تنمية بشرية

السبيل إلى جودة الحياة..

جودة الحياة في جوهر الإنسان

جوهر الإنسان بمكنوناته وخصائصه فيه أسباب جودة الحياة وبهجتها، ذلك هو المضمون الذي تحاول الورقة الحالية مناقشته، ومن الطبيعي أن نتساءل عن ماهية الجوهر؟

إن جوهر الإنسان يتمثل في عمق الفطرة وثراءها، فيه إمكانيات الإنسان الكامنة، وطاقاته المتأصلة، تلك التي تجسد الطبيعة الإنسانية وتعطي للإنسان معنى لوجوده وهدفاً لحياته، فيه تحقيق لإنسانيته وإعلاء للنفس فوق مادياتها.
ولجوهر الإنسان خصائص مهمة تكشف الكثير عن مكنوناته وتوجهات هذه المكونات وعلاقاتها البينية، تلك التي تشكل بنية الإنسان النفسية.

 

ولكن السبيل لجودة الحياة ربما يكون في ثلاثة أمور مهمة هي:
* مجاهدة النفس
* تمسك الإنسان بالكينونة وتعميق الوجود
* استشراف أفق الحرية الأرحب.

أولاً: مجاهدة النفس:
إن الصراع الذي يدور في النفس وينتهي إلى سلوك على نحو ما، هو صراع بين نزعتين متضادتين، نزعة مادية تسود فيها قوى الذات الدونية، تلك التي إذا سادت تطرف السلوك إلى اللاسوية (عدم الاعتدال) ونزعة روحية تسمو بالسلوك ليتفق مع قيم الإنسان الموجبة.
ومن أجل أن يعيش الإنسان على الأرض متطلعاً إلى الآخرة كان من الطبيعي أن يجاهد في سبيل الحصول على الاعتدال والإشباع المتوازن لحاجاته المادية والروحية.
ولا يعد الحصول على هذا التوازن أمراً سهلاً لذا فإن الإنسان في حالة مجاهدة مستمرة وسبيل الإنسان في الحفاظ على قوة دفع المجاهدة أو التوازن قد يتحدد في أربعة مسالك، هي:
* استنهاض الإرادة.
* الانشغال بالاستقامة
* استباق الخيرات وتثبيت النفس
* السمو والعفة.

1. استنهاض الإرادة:
فالإرادة قوة عظيمة من قوى النفس تلعب مع العقل الدور الفعال في الوعي والاختيار، والعقل حيث يتبصر الإرادة ويوجهها يستشعر الإنسان قوى التقوى فيه، فيستمد العقل صفاءه من الروح لينعكس ذلك على النفس سمواً فوق غرائزها.

2. الانشغال بالاستقامة:
حين تنشغل النفس بالحق والاستقامة يصعب أن تنشغل بالباطل
يقول تعالى: (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (الأحزاب: 4)
من الصعب على الإنسان إذن أن ينشغل بأكثر من أمر في آن واحد، أما إذا وضع الإنسان نفسه في المواقف والظروف الممهدة لغلبة الشهوات وصنوف الهدف هنا يغفل القلب وتتغلب الأهواء المزيفة. يقول تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28)، والرسول الكريم يقول: “من حفظ بصره نور الله بصيرته” صدق رسول الله .
الانشغال بالحق وانشغال الإنسان بالاستقامة يحميه إذن من غلبة الأهواء.

3. استباق الخيرات وتثبيت النفس:
يجب على الإنسان أن يجعل دائماً الخير سبيله ومقصده، يقول تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 148). فتكرار فعل الخير سبيل لتثبيت النفس، وثبات النفس هو قمة التكيف والصحة النفسية، يقول تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 265).
ويقول تعالى: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء)(إبراهيم: 27)

4. السمو والعفة:
السمو والعفة وسيلتان متضامنتان لمجاهدة النفس، وهما ليستا وسيلتين مرتبطتين بضعف في النفس البشرية، بل هما دليل على طهر النفس وتغلب الجانب الروحي فيه على الجانب المادي، وكل منهما يتم على مستوى الوعي وليس اللاوعى، وبهذا المعن لا يصبح السمو لا شعورياً بل شعورياً يدركه الإنسان ويستمتع بإدراكه، فيعيش شعوراً روحانياً بتفضيل الفضيلة على غيرها من السلوكيات والإشباعات التي تفقده ذاته.
فإذا لم يجد الإنسان من المال أو الوسيلة ما يستطيع به النكاح – مثلاً – فليصل بدافعة إلى السمو والإعلاء بالعفة التي تقوى الإرادة وتطهر النفس من أهوائها.
يقول تعالي: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) (النور: 33)
وليس المحرك للسمو في الإنسان قوانين أو أعراف أو أطماع بل الهدف من السمو في جوهر الإنسان هو السمو ذاته.

 

ثانياً: تمسك الإنسان بالكينونة وتعميق الوجود:
تمسك الإنسان بجوهره ومكنونات الثراء فيه يجعله يسعى إلى تنمية وتوظيف مواهبه وإمكاناته الذاتية، هذا هو سبيل الكينونة، وهذا هو الحال الذي يتطابق مع الإنسان كإنسان، أما إذا كانت حياة الإنسان قائمة على أساس ما يملك من ماديات الحياة (مال أو جاه أو سلطان) فإنه في هذه الحالة لا يساوي شيئاً، ولا يملك شيئاً، إنه في هذه الحالة مملوك أكثر من كونه مالكاً وذلك المعنى هو ما توصل إليه “إريك فروم” في كتابة الشهير “To have or to be” معنى ذلك أن السبيل إلى جودة الحياة يكمن في تمسك الإنسان بكينونته وليس بما يملكه، بداخله وليس بخارجه، ونستطيع أن نوضح ذلك عبر مسلكين هامين هما:
* البعد عن شهوة التملك.
* البعد عن الأثرة إلى الإيثار.

1- البعد عن شهوة التملك: الدافع إلى التملك يشبع في الإنسان الإحساس بالتميز والسيطرة ومن ثم الزهو والتفاخر، وشهوة التملك يصاحبها الاعتداء على حقوق الغير واغتصاب ما ليس للإنسان حق فيه.
يقول تعالي: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران: 14)،لكن شعور الإنسان بالتميز والسيطرة أو الأمن الناتج عن التملك من هذا النوع هو شعور مزيف بل يتعرض كثيراً للزوال، وعندما تتوجه سلوكيات الإنسان إلى مجرد الاستحواذ أو تملك الجاه أو المال أو السلطان يفقده ذلك ثراء الكينونة والشعور بها، فهو وما يملك كما يقول “إريك فورم” يصبحان أشياء، مجرد أشياء خالية من الحياة، يرتبط بها القلق والترقب والهم.
يقول تعالى: (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة: 55).

أما جودة الحياة الحقيقية فهي مع فقد شهوة التملك وتمسك الإنسان بما يستطيع إنجازه، والتفوق فيه وإثبات وجوده، بهذا يقى الإنسان نفسه القلق والترقب والخوف، فأمن الإنسان في هذه الحالة توجد مسبباته داخل الإنسان وليس في خارجه، في إمكانياته في إنجازاته في طاقاته، في ثقافته، في تماسك شخصيته، وعلى ذلك فلن يستطيع أحد أن يفقده أو يسلبه إياه. وفي حالة تمسك الإنسان بكينونته يكون نشاطه موجهاً من داخله، في استخدام مثمر لطاقاته، فيتصف نشاطه بالإيجابية والفعالية، وفي نفس الوقت بالتجدد، فهو دائماً في نمو وتطور، مرناً مع المواقف، منشغلاً بتحقيق ذاته، في حياة متجددة متدفقة.

2. البعد عن الأثرة إلى الإيثار: الإيثار عطاء بلا توقع مقابل أو جزاء، والإيثار عكس الأثرة، وتعني الأخيرة الأنانية والتمركز حول المنفعة الذاتية.
والإيثار يتجاوز في إشباعه حد التعاطف إلى الحد الذي يستشعر فيه الإنسان المؤثر حاجة أخيه الإنسان، فيمد يد العون إليه مستمتعاً بهذا العطاء.
ونزعة الإنسان إلى الإيثار بدلاً من البخل والشح والتراخي تعبر عن نفس زكيه، في الوقت الذي تعمق معها وجود الإنسان، فحياته ثرية بالعطاء، فإرادة العطاء جزء من إرادة الوجود وفي تحقيقها تحقيق لمعنى وجود الإنسان وكينونته، ذلك لأن الدافع إلى الإيثار خاصية من خصائص غلبة القوة الروحية في الإنسان بها يحقق إنسانيته، ويعلو فوق أنانيته، ويسمو فوق دوافع التملك والعدوان.

 

ثالثاً: استشراف الإنسان لأفق الحرية الأرحب:
إرادة الحياة قوة خفية في الإنسان تجعله يخاف الموت ويسلك وفق ما يحافظ على ذاته، فيحافظ على الحياة، إنه خوف من فقد الهوية، خوف من الانفصال.
ونزعة الإنسان في الحفاظ على هويته قد تشبع بسلوكيات غير سوية، مثل شراهة التملك والقلق المرتبط بتوقع الموت، والقلق المرتبط بالإنجاب، ونوعية *** الطفل ويؤدي ذلك إلى قيود وضغوط الحياة، تعوق جودتها وبهجتها، لكن الإنسان يجب أن يدرك الأسباب والبواعث وراء تصرفاته وأفعاله، وهنا يكون في الوضع الذي يملك فيه حرية الإرادة وإرادة الحرية.
فإذا كانت “الأمانة” تستوجب طاعة الإنسان لخالقه، في الوقت الذي تنطبع فيه هذه الطاعة بالحرية، فالتكليف إذن طاعة وحرية معاً، فإذا كانت الطاعة لازمة للتكليف فإن الحرية هي إرادة المخلوق، ولكن ليس من وراء إرادة الخالق جل وعلا.

وتحرر الإنسان في أعلى مستوياته لا يكون إلا بالعبودية لله والثقة فيه، هنا يتحرر من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فليس كل من في السموات والأرض إلا خاضعاً للرحمن، وفي الاتجاه إلى الخالق العظيم يتحرر الإنسان من عبودية النفس بما فيها من شهوة وطمع، وفي اللجوء إلى الله آمن واطمئنان وسكينة، فلا يصبح الموت مصدراً للخوف، لأنه بيد الله عز وجل ولا يصبح انقطاع الرزق مصدراً للقلق والنفاق، لأنه ليس بيد عبد من عباد الله.

يقول الله تعالى: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (الذاريات: 22)
أليس في ذلك قمة الحرية؟، فلن يأتي أحد من البشر بالموت إلى إنسان آخر، وليس هناك من البشر من يقطع رزقاً عن إنسان آخر.
وإيمان الإنسان بذلك يجعله يعيش جودة الحياة لأنه يكون قد تلمس أفقاً رحباً للحرية، وإذن فلن ينافق أو يداهن، بل يعيش قوياً ولدية الفرصة الكاملة للتفكير والتدبر، وزيادة معرفته وتحقيق أسمى غاياته.

من جانب آخر، فإن التعصب كسلوك يقيد الإنسان ويفقده حرية التفكير، فيصبح الإنسان متسلطاً متحاملاً متصلباً جامداً، والشخصية التسلطية تفتقد الأمن، وغالباً ما تشعر بالفشل والإحباط. وفي التعصب تعطيل لقوى العقل، فهو تقليد أعمى بدون بصيرة ووعي، حيث يفقد الإنسان القدرة على تمحيص الحقائق، فالانفعال غالب على العقلانية، وفي التعصب عدم تسامح وعدم مرونة ومن ثم مقاومة للتجديد والتغيير والتطور، وجور الإنسان يرفض التعصب الذي هو ضد السعى وراء الحقيقة، ضد التقليد الأعمى، ومن ثم ضد جودة الحياة.
يقول تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256)، (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية: 21، 22)

 

 

وبعد…. أعتقد أننا في حاجة ماسة الآن، ونحن على مشارف الألفية الثالثة إلى أن نتوجه في دراستنا النفسية والاجتماعية إلى تعميق لبعض المفاهيم التي تتعلق بجوهر الإنسان وأسلوب الحياة، مثل: الكينونة، ومجاهدة النفس، وصراع المادة والروح في بنية الإنسان النفسية، واستنهاض الإرادة، والسمو والعفة وتربية “التوازن” وتثبيت النفس؛

ولست أقصد من ذلك مجرد سرد لمفاهيم قد نتطرق إليها ولا نوظفها، بل أقصد أن تتخذ هذه المفاهيم كأبعاد لظواهر سلوكية، نوظف المنهج العلمي في دراستها، ونعتمدها كمداخل توجيهية إرشادية، فهي سبيل إلى وصف الداء المستشري في مجتمعنا اليوم، وهي طريق إلى الإرشاد والعلاج، ربما من خلالها نعود إلى التوازن والاعتدال بين المادية وإشباعات الروح فينا، ونعود لنملك هويتنا وإرادتنا وجودة الحياة في جوهرنا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى