خلف ظهرك….
يا صديقي ..
كلام البشر مؤلم وقاسٍ في كثير من الأحيان، وفي الغالب كل واحد منا لديه تجربة أو أكثر يمكن أن يؤكد من خلالها كيف أن كلام الناس كان مُحبطاً له، بل ربما أوقعه ـ أو كاد ـ في دوامة من الإحباط والفشل ..
ولعلك قرأت من قبل كثير من النصائح التي تعطي بعض الحلول لأزمة “كلام الناس”، وتحاول أن تصنع لنا سبيلاً في التقدم دون الوقوف والتأخر عند قول هذا أو ذاك..
إن المتمرس في الحياة، سيخبرك في يقين وحزم بأن الناس عليك .. لا معك!.
وأنك إذا ما أحببت أن تعيش مرتاحاً هانئ البال سعيد الجنان فيجب أن تسقط من حساباتك فوراً وبدون إبطاء أي توقع بأن يشجعك الناس إذا ما أحسنت، ويغفروا لك إذا ما زللت، ويواسوك في حزن حقيقي إذا ما ألمت بك فاجعة أو ضربتك الأيام بأحد سهامها المؤلمة .. هل ترى في حديثي نظرة سوداوية وسوء ظن بشركاء الحياة؟، صدقني أنا أحاول أن أحميك من أن يرتفع سقف توقعاتك فتستيقظ على الحقيقة المرة القاسية، وهي أنه لا يد غير يدك يمكن أن تمسح دمعتك، وأنك يجب أن تتحرك في دنيا الناس دون أن تنتظر منهم شيء.
أعلم يقيناً أننا لسنا آخر المخلصين والشرفاء، وأن الحياة بها أناس طيبين، ورائعين، ولكن أن تزهد فتجد، خير لك من أن تحتاج فتُحرم.
شيء آخر .. إن البشر بقصد حيناً وبدون قصد أحياناً أخرى يعمدون إلى تسليط ضوء النقد على الأشياء السيئة التي تفعلها، أو تقولها، وقد يصنعونها أو يفسرونها على أهوائهم، ولو أخذت يا صديقي كل ما يقال لك بحساسية واهتمام فإنك ستخسر كثيراً، وتتعذب أكثر .
ستسألني بدورك .. وماذا أفعل أمام شلالات النقد التي تواجهني، وكلام الناس الذي يحبطني، والعراقيل التي يحاول البعض وضعها أمامي كي لا أتقدم إلى الأمام قيد أنملة ..؟ وأجيبك بأن .. الق كل ما يسوئك في الحياة خلف ظهرك، ولا تهتم به !.
واسمع مني قصة ذلك الرجل الانجليزي، والتي جرت في أربعينات القرن الماضي يوم أن كانت مصر محتلة من قبل أصحاب البشرة البيضاء، وخلاصتها أن رجلاً إنجليزياً كان يركب حماراً ويسوقه أحد الفلاحين في إحدى قرى مصر، كان الفلاح ناقماً على هذا “الخواجة” الذي يتعامل مع الجميع بأنفه وغطرسه، فما كان منه إلا وأخذ في توجيه الشتائم للرجل الراكب وهو يعلم أنه لن يفهم حرفاً مما يقول!.
بدا هذا مُريحاً للفلاح ونوعاً من القصاص العادل ـ من وجه نظره ـ تجاه ظلم هؤلاء القوم الذين أتوا من بلادهم البعيدة ليمصوا قوت الفلاحين وعرقهم، غير أن أحد المارة غضب مما يفعله الفلاح، فذهب إلى الرجل الإنجليزي وقال له بالانجليزية : هل تعلم ما الذي يقوله هذا الفلاح لك، فأجابه الرجل الانجليزي بلامبالاة : لا .
فقال له الرجل : إنه يستغل عدم معرفتك بالعربية ويسبك مطمئناً أنك لن تفعل له شيئاً، فما كان من الرجل الانجليزي إلا أن قال له ببساطة ودون أن يلتفت للفلاح الوجل الخائف : وهل يؤثر هذا في خط سيره، أو يؤخرنا عن وصول مبتغانا، فقال له الرجل : لا، ولكن .. هنا قاطعه الرجل الانجليزي وهو يشير للفلاح أن يُكمل سيره : إذن لا أبالي !.
مع كراهيتي للغطرسة، واشمئزازي من الاستعمار والظلم، إلا أنني لم أمنع نفسي من الاعجاب بهذا الرجل الذي علمني شيئاً هاماً، وهو أن أعرف هدفي وأمضي إليه دون أن أهتم بأي حواجز يحاول البعض أن يضعها أمامه، خصوصاً إذا كانت هذه الحواجز عبارات ناقمة، أو حاسدة، أو عدوانية.
ستقول لي أن ذلك صعب .. أعلم ذلك!. ستقول لي أيضاً أننا بشر ورغم عنا سنتأثر مرة أو مرات .. وهذا أيضاً حادث وأعلمه. ستقول لي أن البشر هم شركاء الحياة ولا يمكن أن نعيش وحدنا .. وهذا اوفقك عليه كذلك.
أوافق أن تتأثر مرة، أن تحزن مرة، أن تتوقف متعجباً من كلام الناس مرة، لكني ارفض تماماً أن تسمح للآخرين أن يطأوا بكلماتهم القاسية أرضك المقدسة، فيستخفوا بك أو بأحلامك، أو ينالوا من ثقتك بنفسك..
لقد قلبت في سير الأنبياء والصالحين فلم أرى واحداً منهم عاش بعيداً عن الاهانة والابتلاء الذي يقابلهم به البشر، لقد نالهم من بغي وظلم الناس وسوء ظنهم الشيء الكثير، رغم ما يحملونه بداخلهم من خير للبشرية، ومحاوله صادقة لنفعهم وإنقاذهم من الظلمات والشرور التي تمتلئ بها الحياة..
إنها سُنة الله في الكون، والغلبة في معركة الحياة لا تتأتى إلا لمن مضى في طريقه غير عابئ بما يقوله الناس ويلمزوه به.
وأن يكون الخير الذي بداخله، والثقة التي تحركه، والتفاؤل الذي يتمسك به أقوى من كل إحباطات العالم……..