تنمية بشرية

التخصص: تركيز في العطاء.. واتقان في الأداء

لا أدري لماذا نغفل بعض المبادئ الإدارية في قضية التخصص؟! فما يجري حولنا من تعدد التخصصات في بعض المؤسسات لا يسبب هدرًا في القوى البشرية والاقتصادية فحسب، بل يتعدّى هذا الأمر إلى ضعف في المنتج، وسوء توزيع في الخدمة، أليس في وسعنا أن نجعل جامعاتنا الجديدة، والتي يُفترض أن تسد الاحتياج الفعلي لاحتياجات سوق

العمل، أن تركز في مخرجاتها ما أمكن على معالجة احتياج البيئة المحلية لكل جامعة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نتوقع من الجامعة في مكة المكرمة أن يكونوا روّادًا في إعداد الكوار المؤهلة في خدمات الحج والعمرة (الفندقة وما يتبعها). وأن يكونوا الأوائل في إدارة الحشود، وفي طب الطوارئ، وفي تقنية التخلّص من النفايات، وما إلى ذلك، وفي جدة يكون التركيز على علوم البحار بمختلف تخصصاتها، وفي تقنية تحلية المياه، وفي السياحة، وفي إدارة الموانئ، وإدارة الفنادق، وإدارة الكوارث، وإدارة المطارات، وإدارة المستشفيات، وإدارة الطرق، بجانب إدارة تقنية المعلومات، مع التركيز على كل تخصص ممّا ذُكر، والتقنية الخاصة به. كانت كلية البترول والمعادن نموذجًا يُحتذى به في العناية بالتخصص حتّى عندما أصبحت جامعة، وقبل أن تنضم إلى نظام التعليم العالي الذي صدر قبل سبعة عشر عامًا، وتحديدًا في عام 1414هـ، ثم بدأت تفقد بريقها رويدًا رويدًا، ولكن حتى عندما استحدثت كلية للإدارة الصناعية كانت دراستها منصبة على إدارة صناعة البترول والمعادن. نأخذ نموذجًا آخر في هدر الجهود، وضعف التركيز، وهذا يتجسد في جمعيات البر والجمعيات الخيرية في بلادنا فهي تعني ببعض الخدمات الصحية بدءًا من المستوصفات، ومرورًا بمراكز لغسيل الكلى، والنطق، والسمع، وهي أيضًا تعنى بالأيتام، والأطفال مجهولي الهوية وهي تعنى أيضًا بالمسنين، وبتقديم المساعدات العينية من أغذية وخلافه، وتعنى بالمساعدات النقدية (تشبه المهمة التي يقوم بها الضمان الاجتماعي)، وهي تعنى بالمساعدات الطارئة، وتُعنى بتقديم قروض بدون فوائد، وهي تُعنى برياض الأطفال، وتُعنى فوق كل ذلك بالسكن الخيري والمساجد، وهي أيضًا تقوم بتوزيع الزكاة على المحتاجين… إلخ. إن ما ذكرته ما هو إلاّ غيض من فيض، وهي كلها أعمال جليلة تستحق هذه الجمعيات عليها الشكر والتقدير، ولكن أليس من الأنسب أن تركز هذه الجمعيات جهودها على مجال واحد، أو اثنين من هذه المجالات، وتضع لنفسها قاعدة معلومات، وتضع خطتها وفق أولوياتها في المجال الذي ترغب التخصص فيه، وتصب اهتماماتها كاملة في التخصص الذي اختارته لنفسها، أو اختارته لها الجهات المشرفة (إن فشلت في الاختيار بنفسها)، وأي مؤسسة هي أدرى بمكامن القوة والضعف، والتنازل عن بعض المهام التي تقوم بها إلى غيرها لا يُعدُّ ضعفًا، وإنما يعدُّ دعمًا لتقوية الآخرين في الخدمة، وبالتالي ما هو مخصص في ميزانيتها ينقل لغيرها، إنها الخطوة التي لن يلجأ إليها إلاَّ الأقوياء النبلاء، والباحثون على تقديم الأفضل للارتقاء بالخدمة، وتحقيق العدالة..

ان التنازل عن بعض الخدمات التي تقدمها جمعيات البر والجمعيات الخيرية بكل أنواعها يحتاج إلى قدر من الشجاعة، لاسيما وأن المؤسسة أو الجمعية -سمّها ما شئت- هي أدرى بمكامن الضعف والقوة، وبالتالي فإن التنازل لغيرها من قائمة الخدمات العديدة التي تقدمها، فيه تخفيف من الأعباء وإتاحة الفرصة لتقوية الآخرين في مجالات محددة لتقديم خدمات أفضل، وأُضيف إلى ما قلته بأنه حتى خيار الاندماج ينبغي أن يكون حاضرًا في أذهان الغيورين من العاملين في المؤسسات الخيرية.
وأريد بعد ذلك أن ألفت الانتباه إلى ما يحدث عند إصدار السجلات التجارية فترى في سجل الأفراد أو المؤسسات والشركات أشكالاً من التخصصات منصوصًا عليها في السجل، ومسموحًا لصاحبها بممارستها مثلاً: تجارة الجملة والقطاعي، استيراد وتصدير، تشغيل وصيانة، مقاولات، عقارات… إلخ. السؤال: هل يجوز تعدد المناشط في شركة أو مؤسسة واحدة؟ أليس من الأنسب العناية بالتخصص والتركيز على نشاطين أو ثلاثة كحد أقصى ووفق ضوابط محددة. مثال آخر في المجال الطبي، فقد لوحظ أن بعض أطباء العظام يروّجون لأنفسهم، وكأنهم متخصصون في العمود الفقري، والكتفين، والورك، والقدمين، والركبتين… إلخ في الوقت الذي يعرف الجميع انه من الصعوبة بمكان أن يتخصص في كل ما ذكر، أمّا أن يكون لديهم إلمام ببعض هذه التخصصات فالأمر مستساغ، وبعض الأطباء في العالم الثالث يستخدمون بعض العبارات التي توحي بتخصصهم، وهم غير متخصصين أصلاً، ويندرج هذا الأمر حتى في طريقة كتابة اللقب العلمي الذي يشبه إلى حد كبير الطريقة التي يلجأ إليها بعض ضعاف النفوس من التجار عند رغبتهم في الإعلان عن التخفيضات في محلاتهم، فيكتب تخفيضات 40% بخط كبير جدًا، وكلمات صغيرة يصعب قراءتها (تصل إلى)، والفرق بين الطبيب والتاجر أن الطبيب في عنقه القسم الذي أدّاه، وبعض التجار ليس لديهم الوازع الخلقي ليردعهم.
ومن مظاهر الأذى والهدر الذي يحدثه عدم التخصص ما نراه في القضاء، ومرافقه المختلفة، حيث يتعذّر أن يعنى نفس القاضي بقضايا الأحوال الشخصية بكل فروعها، وقضايا الحقوق العامة، وقضايا الأوقاف المختلفة والجنايات، وغيرها من القضايا المتنوعة، ولقد تم فصل قضايا العمل، وقضايا المنازعات التجارية، وقضايا الأوراق المالية في الماضي القريب، ويحدونا الأمل أن نرى ثمار مشروع الملك عبدالله لإصلاح القضاء، وما نعلّق عليه من آمال، وقد جعل مهمة التخصص فيما ينظر من قضايا في سلم أولويات هذا المشروع، وأن يتزامن هذا مع دورات تأهيلية للقضاة، وسيرفع هذا الأمر عن الناس معاناتهم ويقلل من بعض الأخطاء التي يقع فيها القاضي ربما من غير قصد. والله من وراء القصد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى