تنمية بشرية

الإشاعة

تعرف الإشاعة بأنها:

أخبار مجهولة المصدر غالباً، يقوم عليها طرف ما، تعتمد تزييف الحقائق وتشويه الواقع، وتتسم هذه الأخبار بالأهمية والغموض، وتهدف إلى التأثير على الروح المعنوية والبلبلة والقلق، وزرع بذور الشك في صفوف الخصوم والمناوئين عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً.

العلاقة بين الإشاعة والحرب النفسية:

تعد الإشاعات من أهم أساليب ووسائل الحرب النفسية، لأنها تستعمل بفاعلية وقت الحرب وكذلك وقت السلم (الحرب الباردة) وتتميز بشدة تأثيرها على عواطف الجماهير، وقدرتها الكبيرة على الانتشار، وفعاليتها العظيمة التي تبدأ من وصولها إلى المكان الموجهة إليه.
وتختلف الإشاعات عن الأساليب الأخرى في أن الوسيلة التي تحملها وتنقلها وتزيد من حدتها وفعاليتها هي المجتمع المستهدف نفسه، فما إن تصل الإشاعة إلى بعض أفراد المجتمع المستهدف حتى يقومون بروايتها وترويجها، إلى كل من يعرفون، بل لا يقتصر الأمر عند حد الرواية أو النقل فقط بل يتعدى الأمر إلى أن الشخص الذي ينقل الإشاعة غالباً ما يضيف عليها ويبالغ فيها وربما اختلق أجزاء كثيرة من تفاصيلها، مما يجعل الفائدة من الإشاعة أعظم وأقوى من أية وسيلة بالنسبة لموجِّه الإشاعة، لأن الجمهور المستهدف قد حمل عبء نقل الإشاعة إلى كل فرد من أفراد المجتمع، مما ساعد على سرعة نقلها وكذلك ساعد على زيادة فعاليتها وتأثيرها، لأن الفرد سمع هذه الإشاعة من صديقه ومن داخل مجتمعه، وهذا عكس الإشاعات التي تذاع أو تنشر في إذاعات وصحف العدو لأن الوسائل المكشوفة من جانب العدو غالباً ما تكون محل شك وريبة من قبل الجمهور المستهدف.

من هذا المنطلق تتضح لنا العلاقة الوطيدة بين الإشاعة والحرب النفسية، وهي علاقة الجزء بالكل، فالإشاعة بمثابة الجزء والحرب النفسية بمثابة الكل، وقد اتفق علماء علم الاجتماع وكذلك علماء علم النفس والمختصون والباحثون في هذا المجال على أن الإشاعة تعد أحد أساليب الحرب النفسية فقد ورد في جميع كتب الحرب النفسية أن الإشاعة أسلوب من أساليبها أو هي وسلية من أقوى وسائلها، مثلها في ذلك مثل الدعاية وغسل الدماغ أو افتعال الفتن والأزمات وغير ذلك من الأساليب الكثيرة.

وتلعب الإشاعة دوراً حيوياً في الحرب النفسية، وهي وسيلة البلبلة في الحرب والسلم، والبلبلة الفكرية والنفسية مفتاح لتغيير الاتجاهات واللعب بالعقول ثم السيطرة والتحوير الفكري وغسل الدماغ.

والإشاعة سلاح فعال بيد المحترفين من رجال الحرب النفسية يُستعمل للسيطرة على الاتجاهات الشعبية وزعزعة الوحدة الفكرية والانتماء والتماسك الاجتماعي. ولها دور كبير في دعم اتجاهات الجبهة الداخلية المعادية لبث روح الفرقة واليأس بين صفوفها، وكذلك بث روح الانتقام لنشر جو من الشك بين القادة والشعب وبين الضباط والجنود وبين الأصدقاء والحلفاء…

ولقد كان الألمان سادة الموقف في الحرب العالمية الثانية في استخدام الإشاعات في الحرب النفسية، لأنهم علموا أن حملات الإشاعات من أقوى الحملات تأثيراً على العدو، فهي تصل إلى السامع دون أن يبدو أنها دعاية معادية، لأنه يسمعها من أخيه أو صديقه أو زميله في العمل، فهو يسمعها من داخل مجتمعه… وكانت أية أخبار تذاع على الموجة القصيرة في ألمانيا أو أية قصة ينشرها عميل ألماني في صحيفة ببلدة محايدة سرعان ما تبدو وكأنها صادرة من العدو، إذ يضيع أصلها الألماني تماماً في عملية تداولها. والحقيقة أن السامع لا يمكن أن يطالب بالدليل، لأن الذي يعرض مثل هذه الأخبار لا يزعم أن لديه أي دليل بل يوضح منذ البداية أن ما يقوله ما هو إلا مجرد كلام سمعه، وعلى هذا الأساس يكرره ويعيد تكراره. إن التصديق في مثل تلك الحالات أسهل من الكذب ولاسيما إذا كان الأمل أو الخوف يعضد الإشاعة.

الأساليب التي تستخدم فيها الإشاعات في الحرب النفسية:
هناك بعض الأساليب المهمة التي تقوم الإشاعات من خلالها بدور جوهري في الحرب النفسية.
ومن أهم هذه الأساليب ما يلي:

1- الاستخدام بقصد التفتيت:
يمكن أن يقصد بالتفتيت الروح المعنوية أو تفتيت الصفوف وزرع الفتنة والفرقة بينها، وبهذه الوسيلة تقوم الإشاعة بدورها في تدمير القوى المعنوية وتفتيتها. وقد استعان الألمان بالإشاعات في تفتيت معنويات الفرنسيين، وخلطوا الإشاعات المتشائمة بالإشاعات الحالمة أو المتفائلة. وقد استمر الاضطراب الذي سببه الهجوم الألماني بين الابتهاج واليأس، وسرعان ما وصلوا إلى درجة من الحيرة والقلق، وأصبحوا لا يستطيعون التمييز بين ما هو صادق وما هو كاذب.
وفي هذا الأسلوب يبدأ رجل الحرب النفسية بنشر الإشاعات لإيجاد جو من عدم الثقة لدى خصمه، ولزيادة التفكك داخل الشك، فالإشاعة لا تثبت أي شيء، بل تؤدي عملها فقط إذا استطاعت أن تنشر جواً من عدم الثقة.

2- استخدام الإشاعة كستارة دخان (الخداع):
هذا الأسلوب يعتمد على حقيقة أن الإشاعات يمكن أن تخفي الحقيقة، فيقوم أحد الجانبين بالسماح بتسرب بعض المعلومات، وبذلك يصعب على الجانب الآخر معرفة الأسرار الحقيقية من الأخبار الكاذبة، ولقد كان الألمان سادة في هذا الأسلوب، فقد كانوا يطلقون الكثير من الأنباء المتناقضة من داخل ألمانيا إلى البلاد التي يريدون أن يحدثوا فيها اضطراباً بين الناس.

3- الحط من شأن مصادر الأنباء:
يقوم هذا الأسلوب على أساس خداع الخصم بالإيحاء إليه ببعض الأخبار والمعلومات الخاطئة، وما إن يذيع الخصم هذه الأخبار والمعلومات حتى يتم توضيح الأمر للرأي العام حتى تصبح لديهم قناعة بكذب مصادر أنباء العدو، ومن الأمثلة على ذلك: في السنة الثانية للحرب العالمية الثانية، حاول البريطانيون أن يدمروا محطة السكك الحديدية الرئيسية في برلين عدة مرات، ولكنهم لم ينجحوا في محاولاتهم هذه، وقام الألمان بنشر تقارير غير مؤكدة توحي بأن الإنجليز قد نجحوا في محاولاتهم. وعندما وصلت هذه الإشاعات إلى بريطانيا، اعتبرها الإنجليز تأكيداً وإثباتاً لنجاح محاولاتهم وسرعان ما أذاعوا الخبر.
وحينئذ أخذت وزارة الدعاية الألمانية بعض الصحفيين الأمريكيين إلى المحطة الرئيسية لإثبات كذب الإذاعة البريطانية وبذلك استطاع الألمان أن يحطوا من شأن الإذاعة البريطانية على أساس أن أنباءها كاذبة.

4- استخدام الإشاعة كطعم بقصد إيضاح الحقيقة:
خير مثال لذلك ما قام به اليابانيون في الحرب العالمية الثانية، إذ روجوا إشاعات مبالغاً فيها عن خسائر الأمريكيين في الاشتباكات البحرية.
لقد كانوا لا يعرفون حقيقة خسائر العدو، وكانوا يهدفون من وراء ذلك أن يثيروا الأمريكيين، فيقوموا بدورهم بنشر حقيقة خسائرهم. وبالفعل نجحت هذه الوسيلة إذ إن انتشار هذه الإشاعات أثر تأثيراً بالغاً في معنويات الشعب الأمريكي مما جعل الحكومة الأمريكية تسرع في إذاعة الحقائق عن الخسائر، رغبة منها في دعم الروح المعنوية. وبذلك استطاع اليابانيون أن يعرفوا الحقائق التي تهمهم.

استراتيجية وتكتيك الإشاعة:
تقوم الإشاعة في الحروب على استراتيجية وتكتيك معيِّنين، وليست عملاً ارتجالياً أو عملاً فوضوياً يقوم به فرد أو جماعة لتحقيق مقاصد قريبة أو بعيدة، وتستخدم الإشاعة في المجال الاستراتيجي ضمن مفهوم عام يكون بمثابة الدليل لاستخدامها، كما تستخدم الإشاعة في المجال التكتيكي وذلك كما تقتضي ظروف الوضع الراهن ومعطيات الوقائع في زمان ومكان محددين، وذلك لتصيب وتبلغ الأهداف المرسومة لها بدقة فلا تخطئها.
فالإشاعة أصبحت علماً من العلوم المنضبطة ذات المناهج والقواعد والأسس. وإن من أطلق الإشاعة له أهداف محددة ومخطط لها، ولذا فإنه يسلك في تحقيقها طريقاً منظماً من شأنه أن يوصل إلى المراد ويصيب الأهداف بدقة. ولذا لا نعني- بطبيعة الحال- أن كل إشاعة هي بهذه المثابة والتفكير فلسنا ننفي وجود العمل الفوضوي والإشاعة الفوضوية، وإنما نعني أن من أراد دراسة الإشاعة علماً واضحاً منضبطاً أمكنه ذلك.
ولقد كان للأطراف المتنازعة في الحربين العالميتين خطوط ثابتة وأخرى متغيرة في حملاتهم النفسية، أو بتعبير آخر كان لهم استراتيجيتهم وتكتيكهم إبان تلك الحروب وبعدها، “فبريطانيا مثلا أنشأت في عام 1918م قسماً للدعاية ضد العدو برئاسة اللورد (نورثكليف)، كما أمر الرئيس الأمريكي (ولسون) بإنشاء مكتب للاستعلامات العامة تحت رئاسة (جورج سريل) على أساس الاستفادة من الخبرة المستخلصة من الإعلان التجاري، وقد بلغ ما أسقط من منشورات على ألمانيا بواسطة المنطاد (البالون) (5.360.000) منشور خلال أكتوبر- تشرين الأول عام 1918م.
كما لعب عملاء بريطانيا وفرنسا وأمريكا داخل ألمانيا دوراً في توزيع هذه المنشورات”. لكن ألمانيا سبقت خصومها في هذا المجال، فقد طورت وسائلها وأساليبها في الحرب المعنوية حينما أنشأ (هتلر) وزارة خاصة بالدعاية، كانت تبث برامجها عبر الإذاعة إلى العديد من الدول، وكذلك فعلت الدول الغربية، ثم بعدئذ دخلت الإذاعات السرية ميدان الحرب بين الخصوم، فألمانياكان لها خطة استراتيجية في مجال الدعاية تتخلص في شعار: “فَرّقْ تَسُدْ” ثم شعار آخر: “خط الرعب”.
ولكن استراتيجية (فَرِّقْ تَسُدْ) تقتضي مكراً أشد وحيلة أوسع، ولا بد من إجراءات عملية أو استغلال احداث واقعية لتدعم كلتا الاستراتيجيتين ولا يكتفى بمجرد إطلاق الإشاعة.

الخطة الاستراتيجية للإعلام الإسرائيلي:
والناظر في الخطة الاستراتيجية للإعلام الإسرائيلي يجد واضحاً هدف التفرقة والعزف على أوتار العنصرية الإقليمية أو الطائفية، وكان العدو في حروبه مع العرب يعتمد على هذه الخطة، فمثلاً في حربه عام 1982م في لبنان تجلت هذه الخطة حين حاول التفرقة في صفوف المسلمين بين لبنانيين وفلسطينيين، وحاول استغلال الأقليات العديدة في لبنان وتوظيفها لتحقيق مآربه أو تحييدها على الأقل إن لم يكن كسبها. وبالإضافة إلى هذه الخطة كانت هناك خطة استراتيجية أخرى هي إشاعة تفوُّق الجندي الإسرائيلي وتخلُّف الجندي العربي واليأس من احتمال النصر… وفي سبيل تحقيق هذا الخط كان يلجأ إلى الإخبار والأراجيف والإشاعات التكتيكية التي تخدم الخطة الاستراتيجية.
وقد تبين من خطب الدوائر الحاكمة في إسرائيل، خاصة خطب (أبا إيبان) وزير الخارجية الأسبق التي تقوم على أساس أن التكتيك الدعائي الإسرائيلي يقوم على إشاعة اليأس والأمل في نفوس العرب فهو يقول أن واجب إسرائيل أن تجعل العرب يائسين تماماً من مقدرتهم على التصدي للجيش الإسرائيلي، وفي نفس الوقت، تسعى الدعاية الإسرائيلية إلى إشاعة روح الأمل في نفوس العرب حول الوصول إلى السلام مع إسرائيل، وهكذا يكون التلاعب بالألفاظ، واستخدام التكتيكات المتناقضة في وقت واحد. ولكن العرب يعرفون أن الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر ليس سوى أسطورة للحرب النفسية، كما يعرفون أن السلام الذي لا يقوم على العدل لن يكون إلا استسلاماً، يأباه كل العرب.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى