجمعية!
وهكذا وجدت نفسي أواجه 800 شخص يتلهفون لسماع “الحكمة” التي ستخرج من فمي، فالتجأت إلى الله أسأله التوفيق والثبات، وراجعت في ذهني سريعا النقاط الأساسية في الكتاب، وبدأت حامدا الله وشاكرا فضله، مصليا على نبيه وحبيبه.. ثم لم أصمت إلا بعدما أشاروا لي بأن الوقت المحدد قد انتهى منذ نصف ساعة كاملة!!
كان التصفيق الحاد الذي دوى في القاعة بعدما انتهيت يؤكّد أنني نجحت في اجتياز المأزق، وابتسامة المديرة الفاضلة وهي تحييني تؤكّد أنني كنت رائعا، ولم أستطع أن أترك المكان بسهولة بعدما التف حولي الكثيرون يطلبون معرفة ندواتي القادمة، فما كان من إدارة الجمعية إلا وحددت -دون إذن مني أيضا- موعدا بعد أسبوعين كاملين.
عُدت إلى داري منتشيا، وقررت أن أبدأ من وقتها في التحضير للندوة القادمة، مؤكّدا لنفسي أن مهارتي الخارقة، وأسلوبي الجزل، وقدرتي الفريدة على التأثير في الآخرين “عملت عملها” دون تحضير، فلأصعقهم إذن بالتحضير والتجهيز!!
خُيّل إلي وقتها أن مهارتي هي كل شيء، ونسيت –مع الأسف- ارتباكي والتجائي إلى الله كي يثبتني في هذا الموقف العصيب، لم أعِ سقطتي تلك إلا بعد أسبوعين، وأنا أجلس على نفس المسرح، وأمامي نفس العدد، لم يتغير سوى الاستعداد النفسي، والتحضير التام، والإلمام بالموضوع.. والغرور!
تكلمت فلم يُفهم من كلامي حرف واحد، حاولت التوضيح فبدا وكأنني أسبح في بحر من الرمال، كلما زادت كلماتي وانفعالاتي كلما أحسست أنني أزيد الأمر تعقيدا..
أربكتني نظرات الحضور التي بدا منها أنه قد “خاب ظنها فيّ”، ولم تهوّن عليّ كلمات المديرة بأن “خيرها في غيرها”، وتجاهلت -وأنا أسرع الخُطى إلى باب الجمعية- قول إحدى الحاضرات لصديقتها تُعاتبها على الإتيان بها إلى الجمعية “ضيّعتي مننا الفسحة”!
ركبت سيارة الأجرة وعرقي يغمرني وقد أخذت في مراجعة كل شيء، بدءا من التحضير، والتنظيم، والترتيب.. فلم أجد أي خلل في الأمر، هذا قبل أن أنتبه إلى أن ما تغير هو أمر داخلي لا يمكن رؤيته، وإنما الشعور به، وهو اليقين بأن النجاح وإن كان يحتاج منّا إلى عوامل من الجد والجهد والعمل الشاق المضني، إلا أنه لن يتم ويُكتب له البركة، إن لم يكن لنا من الله مدد وعون.
ومن وقتها وحتى اليوم لم أستطع أن أنسب أي نجاح كبُر أو صغُر إلا لفضل الله أولا وثانيا وأخيرا..
وأن الغرق في “شبر ماء” ليس بالأمر البعيد عني ولو كنت في أعين الناس… كبيرا ……………………………………..كريم الشاذلي……………………………