تنمية بشرية

الاستثما ر البشر ى

كثير من الأمم على مر التاريخ القديم والمعاصر استطاعت أن تصل الى درجة كبيرة من التقدم بكل أوبمعظم المجالات بالرغم من عدم تمتعها بقدر كبير من الموارد سواء المتجددة أوالغير متجددة ، ولكنها بفضل مواطنيها تمكنت من

تخطى وتحدى كل مصاعبها ونجحت فى تحقيق أهدافها ، فألمانيا على مدار تاريخها الطويل تعرضت لمحن عديدة كهزيمتها بالحربين العالميتين الأولى والثانية وبسبب سواعدها وعقولها البشرية تجاوزت أزماتها ونهضت من جديد لتصبح مرة أخرى من القوى الاقتصادية والتكنولوجية بالعالم ، وكذلك اليابان التى لاتملك أى ثروات باستثناء ماتخلفه براكينها من معادن وخصوبة لأراضيها الصغيرة المساحة ، فهى اعتمدت دائما على قدرات سكانها من خلال النهوض بهم لكى يستطيعوا بعدها من النهضة بدولتهم وهذا ماحدث فنتج عنه وصولها لمكانة هامة عالميا حاليا ، ومن المفارقة أن يوجد بالعالم العربى خيرات كثيرة ولم تصل فيه أى من دوله أو اقتربت حتى من منزلة العالم المتقدم والذى لايشمل أراضيه على ربع مايحتويه الأراضى العربية من ثروات هائلة ! ، فالمعيار الأساسى هنا فى مدى قدرة استغلال دولة ما لمواردها الكثيرة أوالقليلة على النحو الأمثل ، وذلك يتوقف بالأساس على ثروتها الحقيقية المتمثلة فيما تملكه من ابداعات انسانية والتى تجعلها لاتتأثر سلبيا فى حالة معانتها من ندرة ثرواتها الطبيعية ، ولضمان حصولها على تلك المواهب فانها لابد أن تنشىء منظومة تعليمية متكاملة متطورة من خلال تدعيمها لها بمعلمين أكفاء مدربين على التعامل مع الطلاب نفسيا وسلوكيا وتربويا وتعليميا بالشكل الأنسب و اجادتهم استخدام الكمبيوتر والوسائل العلمية الحديثة عموما وقدرتهم على ايصالها وفهمها لطلابهم ، وعليها أيضا أن تمنح كل المدارس والجامعات والمعاهد كل مايحتاجوه من احتياجات ضرورية تساعدهم على تقديم أفضل رعاية صحية وتعليمية ورياضية وفنية وثقافية للدارسين ، و كذلك ضرورى أن تقدم الدعم المالى والاشرافى اللازم للأبحاث العلمية والابتكارات والأنشطة الطلابية وتقوم بتبنى المخترعين والمبدعين والموهوبين والمفكرين والعلماء ، فاذا فعلت ذلك كله فستضمن لنفسها شباب واعد مبدع قادر على تحقيق مستقبل مشرق ومزدهر لها ، وهذا ماقامت به دول كانت تصنف بالسابق كمتخلفة أونامية كالصين والهند والبرازيل حتى أصبحوا الأن على درجة عظيمة من الرقى الاقتصادى والتكنولوجى ، فالدول الصاعدة الحالية وبجانب المتقدمة اعتمدت بالمقام الأول على أهم هبة خلقها الله وألاهى البشر فمنحتهم مستوى تعليمى متميز لـتأهيلهم للقيادة وخدمة وافادة دولهم فيما بعد لاقتناعهم الشديد بأن التعليم وليس شىء أخر هو الوسيلة والمفتاح لتقدمهم ، وللأسف أن ذلك عكس مارأه عالمنا العربى ، فهو منقسم لقسمين احداهما يملك الامكانيات المادية الكبيرة وهو ماينطبق على الدول الخليجية التى ظلت دائما وحتى وقتنا هذا معتمدة اعتمادا كليا فى تلبية احتياجاتها حتى البسيطة على ماتستورده من الخارج ولم يحاولوا محاولات جادة أن يستغلوا أموالهم الكثيرة فى تنمية شبابهم ليعتمدوا عليهم مستقبلا ، وان كانت الامارات قد بدأت ذلك الاتجاه وخفضت من اعتمادها على النفط بشكل كبير منذ التسعينات ولكنه ليس بالشكل الكافى والكامل فهى مازالت تستند بالدرجة الأولى على الاستيراد الخارجى والاسثمارات الأجنبية بداخلها كنظرائها العرب ، فخطورة استناد اقتصاد أى أمة على الاستثمار الأجنبى يكمن فى أنه من الممكن بوقت ما ينخفض أو يختفى تماما كما حدث لتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية بالتسعينات فانهاروا اقتصاديا عقب ذلك مباشرة ، فهذا السيناريو غالبا مايقع لأسباب سياسية أو اقتصادية تؤثر على العالم أجمع كماهو الحال الأن المتمثل فى التداعيات الخطيرة للأزمة المالية العالمية على مختلف المستويات وأولها انخفاض حجم الاستثمارات عالميا ، وبالنسبة للقسم الثانى العربى فهم الذين يعانون من مشاكل اقتصادية وبروقراطية وادارات فاسدة وغيرها من السلبيات العديدة التى أيضا توجد بالخليج ولكن بدرجة أقل ، فمنها مايعانى من كثافة سكانية هائلة كمصر واضطرابات سياسية كالجزائر والصومال وجزر القمر ، فكل تلك الظروف السيئة السابقة يرجع سببها الأساسى للتخلف الأخلاقى والفكرى والثقافى لغالبية الشباب العربى لافتقادهم للتعليم الجيد ، فهناك احصائية تذكر أن حجم الدعم المالى الذى تقدمه اسرائيل للبحث العلمى يفوق مايقدمه كافة الدول العربية له ، فلذلك ليست من العجيب عندما نسمع عن تمكن الدولة الصهيونية من تصنيع طائرات وأسلحة حديثة ومنتجات عديدة متنوعة تقوم بتصديرها للخارج ومن بينها دول عربية ، وكذلك عدم ذكر أى جامعة عربية فى كل التصنيفات العالمية السنوية لأفضل الجامعات التى أجريت عن طريق معهد تونغ شنغهاى بالصين والتى وردت بها دول كانت فى السابق أقل منا وبفضل اهتمامها بالتعليم تخطيتنا بمراحل واسعة كالصين وجنوب أفريقيا واسرائيل ، وبالرغم من كل ماسبق يفاجئونا بعض الرؤوساء والملوك العرب بأن بدولهم نظام تعليمى ممتاز والبعض الأخر يخرج علينا بمبررات واهية تدافع عن ضعف النظام التعليمى بأوطانهم ومحاولتهم اقناعنا بأن نرضى ونسلم لواقعنا وبأن ليس هناك فى الامكان أحسن مماكان ، فمصر على سبيل المثال تعانى من تكدس سكانى حقيقى يتطلب من الحكومة بناء العديد من المدارس مجهزة بفصول كثيرة وكذلك انشائها لجامعات ومعاهد مزودة بمدرجات ومنشأت بصفة مستمرة لمواجهة الكثافة السكانية المتزايدة سنويا ، ولذلك فهى ترى أن هذا يشكل عبء شديد على الاقتصاد القومى وسيؤثر بالطبيعى على مستوى وجودة التعليم التى توفره للدارسين ، وحاولت الحكومات المصرية المتعاقبة بالسنوات الماضية ايجاد حلول لتلك المشكلة ، ولكنها كانت أم مجرد مسكنات مؤقتة أو رؤى فاشلة ، والاتجاه السائد الأن لحكومتنا هو تشجيعها للتعليم الخاص لمساعدتها وامكانية حلوله مكانها كليا بالمستقبل عندما يثبت نجاح التجربة تماما من وجهة نظرها ، وذلك المسلك الجديد لايعتبر حل جذرى للقضية وبل بالعكس انه سيزيد من تعقيدها ، فبهذا الشكل سيكون التعليم للقادرين ماديا فقط ، فمن عيوب العرب الأزلية عدم محاولتهم الاستفادة من التجارب الخارجية الناجحة ، فبعض الدول الغربية و الأسيوية لها خطوات باهرة فى المجال التعليمى ، ومع اختلاف النماذج التعليمية من دولة لأخرى فانها تقريبا اشتملت على وجود نظامين من التعليم أحدهما خاص للأغنياء والأخر مجانى للفقراء حتى ماقبل مرحلة التعليم الجامعى ولايقل كثيرا فى الجودة عن النوع الأول ، فهم اعتمدوا فى تمويل النظام الثانى على الضرائب ومساهمات المجتمع المدنى وأصحاب الدخول العالية ، فليست هناك مصاعب دائمة اذا أحسن الناس الفكر وخلصت ضمائرهم ، فالصينين والهنود تجاوزوا مشكلة تعداد سكانهم الرهيب واستطاعوا منح تعليم قوى لشعبهم مماجعلهم من القوى الصاعدة اقتصاديا وعلميا حاليا ، وهناك أيضا دول أخرى غيرهما بدأوا أولى خطواتهم نحو الاصلاح من خلال اهتمامهم بالعلم ومن ثم تمكنوا بعدها من اجتياز مصاعبهم التى لم يكن من الممكن تجاوزها لولا وجود شعوب عظيمة علميا وثقافيا ، ومنذ أواخر القرن العشرين ظهر مايعرف بالاستثمار البشرى الذى يعنى ويشمل كل ما ذكرته بالسابق ، فاسثمار الأموال وموارد الطاقة والماديات عموما مطلوب من قبل الحكومات ولكن قبلها لابد من وجود أشخاص أكفاء يستطيعون يديروا تلك الأصول لصالح دولتهم ، فلذلك البنية الأساسية للأمم تكمن فى شبابها المتميزين بالعلم العالى والمتطور وبالمعلومات الغزيرة فيساعدهم هذا فى أن يبدعوا ويقدموا عصاره فكرهم ومجهودهم العلمى التى خرجوا بها من سنوات دراستهم لدولهم ، فالتعليم المصرى كنموذج للمستوى العربى الفاشل بهذا المجال به الكثير من المشاكل الكارثية فعلى سبيل المثال ولاالحصر فهو يعانى من مناهج أساسها الكم وليس الكيف ومتخلفة عن عصرنا المتقدم والامتحانات النهائية العقيمة والطويلة والمرهقة والتى تكون مدتها ساعتين أوثلاثة وتستمر لثلاثة أسابيع أو أكثر فى لجان تخلو من التهوية الجيدة والتنظيم ، ويتم اتخاذها كأساس لتقييم مستوى الممتحنين فيكون غالبية الناجحين و المتفوقين من وجهة نظر تعليمنا الردىء هم االذين اعتادوا واتبرمجوا على الحفظ والتلقين بدون أى فهم ولا استفادة علمية تذكر ، وكذلك عدم اهتمام التعليم الحكومى والخاص بأهمية وجود الأنشطة الفنية والثقافية والرياضية وبمعايير درجات السلوك للطلبة وعدم اتخاذهم بجانب الاختبارات التحريرية كوسائل للتقييم النهائى للطلاب ، وسوء العلاقات بين الأساتذة وطلابهم وغياب الدور الأشرافى لأولياء الأمور على أبنائهم وعدم حرصهم على متابعتهم ورقابتهم وانعدام التواصل بين الأهالى والمسؤولين بالمدارس مماجعلنا نسمع عن حوادث مؤسفة كضرب الأساتذة للتلاميذ والعكس وانتشار حالات الزواج العرفى بالجامعات والمعاهد وتحول معظم المراكز التعليمية لأمكنة للتدخين وتعاطى الممنوعات والتجارة بها وتكدسها بالدارسين مماصعب على المدرسين بالقيام بتأدية دورهم تجاهم على أكمل وجه ، وبالاضافة لشبح الثانوية العامة الذى يخيم على كل أسرة لديها ابناء بتلك المرحلة ويمثل ضغط عصبى زائد عن الحد عليهم وعلى ابنائهم والى جانب الازمة المتكررة سنويا للتنسيق الجامعى، فنتيجة عدم وجود تنوع وظيفى بالدولة واقتصار الوظائف المتاحة الحكومية أو الخاصة على خريجى كليات معينة أصبح تركيزغالبية الشباب تحت تأثير أهاليهم منصب على كليات بعينها المسماة بالقمة كالطب والصيدلة وفى حالة فشلهم بالالتحاق بها فيلجئون مضطرين للتجارة أو الزراعة أو الأداب وانصرافهم عن التعليم الفنى والصناعى ، وكل هذا لاتراعى مسألة الميول والقدرات الذهنية والعلمية لكل طالب ومدى تناسبها مع الكلية التى يلتحق بها ، فهو يختارها وفق أمور بعيدة كل بعد عن التفكير السليم والمنطقى والعملى مماأدى لانتشار ظاهرة الدروس الخصوصية بالتعليم الثانوى وماقبله لدرجة وجودها بالمرحلة الابتدائية ، ولم تشذ الجامعات والمعاهد عن القاعدة فدخل الدكاترة والمعيدين بكل قوة هذا الميدان المربح ، فضعف المرتبات الحكومية للأساتذة بجميع المراحل التعليمية جعلهم يسلكون ذلك الطريق وساعدهم على هذا اكتر احتياج الأسر والأبناء لهم فتحول التدريس من مهنة تربوية وتعليمية لتجارة فسقطت مجانية التعليم نهائيا من زمن طويل ، فكل الظواهر السلبية العديدة الموجودة بالنظام التعليمى المصرى والعربى عموما اذا استمرت على وضعها المؤسف الراهن ستكون المحصلة النهائية بالتأكيد ماتعانيه الأمة العربية الأن من أجيال غالبيتهم منعدمة الأخلاق والمعارف مما جعلهم عاجزين عن خدمة أمتهم ممانتج عنه تخلفها بكل المجالات عن العالم المتقدم واصابة المجتمعات العربية بأمراض اجتماعية متعددة و متنوعة كالرشاوى والمحسوبيات والفهلوة والنفاق وجرائم النصب والاحتيال والقتل والسرقات فأصبح معظم الأفراد مستعدين لعمل أى شىء مهما كان سوءه والتنازل عن دينهم وقيمهم وانسانيتهم فى مقابل تحقيقهم الثراء الفاحش واشباعهم لشهواتهم وطموحاتهم المادية عاما أووصولهم للمجد والشهرة بأقصر وأسرع الطرق متخذين من المقولة الميكافيلية الباطلة ” الغاية تبرر الوسيلة ” كدستور أساسى لهم بالحياة !! ، فانسان بدون عقل مستنير والذى لايأتى الا عن طريق العلم والمعرفة لايتوقع منه الا كل شر فصدق من قال العلم نور والجهل ظلام!!! ، فصحيح أن حكوماتنا العربية قطعت أشواط كبيرة نحو القضاء على أمية الكتابة والقراءة ولكن ذلك أصبح لايكفى الأن وسط المتغيرات التى تجرى حولنا والتى كشفت ان أغلب المواطنين العرب يعانون من أميات كثيرة كأمية الثقافة والتكنولوجيا واللغة وغيرها من متطلبات القرن الحادى والعشرين !!!!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى