يتجه عدد كبير من الدول في أيامنا هذه الى النهوض بمستوى الخدمات في ميادين الاقتصاد والسياسة والاجتماع على أساس علمي فني منسق يوفر الكثير من الؤقت والجهد والمال.
واستعانت الدول في ذلك بطرق عديدة ومناهج مختلفة واصطلاحات متقاربة في مظهرها متباعدة في جوهرها ومدلولها. ومن أهم هذه الاصطلاحات تنسيق الخدمات الاجتماعية، وتنظيم المجتمع، والتخطيط الاجتماعي. ومن المهم أن نتبين مدلول كل من هذه الاصطلاحات، والدوافع التي دفعتنا إلى قصر دراستنا على جانب تنسيق الخدمات الاجتماعية دون الجانبين الآخرين.
ولابد أن ندرك –منذ البداية- أنه من العسير تحديد تعريف جامع مانع لكل مصطلح من هذه المصطلحات الحديثة لسببين أساسيين. أولهما أن فكرة التنظيم والتنسيق والتخطيط لا تزال في مرحلة النمو، بل أنها دائمة التطور والتقدم لدرجة تجعل من غير المفيد الاعتماد على تعريفات قديمة وتفسيرات لا تتفق مع طبيعتها المتغيرة. والسبب الثاني يرجع إلى أنه على الرغم من الاتفاق على أهداف كل جانب من هذه الجوانب وموضوعاته وطبيعة نشاطه، فان الفلسفات التي يقوم عليها كل منها قد تختلف وتتباين لدرجة تجعل من العسير تحديد فلسفة ثابتة لتنسيق الخدمات الاجتماعية وتنظيم المجتمع والتخطيط الاجتماعي، بحيث يقبلها المشتغلون في هذه الميادين بالإجماع. ولهذا فان التعريفات التي وصلنا إليها تعبر عن منهجنا الشخصي وهي لا تعدو أن تكون محاولة في سبيل الوصول إلى تعريف مستقر ومتطور في الوقت نفسه.
التنظيم Organization
ظهر التنظيم في مجال الخدمات الاجتماعية عندما أنشئت جمعية تنظيم الإحسان بلندن عام 1869 ووضعت هذه الجمعية مبادئ هامة لتنظيم الإحسان وعدم منح مساعدات وقتية غير كافية للأفراد، بل تمنح الأسرة مساعدة كافية عادلة تجعلها تعيش في حالة طيبة على شرط أن تتعاون الأسرة مع الهيئة التي تنال منها المساعدة على رفع مستواها حتى يمكنها أن تعتمد على نفسها.
كما وجه الكاتب المعروف “روبرت دي فورست” اهتمام الرأي العام إلى موضوع التنظيم في مقال له بمجلة الإحسان في عددها الصادر في نوفمبر سنة 1891 تحت عنوان “ما هو تنظيم الإحسان؟”
وفي هذا المقال يبدي المؤلف قلقه من عدم تجميع الجهود للوصول إلى مستوى أفضل في ميدان الإحسان، وهو المظهر الذي كانت الخدمة الاجتماعية لا تزال تقوم عليه في أوائل القرن التاسع عشر، أي أن فكرة التنظيم كانت تقوم منذ البداية على التعاون المثمر في سبيل رفع مستوى الخدمات، ولكنها لم تكن تتضمن القيام ببحوث اجتماعية للأسر التي تعيش في مستوى اقتصادي منخفض للوقوف على حاجتها ومد يد العون إليها بما يتناسب مع هذه الحاجات ولم يكن الهدف من هذا التنظيم هو دراسة وسائل تنمية الموارد الحالية، وعلى الأخص إعانات البر للنهوض بمستوى الخدمات، وإنما كان الهدف الرئيسي هو تنظيم عملية الإحسان نفسها بحيث تشمل عدداً كبيراً من المواطنين الذين يعيشون في مستويات اجتماعية واقتصادية معينة وذلك عن طريق استبعاد الإحسان الفردي المتقطع إلى نوع من الإحسان الجمعي المنظم.
وبظهور قانون ” الضمان الاجتماعي” في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1935 – في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم حول عام 1930 – بقصد إصلاح نواحي الفساد الذي تغلغل في المجتمع الأمريكي وأخل بمستوى الحياة فيه، ظهرت من جديد أهمية ” تنظيم المجتمع” أو بمعنى آخر “تنظيم الهيئة الاجتماعية” تنظيما يكفل مقاومة العوامل التي تؤدي إلى قلق الأفراد وشعورهم بالعجز عن مسايرة مطالب الحياة لاسيما في حالات البطالة والمرض والشيخوخة. فتعرض المؤتمر القومي للخدمة الاجتماعية الذي عقد في نفس العام و في عام 1938 إلى دراسة موضوعات عن التخطيط الاجتماعي وتنظيم الهيئة الاجتماعية، أهمها: مقال للكاتبة “مارجريت ريف” عن ” التخطيط في المجتمعات الريفية”، ومقال للعلامة “روبرت لين” عن “ميدان تنظيم المجتمع”.
وبعد ظهور هذه المقالات ببضع سنوات اجتمعت لجنة تمثل بعض الخبراء في ميادين الخدمة الاجتماعية بالولايات المتحدة الأمريكية لوضع تعريف شامل لفن تنظيم المجتمع، ورأت هذه اللجنة أنه من الضروري التعرف على كافة ميادين المعرفة والوقوف على منزلة هذا الفن الجديد من مجموع هذه العلوم والفنون.
بيد أن اللجنة الأمريكية التي أشرنا إليها لم تتمكن من الوصول إلى تعريف دقيق للمقصود بتنظيم المجتمع، وانتهت إلى القول بأن الموضوع يحتاج إلى الدراسة التتبعية في ميدان التطبيق حتى يتبدد ما يشوب اصطلاح ” التنظيم” من غموض وإبهام.
ووجدت اللجنة الفرصة سانحة للوصول إلى هذه الدراسة وتحقيقهاً عملياً عندما أبدت الجمعية الأمريكية لمدارس الخدمة الاجتماعية استعدادها للمساهمة بجهود أساتذتها وطلابها في إجراء البحوث التطبيقية التي تحتاج اللجنة إلى إجرائها. وقد أدى تعاون اللجنة والجمعية معاً إلى تحديد نطاق هذا الفن الجديد بتوحيد الموضوعات التي تنضوي في إطاره الأساسي تحديداً رسم هذا الفن شخصيته وعين له مقوماته.
وقد تمكنت الجمعية الأمريكية لمدارس الخدمة الاجتماعية من السيطرة على هذا التحديد نتيجة لإشرافها الفعلي على أكثر من أربعين مدرسة من مدارس الخدمة الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية مما مكنها من تحديد موضوعات الدراسة التي يتضمنها فن تنظيم المجتمع على نحو جعل من الضروري اتباع هذا التحديد من جانب كافة الهيئات المشتغلة بالخدمة الاجتماعية أو المهتمة بشؤون الإصلاح الاجتماعي.
ومع ذلك فلم تتوصل اللجنة والجمعية إلى تعريف جامع مانع لفن تنظيم المجتمع؛ فمن قائل أن تنظيم المجتمع يعني تنمية العلاقات بين الجماعات والأفراد بصورة تساعدهم على العمل سويا لتحقيق أقصى درجات الرفاهية الاجتماعية. وهناك من يرى أن تنظيم المجتمع يقصد به الجهود الموجهة والمقصودة لمساعدة الجماعات على الوصول إلى الاتحاد في الغاية لتحقيق أغراض عامة أو نوعية. وفي تعريف آخر يعني تنظيم المجتمع البرنامج الكامل للعلاقات وتعاون الأفراد والجماعات الذين يعملون معا لبلوغ أمانيهم المشتركة ولعمل الخير بين الناس.
و من رأيي أن عدم الوصول إلى تعريف موحد لهذا الفن يرجع إلى شمول اصطلاح ” التنظيم” بحيث يتضمن تنسيق الجهود المختلفة في الميدان الاجتماعي من جانب ورسم الخطط أو ما يسمى القيام بتخطيط للمشروعات قبل البدء في تنفيذها من جانب آخر بقصد الوصول إلى عملية التنظيم المطلوبة.
ويمكننا – مع ذلك – الاجتهاد في الوصول إلى تعريف مبدئي لفن ” تنظيم المجتمع” بأنه ” عملية اجتماعية تستند إلى رسم الخطط وتنسيق الجهود وتنفيذ البرامج بقصد استثمار الموارد الفعلية في مجتمع من المجتمعات استثماراً يلبي كافة احتياجات المواطنين في هذا المجتمع بقدر الإمكان؛ كما أنه إلى جانب كونه فعملية فهو بناء اجتماعي بوصفه يمثل الهيئات التي تقوم بالتوفيق بين الموارد والحاجات في المجتمع المحلي”.
حرصنا في هذا التعريف أن نلقي الضوء على خصائص فن تنظيم المجتمع. فهو أولا عملية من العمليات الاجتماعية؛ وفي هذا تأكيد لأهمية الفاعلية الفردية في التطبيق، فهو وإن كان يقوم على أسس ومناهج علمية، إلا أنه كأي فن من الفنون يتطبع بشخصية القائم بالتنظيم وأسلوبه وفلسفته الاجتماعية بوجه خاص. وهو عملية تعاونية لأنه يعتمد اعتماداً كلياً على مشاركة الرأي العام وبذله جهدا تعاونيا لرفع مستوى الحياة الجمعية فيه.
وهو بالإضافة إلى ذلك يعتمد على التخطيط الذي يقوم على أسس علمية وأساليب موضوعية تهدف إلى استخدام موارد المجتمع وإمكانياته وتنميتها بطريقة فعالة لتحقيق الرعاية الاجتماعية على أكمل صورة؛ فهو يشمل جانباً تصويرياً لمشاكل المجتمع وظروف الحياة فيه وإمكانياته المادية بوجه عام. ولكن التخطيط الاجتماعي لا يمكن ظهوره عملياً إلى حيز الوجود دون الوصول أولا إلى تنسيق شامل للخدمات موضوع التنظيم.
فالتخطيط الاجتماعي لمجتمع من المجتمعات يستلزم – لكي يقوم على أساس سليم – معرفة تامة عميقة بالأحوال السائدة في هذا المجتمع بمعنى ضرورة الوقوف على الحقائق التي تؤثر في حياة المجتمع.
وفضلاً عن اعتماد ” تنظيم المجتمع” على التخطيط الاجتماعي وتنسيق الخدمات الاجتماعية في هذا المجتمع، فان عملية التنظيم ليست قاصرة على الهيئات المشتغلة بالخدمات الاجتماعية فحسب، وإنما تساهم فيها كافة الهيئات التي لا تتصل اتصالاً مباشراً بهذه الخدمات وإنما تؤدي دوراً غير مباشر في تحديد مستوى الخدمات الاجتماعية في هذا المجتمع. ولهذا فإننا قد ضمنا تعريفنا عبارة “تنسيق الجهود” و لم نكتف بذكر تنسيق الخدمات الاجتماعية فحسب.
ثم إن عملية تنظيم المجتمع شأنها في ذلك شأن عملية تنسيق الخدمات الاجتماعية لا تكتفي بالدراسة فحسب؛ أو بمعنى آخر لا تهتم فقط بالجانب التحضيري وإعداد الخطط، بل هي عملية ديناميكية تعني إلى جانب الدراسة والتصميم ورسم الخطط بجانب آخر فعال هو الجانب التطبيقي. ولهذا حرصنا في تعريفنا لفن تنظيم المجتمع أن يتضمن مهمة تنفيذ البرامج بقصد استثمار الموارد الفعلية في المجتمع استثماراً يلبي كافة احتياجات المواطنين.
مما لاشك فيه أن كل عملية من العمليات الاجتماعية لا تتميز بالجذرية وإنما تتصف بالمرونة وضرورة توافر الشروط المناسبة في كل حالة وفي كل بيئة لكي تنجح هذه العملية وتؤتي ثمارها. ولهذا حرصنا على أن نختم تعريفنا لفن تنظيم المجتمع بأنه يهدف إلى تلبية كافة احتياجات المواطنين بقدر الإمكان بمعنى أنه قد تحدث ظروف طارئة أو قد تتغير أساليب الدراسة أو التخطيط أو التنفيذ بشكل يجعل من غير اليسير الوصول إلى تحقيق كامل لكافة احتياجات المواطنين في المجتمع موضوع التنظيم.
ومن المهم أن ندرك أن عملية تنظيم المجتمع يمكن أن تتعدى نطاق المجتمع المحلي إلى نطاق أوسع وأشمل وهو نطاق المجتمع العالمي بأكمله إذا ما توفرت الأركان الضرورية اللازمة لعملية التنظيم.
وقد أضفنا إلى التعريف وجهة النظر القائلة بأن تنظيم المجتمع ليس عملية فحسب وإنما هو بناء يقوم بالفعل في التشكيلات التي تظهر في صورة هيئات وجمعيات ومؤسسات ترمي إلى التوفيق بين الموارد والحاجات.
التخطيط Planning
يحسن قبل أن نتناول بالتعريف “تنسيق الخدمات الاجتماعية” أن نقف على مدلول ” التخطيط” وميادين تطبيقه. والتخطيط شأنه في ذلك شأن التنظيم يعتمد على التعاون البشري الواسع النطاق، فالتخطيط ليس عملية فردية وإنما هو عملية تعاونية حقيقية فهو تعاون في كافة الميادين الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية في إطار المجتمع المحلي أو الدولة بأكملها، وفي كثير من الأحيان يشمل العالم أو أجزاء كاملة من العالم.
وقد نشأ التخطيط في أول أمره بعيداً إلى حد ما عن الدوائر الاجتماعية، وخاصة في الدول الديمقراطية التي اعتبرته عنصراً دخيلاً على أساليبها ومناهجها وفد إليها من الدول ذات الاقتصاد الموجه وذات النظم الديكتاتورية.
وعندما ظهر الاتجاه نحو استخدام التخطيط في رسم سياسة إنشائية لمشروعات الإصلاح الاجتماعي، لقي مقاومة عنيفة من جانب الحكومات الديمقراطية التي اعتبرته ” وسيلة منظمة خبيثة إلى حد ما، يراد بها الحد من التشكيلات الاجتماعية وتجميع الأفراد والجماعات لتحقيق أغراض غير كريمة أو مقصودة بناحية أو أخرى”. ولكن طبيعة التطور البشري وتشابك المصالح وتداخل العلاقات بين الدول والشعب بعضها بالبعض الآخر، جعل من التخطيط ضرورة من ضرورات الحياة في مجتمع معقد متشابك الأطراف. فلم يعد الفرد ولا المجتمع منقسماً إلى خلايا يمكن أن تسير كل منها في طريق بعيد عن الأخرى، بل أصبح الارتباط بينهما من أهم مقومات نموها وحياتها وتطورها.
فقيام المشروعات الاقتصادية الكبرى لا تتحقق بدون تخطيط اقتصادي بل إن اقتصاديات المجتمع بأكمله لا بد أن تعتمد على تخطيط اجتماعي طويل الأمد. كما أن قيام المنظمات العالمية كهيئة الأمم المتحدة، أو قيام المنظمات الإقليمية كجامعة الدول العربية، لهو خير دليل على أن الدول لا يمكنها أن تعيش منعزلة عن غيرها من الدول الأخرى بل هي في حاجة ماسة إلى هذا التعاون في الشؤون الاجتماعية والثقافية. وحتى في الشؤون الصحية ظهرت الحاجة إلى قيام منظمة للصحة العالمية ومنظمة للأغذية والزراعة.
هذه المنظمات تعتمد في مشروعاتها على تعاون الشعوب المنضوية تحت لوائها، وعلى التخطيط في كافة مظاهره سواء أكان تخطيطاً اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو تخطيطاً ثقافياً.
ولهذا يمكننا أن نضع تعريفا للتخطيط يتضمن المظاهر التي وصلنا إليها من استعراض ميادينه ووسائله ومناهجه في الدراسة والبحث. ” التخطيط نوع من العمل التعاوني الشامل يقوم على المنهج العلمي في البحث بقصد رسم خطة قابلة للتنفيذ في حدود الإمكانيات والموارد القابلة للاستثمار.”
هذا التعريف الذي نضعه للتخطيط بوجه عام يمكننا تطبيقه على التخطيط الاجتماعي بوجه خاص، فنجد أنه نوع من العمل التعاوني الشامل إذ أن الوصول إلى الإطار الذي يدور في فلكه التخطيط الاجتماعي المنتظر يتطلب نمو روح التعاون بين الأفراد والجماعات والهيئات المشتغلة بالإصلاح الاجتماعي قبل البدء في تحديد العناصر الأولى اللازمة لهذا التخطيط. ولهذا كان من الضروري الوصول إلى درجة مقبولة من الوعي التعاوني بين الأفراد والجماعات حتى يتيسر الحصول على البيانات والمعلومات الأساسية في التخطيط الاجتماعي.
والتخطيط إذ يقوم على التعاون ويستند إلى الوعي الاجتماعي يعتمد على المنهج العلمي في البحث. والمنهج العلمي – كما هو معروف لنا – يقوم على الملاحظة والتجربة واستخلاص القانون من التجارب المختلفة. ولهذا كان من الضروري أن يعنى المهتم بشؤون التخطيط بالتعمق في دراسة القوانين التي تسيطر على الجانب الذي يهمه القيام بإعداد تخطيط له. فمثلا يجب على المهتم بشؤون التخطيط الاقتصادي أن يدرس المذاهب الاقتصادية المختلفة والقوانين المسيطرة عليها وكل ما يتعلق بالتضخم ووسائل الإنعاش الاقتصادي وغير ذلك من الدراسات اللازمة لإعداد تخطيط اقتصادي يتفق وظروف المجتمع الذي يعنيه.
ومهما تباينت أساليب التخطيط فلا بد له أن يقوم على رسم خطة قابلة للتنفيذ في حدود الإمكانيات والموارد القابلة للاستثمار, فالمشروعات الخيالية والخطط التي تعجز عن تنفيذها موارد الهيئة موضوع التخطيط لا يمكن أن تدخل في نطاق التخطيط العلمي الذي قمنا بإطلاق هذا التعريف عليه.
وعلى هذا فان توافر هذه الأركان الثلاثة أمر ضروري في التخطيط الاجتماعي لأن الخطط الصلاحية ومشروعات النهوض بمستوى المواطنين تتطلب إدراكاً تاماً لإمكانيات المجتمع من جانب واستعداد الأفراد والجماعات والهيئات لتقبل نتائج هذه المشروعات من جانب آخر.
التنسيق Coordination
كثيراً ما تقوم مشروعات الإصلاح الاجتماعي والخدمة الاجتماعية على مشاعر إنسانية، وعواطف فردية تبدأ بداية موفقة، ولكن كثيراً ما تتلاشى الهيئات المشرفة على هذه المشروعات، وتذوب هذه الخدمات في محيط الهيئة الاجتماعية، دون أن تتمكن من تحقيق رسالتها وتأدية الدور الذي قامت من أجله. وقد يكون السبب المباشر لهذا العجز الطارئ قصوراً في الإمكانيات المادية للهيئة، فلا تقوى على تلبية الحاجات المتزايدة، ويزداد الضغط عليها فتستسلم وتغلق أبوابها، وينتهي نشاطها من الوجود.
وقد يخفت نشاط الهيئة شيئاً فشيئاً، لتغير الظروف التي صاحبت نشأتها ولتحولها عن أهدافها الأصلية إلى أهداف أخرى ثانوية، مما يجعلها عاجزة عن تلبية احتياجات البيئة فتنصرف عن غرضها الأساسي إلى أعراض أخرى مغايرة لها.
وفي أحيان أخرى تظل الهيئة قائمة، تسعى جاهدة إلى تحقيق رسالتها، باذلة أقصى جهدها في التعرف على الحاجات المختلفة في البيئة لإمكان إشباعها في حدود إمكانيات الهيئة وسلطانها. بيد أن أموراً كثيرة تحول دون إشباع هذه الحاجات التي تبذلها نتيجة لعدم توفر وسائل الإعلام والتبصير التي تيسر على المحتاجين التقدم بطلب المساعدة من جانب، ولعدم كفاية البحوث الاجتماعية التي تجري لدراسة حالة العملاء الذين يتقدمون لطلب المساعدة من جانب آخر، فتضطر الهيئة أن تقدم الخدمات دون بحث جاد أو دراية علمية سليمة.
وكثيراً ما تتكرر الخدمات ذات الطابع والهدف الاجتماعي الواحد في نفس البيئة، في حين أن مناطق أخرى تحرم حرماناً كلياً من هذه الخدمات نتيجة لقيام النشاط الاجتماعي في غالبه على جهود أهلية تفتقر إلى التنسيق ولا يربط بينها تعاون وثيق أو شعور بوحدة الأهداف. فكثيراً ما تقوم هيئة من الهيئات لمجرد تحطيم جهود هيئة أخرى في نفس الميدان، لا تدفعها الرغبة في النهوض بالمواطنين بقدر ما تدفعها المنافسة الشخصية وتحقيق الرغبات الذاتية من شهرة أو مجد في الهيئة الاجتماعية.
وكثيراً ما يقوم في محيط الهيئة الاجتماعية هيئات ذات طابع إصلاحي دون أن يتوافر لها الجهاز الفني والإداري المناسب وتظل إدارتها في أيد غير خبيرة، فتنفق عن سعة في أوجه لا تتلاءم مع احتياجات البيئة، ولا تشبع مطالب النفس البشرية وتقديس الفردية الإنسانية.
فالهيئات والجماعات التي تقوم من أجل إشباع حاجة معينة في البيئة، لا بد أن تدرك أن تقدير هذه الحاجات يلزم أن يكون نابعاً من نفوس المواطنين أنفسهم. فلا بد أن يقدروا أنه ينقصهم شيء بذاته، و يطالبوا بتوفيره لهم؛ وهنا فقط تصبح الخدمة مجدية ومثمرة في الوقت نفسه.
ففي ميدان البر بالفقراء –مثلاً – نجد هيئات لا حصر لها، تتمتع بموارد مادية وفيرة، وتؤدي خدمات لا يمكننا أن نقلل من شأنها. ولكن انعزال كل هيئة منها عن الأخرى واستقلالها في إدارتها وفي تصميم مشروعاتها، يترتب عليه أن مجموع الخدمات التي تحققها يقل بكثير عن مثيله لو أمكن توثيق التعارف بين هذه الهيئات على اختلافها بحيث يتحقق بينها تعاون مثمر في سبيل الصالح العام.
فمجموع الميزانيات الضخمة لهذه الهيئات، يمكن بنفس المواد وبإدارة أكثر تنظيما، أن توجه نحو الإنفاق الصحيح بدلاً من توزيعها على غير هدى وحسب ظروف الأحوال. وترصد هذه الميزانيات لتلبية حاجات البيئة التي ظلت بدون عناية نتيجة عدم التعرف عليها؛ أو نوجه هذه الجهود نحو تحقيق خدمات أفضل قائمة على الدراسة والبحث والاستقصاء، وبهذا يمكن القضاء على هذه الفئة من معتادي طلب المعونة والإحسان دون أن يكون لهم أي حق في ذلك.
ولا يتوافر العلاج الناجح –إذن- إلا مع تنسيق جهود هذه الهيئات لرفع مستوى الخدمات التي تقدمها كل هيئة على حدة. فتنسيق الخدمات الاجتماعية هو ” تعاون جهود الهيئات المشتغلة بالخدمة الاجتماعية والإصلاح الاجتماعي، للوصول إلى إدراك أفضل للحاجات، والوصول إلى تحديد أفضل للموارد المختلفة في المجتمع، بقصد رفع مستوى الخدمات الاجتماعية التي تقدمها بوجه عام” فهو بهذا من أهم أوجه النشاط في تنمية المجتمع و تنظيمه. ويقوم التنسيق على ركنين أساسيين:
أولا: إدراك أفضل للحاجات الحقيقية للبيئة و للمواطنين في كافة نواحي النشاط الإنساني.
ولا يتأتى هذا إلا عن طريق الدراسة العلمية العميقة لكل مسألة على حدة لمعرفة نواحي النقص فيها، والأسباب المؤدية إليها في كل حالة، ليتيسر تصميم المشروعات والخدمات من واقع الحاجات الحقيقية.
ولما كان تعاون المواطنين في البحث أمراً أساسياً، كانت الحملات الإعلامية من أهم الأمور التي تقع على عاتق الهيئة المركزية لاتحاد الهيئات المشتركة فيه.
ومن المهم لنجاح هذا التنسيق أن تدرك هذه الهيئة المركزية أنها ليست عبارة عن هيئة جديدة تسيطر على الهيئات القائمة بالأمر فعلاً، وأن من واجبها أن تحترم استقلال كل هيئة من الهيئات المشتركة فيها احتراماً تاماً.
وليس من اليسير معرفة الحاجات الحقيقية في البيئة، إلا إذا أدركت كل هيئة من الهيئات المشتغلة فيها طبيعة عمل الهيئات الأخرى وإمكانياتها وأهدافها الرئيسية وأغراضها الثانوية.
ولهذا كان من الضروري أن تتعارف الهيئات والمؤسسات التي تعمل في نفس الحي أو في نفس المنطقة على نحو يجعلها أكثر قابلية لادراك حاجات البيئة، وأوفر قدرة على تحقيق أهدافها.
ومن المهم أن تدرك هذه الهيئات أن تعاونها واشتراكها في هيئة مركزية لا يفقدها خاصيتها المتميزة، ولا يضيع من أثر وجودها في زحمة نشاط الجمعيات والهيئات الأخرى. وهذا ما تحرص عليه كل هيئة، بل ما يجب أن نعترف بأنه المحرك الأساسي لكافة النشاط الإنساني. فكثيراً ما يخبو النشاط الفردي إذا أدرك صاحبه أن جهوده لا يمكن أن تظهر على حدة، ولا يمكن أن تكون موضع التقدير الفردي، نظراً لأن النتيجة الجماعية هي التي تحدد التقدير الحقيقي في نهاية الأمر.
لهذا كان من المهم – ويعد هذا من أهم واجبات المشتغل في ميدان التنسيق – أن يقنع الهيئات التي يعرض عليها فكرة التعاون والاتحاد، أن لكل هيئة هدفها الخاص- رغم اتفاقها مع باقي الهيئات في الهدف العام- وأنها ستظل بعد اشتراكها في اتحاد الهيئة الجديدة محتفظة بميدانها الخاص في مجموع الخدمات. وأنه حتى إذا تطلبت المصلحة العامة أن تقتسم الهيئات المشتركة في الاتحاد مجموع الخدمات فيما بينها، فان ما تقتسمه هو نوع هذه الخدمات وليس تقسيم المحتاجين أنفسهم.
ويتحقق إدراك أفضل للحاجات عن طريق تنسيق جهود الهيئات المشتغلة في نفس الميدان، بما تتيحه للمواطنين من تسهيلات تمكنهم من تحديد الهيئة التي يجب أن يلجأ إليها مباشرة. فإذا أدركت كل هيئة اختصاصات زميلاتها أمكنها أن تحيل العميل الذي يلجأ إليها – على غير فهم منه – إلى الهيئة المختصة بمشكلته. لأنه كثيراً ما تستلزم حالة العميل أن يلجأ إلى هيئات كثيرة مختلفة الهدف، وغالباً ما يكون جاهلاً بطبيعة مشكلته، وبنوع الخدمات التي يمكن أن يلقاها من جانب هذه المؤسسة أو تلك.
فعندما يتحقق التنسيق في مجال الخدمات الاجتماعية يمكن أن يتحقق للعميل رعاية أفضل من جانب الهيئات القادرة بالفعل على معالجة مشكلته بدلا من أن يضيع وقته وجهده عبثاً، ويتعرض لعديد من البحوث الاجتماعية التي تنتهي بإعلانه بأن المؤسسة ليست مختصة بمشكلته فينصرف يائساً لا يجد من يرشده إلى بغيته.
ثانيا: تحديد أفضل للموارد المختلفة في المجتمع، والتي يمكن استغلالها في صالح المواطنين.
ويعتبر هذا من أهم الأسس والدعائم التي يقوم عليها تنسيق الخدمات الاجتماعية بين الهيئات التي تؤدي نشاطاً اجتماعياً في بيئة واحدة، وكذلك الهيئات ذات الهدف الواحد في المجتمع بأكمله.
فعن طريق تنسيق الجهود وتوحيد الخطط إزاء المشاكل الاجتماعية القائمة في محيط نشاطهم، يمكنهم أن يضغطوا مصروفاتهم مع زيادة مواردهم إلى أقصى حد. هذا من جانب، ومن جانب آخر يمكن لهذه الهيئات عن طريق الحملات المنظمة لجمع المال أن تزيد من مواردها زيادة كبيرة، لم يكن من اليسير توافرها لو تشتت الجهود ووسائل الدعاية في سبيل جمع التبرعات، التي تعد بحق الركن الأول من أركان ميزانية المؤسسات الاجتماعية، وبهذا تتمكن من رفع مستوى الخدمات.
هذه هي النقط الأساسية التي تميز كلا من التنظيم والتنسيق والتخطيط – ومنها نتبين أن التنسيق عملية سابقة لكل من التخطيط والتنظيم في الإطار الاجتماعي وإن كان البعض يدمج التنسيق في التنظيم ويطلق عليه اصطلاحاً واحداً هو التنظيم (Organization) باعتبار أن التنظيم يقوم ضمنا على تنسيق الجهود وهذا هو الاتجاه السائد في المجتمع الأمريكي حيث تستخدم عبارة “تنظيم المجتمع” (Community Organization) بمعناها الشامل الذي يتضمن التنظيم والتنسيق في نفس الوقت. ويميل الفرنسيون إلى التحديد في استخدام اصطلاح “التنظيم” و “التنسيق” فيطلقون على الأولى لفظ (Organisation) أما التنسيق فيطلقون عليه اصطلاح (Coordination des Oeuvres ) وفي المجتمع العربي كثيراً ما يستخدم اصطلاح “التنسيق” بمعنى “التنظيم” وأحياناَ أخرى بمعناه المحدود الذي تعارفنا عليه.
ولهذا وجدنا من المفيد أن نحدد تحديداً واضحاً مدلول كل من هذه المصطلحات الثلاثة، ليكون استخدامها قائماً على فهم علمي، ونتدارك الخلط في مفهوم كل منها. ولا شك أن هذا التحديد يعد خطوة ضرورية في سبيل تحديد أركان فن “تنسيق الخدمات الاجتماعية” والمساهمة في النهوض بدراسته إلى المستوى الذي يتناسب مع تقدم العلوم والفنون.
منقوووووووووول